أخيرا، قررت الخروج من غرفتي ، بعد إلحاح شرف علي اليأس والحزن، من الأهل والمقربين، لما وصل إليه حالي. كنت في عزلة شبه كاملة ،لا أخرج من غرفتي إلا لعمل شاي، او الذهاب للحمام،ولا أفتح بابي إلا لإستلام الغداء الذي لا اكمله غالبا حتي طالتني النحافة والهزال ، هذا غير ضباب دخان السجائر الذي لا يفارق المسافات ،والممرات الضيقة في الغرفة ،وسط نظرات الشفقة والذهول، واهات الحسرة. أغسل يدي وأعود لبابي، الذي اغلقة تقريبا في وجه العالم .أنكفئت علي ذاتي. لا أرغب في مقابلة أحد، أو الحديث مع أحد .كنت أستمع ليل نهار إلي موسيقي تشيكوفسكي وموتسارت، بصوت مرتفع هستيري . كأن الفوضي والفن قد توحدتا في صورة رفض لأي شيء، ولكل شيء.
قالت لي أمي :ألا يكفيك أنك بجانب أمك؟ وأهلك وأصحابك، من يحبونك حقا .
وكأنها فكت شريط صندوق الدنيا ، فتطايرت من قلبه صور ،و ألعاب، وذكريات. شعرت للحظات بالطفل الذي كنت ،وهو مجروح في ساقه ،بفعل حجر قذف به ولد شقي فأصابه، فظل يبكي ،وعاد إلي البيت ،وهو يبكي ،فاحتضنته أمه، وطببت جرحه، وداوته بالميكروكروم والشاش. لم يدري بنفسه إلا وهو ينتحب.
-الحق أنني بكيت،وغسلت الدموع روحي ،فكرت في الخروج للتنزه،تحركت في الغرفة، وكأني أراها لأول مرة ،هالني شحوب الجدران ،صدمني مشهد المطفاءة الممتلئة باعقاب السجائر. السجاد متسخ ،ملابسي ملقاة بإهمال علي السرير، وخلف الباب ،وفي الأركان، رائحة الغرفة خانقة. فتحت الشباك ،ووقفت انتفس هواء نقيا، كمن خرج لتوه من حبس إنفرادي ، بلا فتحة تهوية .
هذه المرة .غيرت بجد ملابسي ،وأنا أنظر بتحد إلي الباب ، خطوت نحوه ، وفتحت، ثم عبرت الصالة الكبيرة نحو باب الشقة وفتحت، هبطت درجات السلم غير مصدق ، وقد شملتني نشوة إستثنائية . أمام العمارة توقفت أستنشق ندي المساء ،واتنسم عبير الحرية الفواح كسائح، هبط لتوه مطار القاهرة .نسمه خريفية لطيفة هبت فرطبت صدري، انتعاشة مفاجئة، جعلتني اتجه تلقائيا إلي اليسار ،حيث شارع الملك الشارع المشهور، بمقاهيه، وحاناته الليلية، كنت أسير علي الرصيف بمحاذاة السيارات ، اشاهد باندهاش أضواء المحال التي بدت لي لأول مرة مبهرة بفتارينها. شعرت برغبة طارئة في إحتساء كوب شاي ساخن . دقيقة أو بضعة دقائق تفصلني عن شارع الملك ، لمحت عن بعد المقاهي، وقد وضعت الكراسي خلف بعضها البعض، بطريقة توحي بأنهم سيعرضون فيلما سينمائيا فشدني ذلك فاقتربت اكثر ،ودفعني الفضول ألا اجلس في أول مقهي تقابلني ،حتي أعرف ماذا يدور هنا بالضبط؟ لقد تغيرت مصر كثيرا ،عبرت حتي المقهي الرابع فوجدت نفس المشهد مبارة كرة قدم وشباب يرتدون تي شيرت أحمر وأخرون يرتدون أبيض، وسمعت أحدهم :يقول بصوت مرتفع :جدو مش حيلعب اليوم ،فتحسر آخر :طالما أن جدو لن يلعب ربما نخسر المباراة، ربنا يستر !!
شعرت علي الفور بالحسرة، لا، لإن جدو لن يلعب، ولكن لأن جدو قد مات منذ زمن بعيد، أما جدو الذين يتحدثون عنه، فلا أعرف عنه شيئا ،قررت ألا أجلس واتجهت صوب الكورنيش .جلست علي المصطبة في مواجهة البحر الثائر هذه المرة ،بامواجه المرتفعة العالية ،وأنا أحدث نفسي :كان بإمكاني أن اتحمل نقد صاحب العمل لي ،وتذكيره الدائم لي بأني عربي ،وأنني قدمت هنا للعمل مثل غيري من الافارقة والعرب ،ويجب ألا أطمح في أكثر من ذلك .كان بإمكانك التحمل مثل غيرك ،لقد تركتهم وهم يضحكون ويمرحون، ويدخرون الأموال، ويمارسون حياتهم بشكل عادي جدا ،كأن شيئا لم يكن .عدت من لندن ، وندمت ،،تري ،لماذا عدت بالضبط؟
Post A Comment: