فَشَتْ ظاهرة الشِّحاذة في بلادٍ كثيرة، وأقطارٍ عديدة، منها بلادي التي زادت فيها الظاهرة للغاية خاصة بعد عصف موجات من الغلاء، وتلاعب الخبثاء بالأسعار.
وحكايتنا تحاول تقديم رؤية قصصية تُنفِّر من المَسألة والشِّحاذة والتسوُّل، وترغِّب في الكسب والسعي والعمل.
وسنرى خلال الأحداث أيهما أسعد للنفس: التسوُّل مع وفير المال، أم السعي وستر الحال.
وإلى أحداث القصة..
كان "صابر" و"ماهر" عاملي نظافة بـ "هيئة النظافة والتجميل"، عُيِّنا معاً، وقضيا مدة خدمتهما بالهيئة متصاحبَيْن، ثم جاءت إحالتهما إلى المعاش وخروجهما من العمل في آنٍ، ذلك أنهما كانا نِدّيْن من سِنٍّ واحدة.
وَاصَل "صابر" حياته الماضية في العمل بحياة أخرى جديدة سعيدة بدأها بعد إحالته إلى المعاش.
واستهل "ماهر" أيضاً بعد تقاعده حياة أخرى جديدة لكنها لم تكن قشيبة بل كانت حياة بئيسة كئيبة، نَكَتَتْ وجهَه بنِكاتٍ سُود، وأنهت حياته على غير ما يرجو ويتمنى.
لقطاتٌ من حياة "صابر" و"ماهر" في ظل عملهما بـ "هيئة النظافة والتجميل" قبل التقاعد:
صابر: صباح الخير يا ماهرُ.. كيف أنت والأسرة والوَلَد؟
ماهر: صباح النور يا صابرُ.. الحمد لله هو الملاذ المُعتَمَد.
صابر: هيا بنا إلى العمل لنخفف عنا كبيرَ الألم.
ماهر: ما تقول يا رجل أهناك عملٌ يبدد الألم؟
صابر: نعم يا صاحبي نعم.. فعند الشدائد والكُرَب.. يطيب الجهد ويلذُّ التَّعَب.
ماهر: عجيب شأنك يا صابر.. فلا تزال تمزج عملاً بأمل!
صابر: حياتنا بل حياة كل البشر هي عملٌ وراحةٌ ونَصَب.
ماهر: وهل راتبنا وأجر العمل يكفي لعَائِلٍ أو أرمل؟
صابر: احْمَد اللهَ فإننا أحسنُ حالاً من غيرنا والبركةُ خيرٌ وأبقى لنا.
وفي ساعة الراحة مع منتصف الظهيرة، كان الزميلان يتناولان شظف طعامهما، وبارد شرابهما، بِرضاً من "صابر"، وتسخُّط من "ماهر".
وبعد أن يصلي الزميلان الظُّهر كانَا يَخلُدان إلى قيلولةٍ ودَعَة، ثم ينهضان سريعاً لاستئناف العمل مجدداً..
صابر: هيَّا قم يا رجل.. كفى نُعاساً ما فاز قطُّ النُّوَّم.
ماهر (متثائباً): ما أعجلك يا صاحبي.. والنوم اليومَ كالعسل!
صابر: قُم فأمَامَنا لا يزال شارعٌ طويلٌ سنقمُّه من أوله إلى آخره.
ماهر: انَصَرَفَ المُشْرفُ لأمرٍ عَارِضٍ.. فدَعْكَ اليوم من حارةٍ ومن شارع.
صابر: لسنا عامِلَيْنِ لدى المُشرفِ.. فمن ورائه ربٌ عليم يُجازينا ويحاسب.
ماهر (خَجِلاً): ما قصدتُ.. حقاً لم أقصد.. قد أردتُ اليومَ بعضَ التخفُّف.
صابر: تكفينا راحةُ نصف الدوام ففيها اللذة وفيها السرور.
ماهر: هيَّا إذن للعمل نسعى ونستبق.. فأنا اليوم قد أسبقك.
صابر (مُتفكراً): تُرى ما تعني النظافة يا ماهر؟
ماهر: كَنْسٌ وقَمٌّ.. ومَسْحٌ ورَشٌّ.
صابر: صدقت.. فهل خَبَرْتَ ذلك في قلبك؟
ماهر: وكيف يكون بقلبي كَنْسٌ وقَمٌّ.. ومَسْحٌ ورَشٌّ؟
صابر: كنسُ الشَّريكِ وقَمّ الدَّرَن.. ورِيُّ القَناعةِ ومَسْحُ الحَسَد.
وبعد إحالة "صابر" و"ماهر" إلى المعاش:
ماهر: قُل لي بربك أين البركةُ من راتبٍ بعد غلاءٍ وتقاعد؟
صابر: البركة خير يلفُّ الحياة ويَزينها.. بها يقنع المرءُ ويسعد.
ماهر: وأين البركةُ مع غالي دواءٍ ومسكنٍ وملبسٍ ومطعم؟
صابر: هي في حنايا ذلك كلِّه لو أنك تُبصرُ أو تتأمَّل.
صابر: ما رأيك أن نعملَ معاً من جديدٍ ونسعد؟
ماهر: قد كَبِرْنَا ولم يَعُد السعي لمثليْنا مُجدياً.
صابر: بل لوافر صحةٍ لا بد من حركةٍ وسعيٍ وعمل.
ماهر: أفكِّرُ أن أرتدي مُهلهلَ ثوبٍ وملبَس.. وبمسجدٍ أو مَوْقِفٍ أطوف ثَمَّ وأجلس.
صابر: ويحك يا رجل.. أبَعْدَ الجِّد والعمل تستجدي المارّة وتسأل؟!
ماهر: قد بلغتُ من العمر أرذلَه.. ولا حِيلةَ لي ولا مَقْدرَة.
صابر: أما أنا فسأمكث حول جامعٍ لوضوءٍ وصلاةٍ وتَعبُّد.
ثُمَّ أبيع ما أسْطِيع من تُرْمُسٍ أو حِمّصٍ وأشوي حيناً ذُرَة.
ماهر: ما عساه أن يجدي تُرْمُسٍ أو شي ذُرَةٍ وكم ستجني كل يوم وتربح؟
صابر: هو التوكل والسعي والأمل وعند الله واسع الفضل ووافر النِّعَم.
ماهر: أنا قاعدٌ بسُوق أو سياجِ مسجدٍ.. مَادّاً للناس بالمنديلِ يدي.
صابر: لا لا يا صاحبي حذارِ من تكفُّف الناس والمسألة!
ماهر: لن أستجدي أو أسأل.. هي المناديل تشِي عني وتُخبر.
صابر: المنديل سواءٌ ومدُّ اليدِ.. فلا تراوغ وتجادل أو تتهرب!
عبثاً حاول "صابر" أن يقنع "ماهر" بصرف وجهته عن الاستجداء والتسوُّل والتظاهر بالمسكنة.
وبعد نحو عامين من عمل "صابر" وشحاذة "ماهر"، ذهب "ماهر" لزيارة "صابر" في مكان عمله:
ماهر: سلام عليكم خليلي كيف أنتم؟
صابر: وعليكم سلام الله تفضل ههنا.
صابر: هل لك في ساخنِ الذُّرَةِ أو لذيذِ التُرمُس؟
ماهر: ما لهذا جئتكَ إنما أدعوك لمثل ما صنعتُ فتربح.
صابر: معاذَ اللهِ أن أسألَ من الناس أحداً أو أمدَّ يدي.
ماهر: دع عنك هذا واسمعنْ إني ادَّخرت ما يَنِدُّ عن العدد.
صابر: حسبي أني كفاني الله من فضله سؤالَ الناس والتذلِّل.
ماهر: أدعوك لكسبٍ هو أربح.. وعملٍ سهلٍ لا شيئاً يُكلِّفُ.
صابر: فراقٌ بيني وبينك إن هَمَسْتَ بفكرتك أو عُدتَ تُقْنِع!
وبعد عدة سنوات..
يمرض "ماهر" مرضاً شديداً، ويعوده "صابر" في المستشفى، وقد اكتسى وجه "ماهر" بصُفرة الموت، ورهق النهاية، وشحوب الهلاك:
صابر: سَلِمْتَ صديقي من واهية ونهضتَ قريباً بالعافية.
ماهر: أغثني صابرُ من داهيةٍ ألمّت بي ما لها من واهية.
صابر: صبراً ماهرُ ولا تَجْزَعنْ ولشافٍ قَديرٍ ألا فَافْزَعَنْ.
صابر: كم مريضٍ قام مُعافى من علَّته ورُبَّ ذنوبٍ محاها المرض.
ماهر: انقضى عُمري وانتهى الأجل فيا ويلتي من سؤالٍ وتسوُّل.
صابر: صهٍ ماهرُ ولا تيأسنْ فعند الله عظيم المِننْ.
ماهر: لئن قمتُ يا صابرُ من وَعْكَتي لأخدُمَنَّ بيتَ اللهِ والمسجد.
ولأكفرنَّ حقاً عن فَعْلتي فهلِ اللهُ مجيبٌ لي بُغيتي؟
صابر: الله أرحم دوماً بنا وعند الله الصفح والمغفرة.
ماهر (مُحْتَضَراً مخاطباً ربه وهو يلْفِظ أنفاسه الأخيرة):
أشهد أن بيدك الهُدى ومِنك الحياةُ وأنت الرجا.
وأن محمداً هو عبدُك صاحبُ الحوض المرتجى.
تَبّاً لمالٍ قد نِلْتُه بِمَدِّ يدي وسوادِ وجهي وتكاسلي.
إلهي اقترفتُ كبيرَ الَّلمَم وعفوك ربي يمحو النِّقَم.
صابر وقد أغمض عينيْ صاحبه:
سلامٌ عليك يا ماهرُ.. وإلى جنةٍ كعرض السما
وربٍّ رحيم غفورٍ يمحو الذنوب وسوءَ العمل
Post A Comment: