المقطع الثالث

أحيانا.. لا يحالفه الحظ.. لكي يحصل على مقعد أمامي كهذا ، لذا ينصرف إلى التحديق بالرقع المكتوبة ، على خلفية المقاعد . عبارات مكتظة ..ذكرى محمد مع خاله مسلم ، ذكرى الصديقين.. طالب... و عدنان ... أسماء أخرى ذات معالم باهتة . أسماء بخط مبتدئ . قلب مقذوف بسهم ، و قطرات دمه مرعوفة ، نحو الأسفل . بعض التواريخ تسبق الحرب . مقطع من الشعر كتبه حالم . لم يتعرف آنذاك على آلام غريبة ، تغلّ عنقه .

وقبل عوقه ، تعايش مع مجند وسيم حالم . أشبه بطفل . مولع برسم قلوب مسهومة تقطر دما. يلوّن القطرات بمداد أحمر . قطرات مترادفة . من قلب مصاب بسهم .فيسأله :

ــ ما هذا؟

فيجيب الفتى :

ــ قلبي .. هات يدك .. ضعها هنا ..ها؟ ماذا هناك؟

ــ قلب ينبض.

ــ كلا .. هذا ليس كل شيء. أنه جريح بسهم . رماه الحبيب و انسل .. ألا ترى ؟

ويشير إلى الرسم.

رأى ذلك القلب فعلا. حين كان يرقد على مسافة قريبة منه . مقذوفا بفعل انفجار طوّح بهما معا . كان قلبا صغيرا ممزقا. و الأضلاع مهشمة .

الاثنان يرقدان . هو مبتور اليد والساق، ممزق . و الفتى مقطّع الأوصال . يبدو قلبه يقذف بدمه كالنافورة .

لم تترابط لديه صور مثل هذه : بأن الدماء تنفر إلى أعلى ثم تهبط .

* * *

يطوي و الصورة لم تبهت . كأن أحداثها تتوالى الآن :

هدير الحافلات الناعبة . والشاحنات ذات المطاوي الراعشة. والناقلات المتأرجحة . والجثث المنعوشة . فوق حدب السيارات المسرعة. مستلقية .. كأنّها منبهرة بسعة السماء .

دائمـــــــا.. يفضل أن يرقب انطواء الفلوت ، من فوق المقعد المتقدم .والطريق.. شريط سينمائي، ذو تقنية فنّية عالية.

كلما توغلت الحافلة جنوبا .. تنسحب السهب ، بسطحها الراجف إلى الخلف . بلحاء سبخي مسفوع . تتواضع أعالي ضفاف سواقيها لتنطمر. وتنكفئ بلمح البصر .منطوية إلى الوراء ،تلف معها ، تلك اللحظات المترادفة . ذات الأعطاف الحبلى بالمفاجآت.كأنها تقدح في عمق عتّمته الأعوام.

آنذاك.. كانت أعواما مفعمة بالفرح الطفولي. أسماك ( الخشني) التي تحتضر بين يديه و يدي أخيه . في سواقي كهذه المندرسة..في برك ضحلة المياه . يمرح مع أخيه و قطيعهما في أرض سندسية الخضرة. ذات أريج لم يزل عَبَقَه.

وفي تلك البرك ، بالغة الضيق . في قعر السواقي، المغلقة توّا . تتراءى له الأسماك الفضيّة، يافعة الزعانف . تطرطش في المياه الضحلة، تكافح لتنجو من الاختناق . يرقب هذا و كأنه ينصت لطرطشتها توًا. كان من اليسير عليه أن يمسك بها .وأن يتخابث فيدعها تلبط، تحت ضوء الشمس .. يضعها على كفّه . ينعكس ألق الضوء على أصدافها، يثير في نفسه فرحا و غبطة .

كان منشدّا بحب غامض إلى اللعب مع أسماك (الخشني) ، وأخوه يصيد و يصخب بضحكه ، ثم لا يلبث أن يقبلها بحنان..يتباريان و يصيدان عددا وافرا.صيدا سهلا.يبقران بطونها و يفرغان الأحشاء.يؤججان نارا ويشويان.

* * *

يقفز بذهنه إلى الفلوات كيف تنطوي . كيف تنسحب الطريق .الجند يقطعون المسافات وقوفا. جزء من المتعبين من وعثاء السفر ، يغطون بنوم عميق ، ليس مهما لديهم ثرثرة الواقفين و الجالسين.

يلتقط شتاتا من الأحاديث ويهرب بذهنه إلى الطريق . يطل برأسه كالآخرين .. ناقلات تمر . يبدأ العد. يقضي وقتا طويلا. يرتبك العد. مركبات منافسة تتخطى بعضها ، منازعة مع الزمن .يعود منكفئا إلى صخب الحافلة.يلتقط أحاديث عن نقلات الوحدات العسكرية ومواضيع تصب في مجرى الحرب.

يلوح له خطفا، قائد احدى الناقلات ، متضائلا في قمرتها. يحدّق باستقامة صارمة، كأنه مثبّت في مطوى القيادة و الهدير يتصاعد خلفه .


يتبع



Share To: