مرت الأيام والشهور والأعوام،والحياة قطار حديدي يجر العربات،ويدوس كل من يعترض مساره،يتراخى فقط في بعض المحطات لينزل أو يصعد البعض،القطار لا يهتم بابتسامة ولا بدمعة أحد ، لا شعور له،هو مبرمج ،وعندما يتوقف قطار الحياة ينتهي كل شيئ.
لقد تغيرت أشياء كثيرة في حياة مريم وزوجها ولاله عائشة، رزقت مريم بولد وبنت ،الولد سمي بلقاسم والبنت سميت زينب ،ملأ كل من بلقاسم وزينب حياة الأسرة ابتسامة وحبورا ،الكل يحبهم وخاصة لاله عائشة لا تفارقهم إلا وقت الدراسة، بلقاسم في السنة الرابعة ابتدائي ،أما زينب فهي في السنة الأولى،أصبحت لاله عائشة جدة ،وهي مسرورة لهذا الدور لدرجة أنها تقوم بكل عمل يخص بلقاسم أو زينب ! ولا تترك لمريم إلا القليل ، أحبتهما كثيرا ربما لأنها عاشت طفولة محرومة وبائسة لفقر الأسرة ولكون الوالدين غادرا هذه الدنيا ، لقد ربتها عمتها، لذلك فحرمانها هي عوضته حبا للطفلين، ورغم انها لا تعرف القراءة والكتابة مثل كل نساء القرية، فالتعليم كان ممنوعا على البنات ،ومع ذلك كلما تدخل زينب من المدرسة، تبادرها ماذا قرأت ،تعالي اقرئي وأنا أسمع: (باب،بوبي ،ب،با، بو،بي، بوبي بالباب، نورة تحلب البقرة ) أحسنت ما شاء الله ،ربي يبارك في بنيتي . استقرت مريم وطابت نفسها خاصة منذ ولادة الطفلين، إنهما وتدان غرسا في قلبها وفي الأرض ،سعادتها فيهما معلقة بهما،معتنية بهما رغم أن الجدة تنافسها ،لاله عائشة زاد عليها مرض السكر والضغط لكن إذا تعلق الأمر بأولاد ابنها مراد فهي يقظة ونشيطة ،زاد حبها لمريم وعظمت في عينيها ،لأخلاق مريم واهتمامها ببيتها وزوجها.
يحلو لمراد في كثير من الأحيان أن يتخذ مجلسا تحت شجرة اللوز المغروسة في المراح يسند ظهره ويرمي بكل ثقله وتعبه إلى جذع الشجرة التي أحبته هي الأخرى،مازال في عادته مع فنجان القهوة يرتشفه على مهل،قطرة،قطرة،يبدو اليوم صامتا ،لكنه منشغل بلقمة العيش وقد صعبت الحياة، وقلت الأمطار، وهي غير منتظمة، وأحيانا تأتي في شكل فيضانات وسيول ،يخاف منها أهل القرية،بدأ بعض السكان يغادرون القرية قاصدين المدن وخاصة العاصمة، ويجد مراد مبررا لهم،فلا طريق معبدة،في الصيف يشبعون أتربة وغبارا ،وفي الشتاء تتحول إلى غرقة وطين يلصق ويعيق الحركة ،إنه غراء، وحتى عين الماء الوحيدة في القرية بدأ يقل ماؤها ويتزاحم عليها السكان،وكل واحد ينتظر دوره،والبعض غادر القرية من أجل مواصلة الدراسة للأبناء،فالقرية بها ابتدائيه وحيدة بنيت في بداية الاستقلال،والأرض أصبحت شحيحة ،نتيجة وجودها بين الجبال والأحجار الكثيرة وأرضها غير خصبة ،فكم مرة ترك مراد سنابل القمح ،بدون حصاد وتركها للغنم تأكلها ،يبست قبل أن تنضج وذهب جهده هباء منثورا.
لقد أصبحت الهجرة للعاصمة موجة وكأنها موضة أو تقليعة شعر قلد الناس بعضهم ، والغريب هناك من ترك أراضي خصبة وصالحة للزراعة، يطمعون في العمل في المدينة،لكن تجولوا حتى تعبوا ولجأوا للتجارة على الأرصفة والشرطة تطاردهم .
مراد شغوف بتتبع الأخبار في الراديو ( التيساف ) كما يقول أهل القرية،هذه الأيام أشياء هامة تقال حول الثورة الزراعية، ربما لمنع الهجرة والنزوح الريفي، وبومدين يوزع مفاتيح السكن لقرى الثورة الزراعية،وعقود الملكية للمزارع المسيرة ذاتيا، وأخيرا حرب الولايات المتحدة الأمريكية على فيتنام، وحينما يكون الحديث على بومدين أو فيتنام ينادي مراد زوجته مريم لتسمع، بومدين رغم صرامته يضحك مع الفلاحين ويتحادث معهم،مريم اسمعي بومدين يسأل فلاحا هل ينقصكم شيئا فقال : فيتنام ياسيدي الرئيس، بومدين يضحك ويقول: اهتم أنت بالفلاحة واترك لنا فيتنام هههههه ،ويقطع مراد ضحكه بخبر المذيع المفزع شن طائرة :B 52 الأمريكية غارة على قرية فيتنامية فتقتل أطفالا ونساء وعجزة يغضب مراد ويزمجر،آه إنها الحڨرة ،الكبير يأكل الصغير ظلما وعدوانا، زعيمنا بومدين وكل الشعب يساندهم،لكن الله غالب عندهم القوة.
في تلك الفترة كانت الجزائر ورئيسها مشهورة بمساندة الشعوب المظلومة وكانت كعبة الثوار وانطلاق بلدان عدم الانحياز،وكان بومدين زعيما ،مثله مثل،: جمال عبد الناصر ، وتيتو، وفيدال كاسترو.
في أيام الصيف قربت العطلة المدرسية ،وكانت مريم تفكر في مكافأة ولدها بلقاسم إن أحرز على نتائج حسنة،وتمر الامتحانات ويحرز بلقاسم على المرتبة الثانية، ويختم ثلاثة أحزاب من القرآن، سيكون إن شاء الله مثل الحاج بلڨاسم،استشارت مريم زوجها ولاله عائشه،في تحضير وليمة من أجل نجاح ابنها، فتحمس الجميع للأمر، وحلفت لاله عائشة،بأن ثمن اللحم سيكون من جيبها هي ولا داعي لذبح ذلك الفروج ( الديك ) المسكين، دعه يكبر ويسمان.
قدمت دعوة للجيران ،ولأم مريم واجتمعوا معا لتناول أكل الوليمة ،وقدمت التهاني والهدايا لبلقاسم ولأمه،ووضحت الحناء في كف بلقاسم واختتم الحفل بالنقر على البندير وبالصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وافترق الجميع شاكرين الدعوة،وقامت مريم بمساعدة لاله عائشة،بغسل الصحون وترتيب البيت، وآوى كل واحد لفراشه بعد يوم مفرح ومتعب لكنه لذيذ واستسلم الجميع للنوم،
في انتظار غد جديد ، وتحرك قطار الحياة الحديدي لإكمال رحلته المبرمجة.
Post A Comment: