على غير عادته وخلاف طبعه، دخل المعلم "حسين" فصله مُتعباً مُصدَّعاً، وكان من دأبه ألا يقعد أثناء الحصة، لكنه قعد هذه المرة على الكرسي، وذلك بعد أن ألقى على تلاميذه التحية والسلام واقفاً.
المعلم: عفواً أبنائي وبناتي، سأمضي هذه الحصة معكم قاعداً؛ ذلك لأني مرهق لا سيما أنها الحصة الأخيرة في جدول اليوم.
شادي: سلامتك أستاذنا، شفاك الله وعافاك.
نادي: سلمت معلمنا من كل مكروه وسوء.
نورا: حفظك الله لنا ورعاك.. ترى ما أصابك أستاذنا.. ما دهاك؟
المعلم: الحمد لله، صداع يبدو أنه ناجم عن تعرُّضي اليوم لثرثرة كثيرة.
شادي: ماذا تقصد أستاذنا بالثرثرة؟
نادي: ربما يعني أستاذنا بها كثرة الكلام.
نورا: نعم، الثرثرة كثرة الكلام من دون فائدة.
المعلم: سلمتم جميعاً. الثرثرة هي فضول الكلام والإكثار منه بالهذر والتخليط واللغو واللغط، مع ترديده بسرعة دون طائل.
حَسَنٌ حَسَنٌ.. أخبروني ما رأيكم أن يكون درسنا اليوم عن الثرثرة؟
شادي: فيما مضى كانت لنا جارة معروفة بالثرثرة، وكانت حينما تلتقي أمي لا تكتفي بالسلام إشارةً، ولا تجتزئ بالسلام السريع مصافحةً باليد، حتى تُوقف أمي وتقص عليها ما جرى معها ربما قبل ثلاثة أيام مضت.
فإن كنا ذاهبيْن لأمرٍ ما في موعدنا تأخرنا ثم اعتذرنا، وإن كنا متأخريْن عن موعدنا طال تأخيرنا وزاد معه اعتذارنا وأسفنا! والحق أننا بعد ذلك كنا نتوارى منها إن كنا في عجلةٍ من أمرنا.
نادي: أذكر أنني حين كنت صغيراً كان أبي يصحبني إلى صالون الحلاقة، فيذهب إلى صالون بعيد عنا، في حين كان هناك صالون حلاقة قريب منا، فكنت أسأله: لماذا نذهب إلى الصالون البعيد ونترك القريب يا أبي؟
فقال لي: بُني العزيز، الوقت من ذهب، بل هو جزء من عمرك وحياتك، ونحن نذهب إلى من يستغل الوقت في قضاء حوائجنا سريعاً فيعمل كثيراً ويتكلم قليلاً، وغيره مع الأسف يعمل قليلاً ويتحدث كثيراً.
نورا: أما أنا فقد نصحني والداي بأن أذاكر دروسي بمفردي؛ فإنه أدعى للتركيز الأكثر، والتحصيل الأنفع، وإفادة من الوقت أكبر.
وكنت أستمع لكلامهما دون أن أقف على حقيقة مرادهما، حتى ذهبتُ مرة لأذاكر مع صويحبات لي في بيت إحداهن، وكان من بين الحاضرات زميلة تتكلم أكثر مما تتنفس!
لا تترك شيئاً من دون تعليق، ولا تدع سؤالاً، حتى لو كان موجهاً لغيرها،من دون إجابة، تظن نفسها تفهم كل شيء، وتعرف كل شيء، تتحدث سريعاً وتتكلم كثيراً كأنها في سباق جائزته مرصودة للأكثر ألفاظاً، والأسرع حديثاً!
عُدتُ من المذاكرة في هذه الليلة إلى بيتي ولم أُحصِّل شيئاً ذا بال، بل رجعت أشكو ألماً بالرأس، وإرهاقاً بالجسد، وندماً على ضياع الوقت، ولكني أدركتُ مغزى نصيحة أبي وأمي؛ إذ إن كثرة العدد في المذاكرة ربما تضر أكثر مما تنفع.
المعلم: اليوم لم تتركوا لي شيئاً أقوله إلا ما يحضرني من حديثٍ نبوي شريفٍ، عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(إن مِن أحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً. وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارُون والمتشدقون والمتفيهقون" قالوا: يا رسول الله قد علمنا (الثرثارُون والمتُشدقون) فما المُتفيهقُون؟ قال: (المتكبرون).رواه الترمذي وقال: حديث حسنٌ.
الجميع: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.



Share To: