ذات اليوم الذي رحل فيه "محمد" يرحل من اتكأت على كتفه ذات يوم، حيث يتصادف التاريخ ذاته (الحادي عشر من ربيع 1427هـ) كان رحيل والدي، وليكن ذات التاريخ في عام 1429هـ رحيل حفيده (محمد)، فرحته الأولى.
كثيرٌ ما تعلق أبي بمحمد، ربما كان أكثر مني حيث أنه الحفيد الأول الذي كان ينتظر بعد أن شعر بحالة اليأس من الأب، فكان يجد ربما رجاحة العقل ستكون أكثر لدى الحفيد، المولود في (1406هـ).
نتعلق بأحفادنا وابائنا كثيراً، ونشعر بأن الأبناء هم الدم الذي يسري في العروق، ويجعل قلبنا ينبض بالحب، يبعث الحياة والجمال، نضحك ونمرح ونرقص، ونراقب السماء في عيونهم دون أن نعلم بأن السيدة "منية"، تراقبنا لتخطف الفرحة منا ذات يوم.
إنه القدر الذي يجعلنا نغلف الفرح بشيء من الحزن، ننظر لتلك العيون المتربصة بنا هنا وهناك، نستعيد ذاكرة الابتسامة والضحكة التي كانت بيننا ذات يوم، ولم نتخيل حينها أنها ستكون جزء من الذاكرة.
ما معني الألم، أو ماذا يعني الوجع، وكيف نستطيع الحديث عما لا نلمسه، فهوا ذاك السائل الزئبقي الذي لا يلمس وتراه أمامك يتكور في دوائر صغيرة ولا تستطيع لمسه، أنه الهواء الذي نتنفس، والرائحة التي لا نستطيع شرحها من خلال " باتريك زوسكيند"، ولا البحث عنها في أجساد النساء حينما يغلفهم بعصارة الورد والشجر.. إنه الألم.
يصادف هذه الفترة أن أقراء مع ساراماغو أنسنه "الموت"، وتحويله إلى صديق يتحدث عنه ومعه، تشعر بأنه حالة ضرورية في "انقطاعاته"، التي كتبها ذات يوم، فما الربط بين "عطر" وتلك "الانقطاعات"، غير البحث عن رائحة من يسكنوننا برائحتهم، يقيمون في المكان بغبار أرجلهم، وهمساتهم التي تترك صداها هنا وهناك.
ذاكرتهم الأخيرة، كلماتهم التي كانوا يبتسمون معنا فيها ونشاكسهم ويشاكسوننا، وكأننا سنعيش أبد الدهر ولا نفقدهم ويفقدوننا، لكنها "منية" التي تراقبنا بمنجلها، تراقب أوراقنا وحروفنا، وتؤجل اللحظة تلو الأخرى بما يحلو لها من تاريخ "تحدده"، ويحدد مدة بقائنا معهم أو بقائنا معهم.
لا يشبه وجه الرحيل سوى الخيال الجامح بأنك تفقد من تحب والأكثر وجعاً حينما يتساقط جسدهم في هاوية الألم وأنت معهم لا تستطيع سوى التحديق في وجوههم والتزود منهم قبل الرحيل.
لكنهما (بسرعة البرق)، لم يحتملوا أن يتعبونا معهم، ليتركوا الأثر باقياً في أعماقنا، وآثروا الرحيل دونما أن يتعبونا معهم في لحظة من اللحظات، وهذا ما يجعلنا نعيش بحسرة دائما، هل أوفيناهم حق البقاء والجلوس معهم بما يكفي لكي نتزود من حبهم ونشعرهم بأننا نستكمل دائرة الحياة بأنفاسهم معنا..
يرحلون وتبقى تلك الصورة التي نحتفظ بها في أجهزتنا المحمولة، أو تلك الذاكرة التي صنعتها وسائل التواصل السريع من رسائل نصية وغيرها، فنعود لها، للبحث عن كلمة حب كتبناها بكل شفافية، أو همسة جميلة جمعتنا، ولم نستثقل على ذواتنا أن نقول بأنها كانت لحظات جميلة.
أي نوع من الهوس يسكننا هذا النهار حينما نفتح صناديق الذاكرة، ونستخرج الصور ونستعرض القصائد، والعيون التي رافقتنا تلك اللحظات المسكونة بالوجع.
لذا يبقي الحادي عشر يوماً بدون سنة أو تاريخ، نحاول السيطرة على ما تبقى من الأحلام المسكونة فينا ونذهب لتحقيقها ونحن نبتسم معهم، ونحمل باقة زهورنا الربيعية ونضعها بجوارهم، فهم يقيمون معنا بأرواحهم.
Post A Comment: