تعودَ دفن آلامه  بين ثنايا الظّلامِ المطبق على كُلّ شيء في القريةِ، أصبح الليل الرمادي الموحش صديقه الأعزّ  ، يلتقيه في فتورٍ حين  يلقي بلا رحمة ، بظلالهِ فوق الحقولِ  المحتضنة  الأفق الأسود الممدد بلا نهاية ، ساعتئذٍ تزداد المخاوف في القلوبِ ، وتنعكس  أشباحه الموغلة في الرهبةِ  ، لتخيم على مياهِ الترعة المتدفقة ، فتزيد من سحرها وتضاعف جنونها  ، عاش في هذه الأجواءِ عُمرا، منذ أن عمل خفيرا نظاميا  ، تسلّم المهمة بعد والدهِ الذي صرعه طلق ناري ، قال الناس ساعتها إن أبناء المنّصر تربصوا له ، عالجوه بطلقٍ بعد أن أتعبهم ، جاهدَ كي يثبت جدارته في هذهِ الوظيفة ، تمنى أن يسير سير والده الرّاحل الذي كان آية في الشّجاعةِ ، أخيرا تغلّب على دموعِ أمه ومخاوفها  ، فالمرأة  تخشى  أن يلحق ابنها الوحيد الذي ترجوه  من الدنيا  بأبيهِ ، دفعه الخوف لأن يجوث خلال الديارِ في حَذرٍ  وحيطة ، يحمل بندقيته الهندي الطويلة وراءَ ظهرهِ في تحفزٍ  ، يجرّ مركوبه الميري الثّقيل كثعلبٍ عجوز ، متدثرا البالطو الأخضر الصّوفي الكالح ، يُرسل صيحاته العالية   ،  ويقذف نحنحته المفتعلة بلا انقطاعٍ  ، فترتد بردا وسلاما على نفسهِ الوجلة ، التي لا تفتأ تُذكِّره أنّه سيد الليل ، وحامي الحمى الذي  لا يهنأ الناس بالأمن ، إلا في كنفهِ،  في هاتهِ الساعة يزداد عطشه ، وتخالط أنفاسه هواجس الوجاهة .
يعود فيداعب نفسه الخيال الباهت ، يتلألأ ظاهرا في العيونِ التي ترمقه في إكبارٍ  أينما سار ، فتتبدى أمامه قصور الأماني شاهقة لا حدّ  لها ، لكنّه سرعان ما يعود أسيفا ،  يفيق وقد اهتاجت عواطفه ، لشدّ ما أزعجه وهو يرى نفسه وقد تقدم سنه ، لقد فارق شرخ الشّباب ، وانزوت عنه شمس الوظيفة ، فبعد أيامٍ قليلة سيُحال إلى التقاعدِ ، وتنطفئ عنه بهرجة أنوارها ، يجلس على مصطبتهِ العتيقة ساعة الأصيل ، غارقا في تأملهِ ، يسترجع ما مضى من سنينِ عمرهِ، يُودّعها في حسرةٍ لا تنتهي ومأتم لا ينفض  ، وقد اكفهر وجهه واظلمت عيناه ، ينظر إلى مستقبلهِ نظرة لا حياة فيها ، وكأنّه يتسمّع إليه ، وهو في غيبوبةٍ الدهشة والذهول ، يرتسم الرّعب في ملامحهِ الجافة ، يسير بين الدّروبِ والأزقةِ في تخاذلٍ  وتضعضع، فتبدو أطلالها شاخصة ،  يسير  وكأنّه في مشيتهِ الكسيفة ، يودِّع تلك الرّبوع التي شهدت أيام مجده ، ومواطن سطوته.
حاولت زوجته ، أن تزيح عن صدرهِ هذه الحزازة ، عسى أن تصون روحه من التّلفِ ، غالبت دمعة رقراقة ملأت   مقلتيها ، وهي تمدّ له كوب الشّاي بعد العشاءِ ، رمقها بنظرةٍ ساهمة يكاد شغاف قلبه يتمزق  لها ، قال  بصوتٍ أجشٍّ مجهد : خلاص راحت عليا، اتركنت على الرف.
وبعد مدةٍ  ليست باليسيرة، تسلّم خطابا رسميا  يُفيد تقاعده ، وعليهِ أن يتوجّه إلى دوارِ العمدة ، ليسلِّم عهدته الميري ، امسكَ الورقة بيدٍ مرتعشة ، والأحزان تتشابك في نفسهِ، تدبّ دبيب الضّباب الرّقيق في الأفقِ الصّافي ، تحسّس البندقية في وجلٍ ، ثم مالَ على ملابسهِ القديمة يشمّها في نهمٍ تنفطر لمرآه القلوب ،  وأخيرا شهق شهقة مفرطة ، يتكدّر معها صفو كُلّ نعيم .
لازم البيت شهرا لا يبرحه ،وبعد هنيةٍ وجد مسلاته ، حين سلك طريقه إلى المسجدِ ، واظب على صلواتِ الجماعة وانتظم فيها ، وبعد مدةٍ صحت القريةِ على شظايا صوتهِ الخشن، تتطاير مخترقة فضاء الليل المظلم ، تتوغل في سكونهِ مُؤذِّنا لصلاةِ الفجرِ  ، عادت لقلبِ صاحبنا أشجان ماضيه تدغدغه في رفقٍ ، استعاد شهيته ولمعَ في قلبهِ بريق أضاء جوانبه ..



Share To: