في وقت مبكر من صباح كل يوم ، و بعد أن يكون قد انهى فطوره على عجل ، كان لا بد أنْ يتهيّأ كي يلتحق بدوامه الرسمي . فيلجأ أولاً إلى المرآة ليمارس حلاقة وجهه ، ثم يَمْثُل أمام شماعة الملابس . و يعود أدراجه إلى المرآة ، كي يرسم بإتقان تلك القسمات البديلة ، كما لو كان يحدث ذلك و هو بفؤاد معافى .
و كما هو متبع ، زاول ما يقتضي مزاولته ، متخلياً عن سيادة الملامح المألوفة في البيت ؛ إذ لا جدوى يرجوها من قسماته البيتية الصارمة ، ألتي يحرص : أن لا ترافقه إلى مكتبه ، حيث هناك يتوجب عليه ممارسة كل شيء ، على نمط مغاير و مُسَيّر ، هي وقفٌ لقيم شاءت أن يَتجَلْبَب بها تماماً كما لو كانت بذلةَ عمل ، حالما يرتديها هناك ، يكون على جاهزية مُقْتَرَنة بقيم لها قوة مُلْزمة ، و لها محددات سلوكية ، ينبغي أن تراعى .
كان هذا ما يشغلُهُ عندما يتناول ملابسه الرسمية قطعة قطعة ، من القميص إلى ربطة العنق إلى الحذاء ، إلى العناية بتصفيف شعره . إلى تكرار رَشّاتٍ من الكولونيا . إلى رشّاتِ عطر تحت الإبط .
و عبر قسماته التي هيأها ، لكي يتكيّف مع عالم آخر .
تأمل نفسه أمام المرآة ، من الشمال ، من اليمين . من الخلف . ها هو ذا رجل آخر تماماً . أو هكذا ينبغي أن يكون .
إذن .. كل شيء قد تَوَفَرَ، كي يقتنع بما تجلّى من تكامل لشخصيته التي يغادر بها البيت : بعينين تنُمّان عن طاعة تتحاشى أن توشي على أنها مُسيّرة .
يرسم ابتسامة يفترِض أنها غير زائفة . و يُهيئ ذهناً متوثباً ، لالتقاط الأوامر العليا .
هكذا .. تَهَيَّأ تماماً . حتى غادر البيت ، منخرطاً ضمن مسيرة تحثُّ خطاها إلى العمل و تختلط في هَرْولة جماعية منقادة بآلة خفية .
يتدافع في خضم هذا الحشد ، آخذا بقياده ، إحساسٌ أضفاه عليه الحذر من ضياع الوقت .
وعلى الرصيف ، انحشر بين الأجساد الوجلة المنتظرة . هو أيضاً فريسة لهذا الوجل . هرول معهم خلف العربات . ألأنشط منهم ، حصل على فرصة ليستقل العربة . عاد ينتظر من جديدً . حاذى امرأة في الخمسين ،تتأفف و تلعن . واضح أن وقتها يُسرق . هو متيقن : أن الكل يُسرق وقتهم .
ما أن تهيّأ له أن يمسك بعتبة الحافلة ، حتى اندفع وسط كتلة متراصة . مقذوفاً إلى الداخل . كانت ربطته قد انحرفت على نحو مضحك . و رداؤه متهدّلة.
دَحْرَجَهُ الوقت ، ليجد نفسه واقفاً أمام سجَّل الحضور . التزاماً بمتطلبات الكياسة ، حاله حال أي موظف آخر : كان عليه أن يُظهر اعتداده بنفسه . و إذ انصرف ليرتخي على مقعده ، تناول نفساً عميقاً مع تأففٍ، ثم تناول مرآة يخفيها في مكتبه. و بنظرة عاجلة ، متحاشياً أن ترصده عين ، سرق الوقْت المناسب ليتفحص قيافته و يهذب من وضع ربطته ، و وجهه الرسمي .
وجهٌ اعتاد أن يُنَفِّذ ما يوكل إليه . لا يمكن أن يماشي ظروفه بوجهه التقليدي . و بقناعة أسْفَنَها في مخّه .. أن ينبغي عليه استعارته لوجوهٍ حسب اقتضاء الحال :
وجهٌ لكي يَمْثُل فيه أمام المدير . وجه لأصحاب الأعمال . وجه لموظفةٍ تحظى بثقة المدير هي أفعى بالضبط ، لا تؤتمن على كلمة . وجه لعامل خدمات الديوان . وجه للمراجعين العاديين .
مختصر مفيد : ينبغي أن يتكيّف مثل الحرباء ، و حسب ما تقتضيه الحال . نهار بكامله ، يخلع وجهاً و يرتدي وجهاً .
* * *
منذ أن تربع على مقعده ، ظلت تنحسر أفكاره التي تداولها في البيت و في الطريق ، حول العثور على وسيلةٍ يتحرر فيها من هيمنةِ ما يوكل إليه من أوامر ، هو وَجِلٌ من عواقبها ، أو على الأقل هو غير مقتنع بممارسته لها.
مضى مكباً على إنجاز بعض الواجبات الإدارية المعطلة من اليوم الماضي .لكنه فوجئ بمجيء الموظفة (الأفعى ) هكذا سمّوها أمثاله . أومأت إليه : أن يقفز فوراً إلى صالة المدير .
- هِمممممممممممْ ... بدأ المسلسل و الخرابيط -
و حسب لغة العمل أدرك : أنه مدعو لمهمة جديدة ، لا يدري ما وراء أكمتها .
تَوَسَّلَ الموظفة أن تُعْلمه عن فحوى استدعائه ، زمّت شفتها السفلى فوق العليا . و غاصت عنقها بين كتفيها . و في حركة مسرحية ، بسطت كفيها كي توحي أنها لا تعرف شيئا .
قفز و هو يَهذّبَ مظهره و ابتسم للبواب .غاب البواب قليلاً في الإيوان ، و أطلّ ليؤشر له برأسه أن يدخل .
مَثَلَ هناك و أدّى التحية . لاحظ هناك رجلاً بمحاذاة المدير ، يئن المقعد من تحت مؤخرته . إنه أحد رجال الأعمال .هذا ما ينبئه به مظهره .
ألقى المدير أمامه بملف أوراق ، و أمره أن ينجزها على عجل . لكنه ، ما أن استدار و بلغ عتبة الباب ، حتى سمع نداء المدير .
عاد إليه ، فنبهه لما يلي :
ـ هذا الملف تنجزه دون أن يغادر عينيك . لا تتركه بين يدي أحد . صار واضحاً ؟
فأجابه :
ـ تأمر أُستاذ .
موسى غافل
يتبع
Post A Comment: