لم تكن حروبا اضعاف العراق جديدة، فلطالما تحدث التاريخ عن جهود (داخلية وخارجية) موجهة لاضعافه، وتقزيم دوره، واخراجه من دائرة التأثير، وقد كان قدر تميز هذا البلد وأوحديته (في أكثر من جانب) سبباً، لحسد أصفر، وحقد اسود، وغيرة عمياء، ودسائس لئيمة، وأيدلوجيات كارهة، تضافرت على الاضرار بارضه وشعباه ووجوده، وحتى في الصور التي لم تكن فيها تلك الحملات الموجهة مؤثرة بشكل فعال، فقد سعى المعظم الى ابعاد العراق عن كل ذكر حسن، وخبر مميز، حتى صاروا يتناسون العراق وهم يتحدثون عن النخيل والماء والمقدسات.
ومع ان حرب الاضعاف غارقة في القدم إلا ان مسلسلاً رهيباً للاضعاف يشهده البلد منذ عقد ونصف بشكل منظم، تتبادل فيه اطرافه الادوار والفعليات، ومعظم هذه الاطراف داخلية بمؤازة خارجية، وتتلخص هذه الحرب في الصور الآتية:
1/ الأقليم - المركز: جرت الوقائع على ان يكون شكل الدولة الجديدة مركباً من اقليمين، الاول اقليم كردستان بمحافظاته الثلاثة، والثاني ما بقي من العراق والمتمثل ب (15) محافظة، وهكذا كان المتبقي من العراق بمثابة المركز للاقليم، ومع كل ما يدعى ويحكى، فإن مسار العلاقة العملية بين الاقليم والمركز قائمة على رغبة الاقليم في ضعف المركز، إذ يوجد اعتقاد راسخ لدى الاقليم بأن استقرار اوضاع المركز في ظل حكومة قوية واوضاع امنية واقتصادية وسياسية جيدة يعني (بحسبهم) ضغوطاً اصعب في المواجهة للحصول على الامتيازات والمطالبات، كما ان هذه الصورة تجعل الاقليم في الموقف الضعيف، وجوهر القصة، ان الاقليم (يرى في نفسه، ويقدم ذاته الى الخارج) على انه كيان منفصل وليس جزءاً من الدولة العراقية، الامر الذي يجعل رغبته في الاضعاف واضحة التفسير، فهو في موضع التنافس مع المركز وليس في صورة التكامل، ومع ادارك هذه الحقيقة، يتضح جلياً مسار العلاقة المتوقع في كل ملف بين الاقليم والمركز.
2/ المسؤول- المؤسسات: انتج نظام المحاصصة الذي يمثل اطار الحكم في البلاد خلال الفترة المنصرمة حالة خطرة، لم يتم التركيز عليها بشكل دقيق من قبل الدارسين لاوضاع العراق والمهتمين بشأنه، وتتمثل هذه الحالة في رغبة منظمة لكل مسؤول يأتي عبر المحاصصة مهما كانت درجته الوظيفية، بأضعاف مؤسسته، وتقزيم كل المعالم القانونية والمؤسساتية فيها، فكلما كانت وزارته او هيأته او مديرته اكثر انتظاماً، ووضوحاً في انظمتها، وطريقة عملها، وفيها محددات ترسم حدود الوظيفة والعمل، فإن ذلك يعرقل ويحد من رغبة المسوول في الاستيلاء على كل شيء فيها، بوصفها ضيعة مغتنمة له، لذلك تجد الحرص الكبير لكل منهم في تقليص القوانين سارية المفعول في المؤسسة، ومضاعفة صلاحياته الاستثنائية، وتقزيم كل التقاليد المؤسسية في دائرته، ولهذا نحن امام مخطط شديد الانحدار، متجه الى اقصى ما يمكن من اضعاف الموسسات، كما ان هناك صورة اخرى من الاضعاف، تتمثل في اختلاق عدد كبير جداً من مؤسسات لا حاجة لها، لأن هناك مؤسسات بديلة تقوم بنفس دورها، وذلك استجابة للمزيد من رغبات السلطة والثروة، الامر الذي ادى الى ترهل كيان الدولة في ظل موسسات ضعيفة ومتضاربة الصلاحيات، او لا تحوي على القدر الكافي من الموارد الضرورية لتقوم بدورها بالشكل الصحيح، والمحصلة المزيد من الكلف التشغيلية التي ترهق الاقتصاد دون أي مردود، والتي أوصلت البلد الى حد العجز عن دفع رواتب الموظفين. 
3/ القوى الخارجية- السيادة: تسعى القوى الخارجية الطامعة، وفي مقدمتها معظم المحيط الاقليمي الى اضعاف السيادية العراقية عبر مختلف الممارسات المنظمة، فمن جهة هي حريصة على ابقاء الحدود ضعيفة ومخترقة، يسهل من خلالها الوصول والتسلل وعبور كل ما تشاء ادخاله الى البلد، ومن جهة اخرى، تعمل على استقطاب منظم لكل جهة  تجد فيها ارضية الاستجابة لصوتها، وتحتاج الى حمايتها، وهذا الاختراق المنظم للجبهة الداخلية يعبر من خلال تلك الجهات المتواطئة الى مفاصل القرار، والى كل شأن مهم في الدولة بدرجات مختلفة، وكله يعكس رغبة جامحة لكل تلك الجهات في اضعاف السيادة العراقية بكل صورة متاحة.
4/ اقتصاد الافراد- اقتصاد الدولة: بعد استثناء صور بسيطة ومحدودة من القطاع الخاص الحقيقي، فإن بقية ما يوصف بانه قطاعاً خاصاً هو نكتة سخيفة، فاي قطاع خاص يوصل اشخاصاً مفلسين، ولا علاقة لهم بالقطاع التجاري والاستثماري خلال اشهر أو ايام محدودة الى مليارديرية، يملكون عقارات واطيان وارصدة، والحقيقة ان هناك حرباً منظمة بين اقتصاديات هؤلاء الاشخاص واقتصاد الدولة، فالفكرة الاساس هي تقاسم مساحة محددة من الثروة تعود في حقيقتها للدولة والمال العام، وفي الجانب المقابل هناك جبهة في الطرف الآخر تريد الزحف على هذه المساحة للاستيلاء على اكبر قدر ممكن منها، لذلك هي منخرطة في اضعاف منظم لاقتصاد الدولة، فكلما كانت الدولة مستهلكة، والانتاج معطل، يساوي ذلك انها تستورد كل شيء، فهذا يعني قضم اكبر لصالح الاشخاص الذين يمثلوا البديل لتلبية حاجات الدولة عبر الاستيراد والبيع بالعقود المزورة والفاسدة، ولهذا فان هذه الصورة ليست نموذج لقطاع خاص يقوى بقوة اقتصاد الدولة، بل هي تناهب منظم يقوى باضعاف اقتصاد الدولة وافقاره.
5/ القوى المنفلتة- الأمن: تمثل هذه الصورة احد اشرس صور حرب الاضعاف التي تستهدف خلق امن رخو ومخترق من خلال العمل المنظم لابقاء مؤسسات الضبط الحكومية، وصاحبة الحق الحصري لقوة الاكراه المبرر وفق القانون، في ضعف مستمر، وقد اخذ منهج الاضعاف في هذه الصورة اشكالاً مختلفة، فمرة يتم من خلال قطع الطريق على بناء مؤسسات عسكرية وامنية رصينة وقوية، ويتجلى ذلك باشكال ونماذج لا حصر لها من ممارسات الاضعاف، يمكن تقصيها بشكل دقيق من خلال مسيرة اوضاع الامن في العراق خلال العقد والنصف المنصرم، ومرة يكون عبر استهداف الامن ذاته وابقائه  في وضع هش ومرتبك وقابل للاختراق، فجماعات السلاح المنفلت والمليشيات وكل صور القوة غير الشرعية لا مجال لوجودها وحياتها في ظل امن متماسك وقوي، لذلك هي حريصة كل الحرص على ابقاء الامن ومؤسساته في ضعف مستمر. 
6/ الزعماء- الموسسات السياسية: من الغريب، ان حرب الاضعاف لم يكن حدودها الدولة، بل هناك حرب اضعاف في العراق طرفاه الزعماء من جهة وجهاتهم واحزابهم من جهة اخرى، فنظرة بسيطة لكل الكيانات السياسية العريقة والمستحدثة نجد ان هناك جهداً منظماً من قبل زعمائها  لابقائها في مستوى من القوة بدرجة ادنى منهم، بحيث تبقى الموسسة محتاجة للزعيم ومرتبطة به وجوداً وبقاءاً، فهو لا يريد للحزب او الكيان ان يقوى ويتمأسس بعيداً عنه، لأن مضي الحزب والكيان في تناميه ومأسسته، يعني اعطاء فرص متساوية لجميع الاعضاء وخصوصاً للأكفاء منهم، ثم انه يفتح الباب امام الاجيال الجديدة للوصول الى سدة القيادة، وكل ذلك يتنافى ورغبات الزعماء الذين يتصرفون في كياناتهم على اساس انها ملكاً شخصياً لهم ولعائلاتهم، فلك ان تتبع مسيرة جملة من الاحزاب التي تنخرط في الفعل السياسي منذ سبعة عشرة سنة، ومع الفضاء النموذجي الذي حصلت عليه في التجربة العراقية الحالية إلا انها جميعاً تتجه نحو الضعف والتفكك والاخفاق، وهو ما تريده قياداتها الماسكة بزمام الامور، فهم لا يريدون احزاباً قوية بل احزاباً مسيطراً عليها.
ان ضعف المؤسسات السياسية خلق عملية سياسية ضعيفة تقودها توجهات الزعماء وليس رؤى الاحزاب ومواقفها وتصورتها للدولة، وهذا الضعف انعكس بشكل حاد على بناء الدولة، وكثيراً ما يتصور الناس، ان ارتباك وضعف وخلل الحياة السياسية يعود الى اسباب حزبية، وهو فهم محدود، والحقيقة، ان جوهر الخلل يعود الى خلل في الحياة الحزبية نفسها، فنحن امام كيانات ديكورية فارغة المحتوى، مضعفة بفعل منظم من قبل قادتها، وعملية سياسية تتحكم بها توجهات الاشخاص، ولا تتنافس فيها مؤسسات سياسية راسخة ذات توجهات واضحة للدولة وشؤونها. 
الخلاصة : ينتهي بنا المطاف الى حقيقة مروعة مفادها، ان هذا البلد يتعرض الى حرب قذرة من الاضعاف المنظم الذي يستهدف كل شيء فيه، والذي يريد ابقاء الدولة كشبح لا حقيقة وراءه، فكل تلك الاطراف التي اشرنا لها، ترغب في ابقاء مستوى الدولة عند حد معين دونما تجاوزه، ولا بد ان يكون هذا الحد على مقربة كبيرة من حافة الانهيار، ولذا فان مقاربات الاصلاح التي تقدم سواء كانت بنية صادقة او لمجرد العرض الاعلامي، لن تغير الاوضاع ما لم تدرك حقيقة هذه الحرب ومجرياتها، وكيفية التعامل معها، ومن المؤسف، ان بعض كلف ايقاف هذه الحرب، ربما يكون باهضاً، وقد يكون بمستوى عال من الخطورة، فمثلاً موضوع الاقليم مهما قيل عن حلول توافقية فيه، وعقد صفقات وشراكات لحل النزاع بين الاقليم والمركز، لن يفضي الى حل حقيقي، ولن تتحول توجهات قادة واهل الاقليم الى التصرف بوصفهم جزء صميمي من البلد، وهو امر يتعلق بالموقف الايدلوجي والاستراتيجي وحتى النفسي لهم، وهم لا يخفون رغبتهم الاكيدة في الاستقلال، وهي قضية لا تخلو من المشروعية.
اعلم، ان البعض سوف يفتح عينيه بقوة تعجباً مما سأقوله، ولكن خبرتي ومتابعتي وقراءتي للواقع، تقول بأن الانفصال السلس الذي يقوم على ترتيبات متفق عليها بعد تجاوز المنع الدولي يمكن ان يكون حلاً مناسباً لكلا الطرفين، وان كانت قيمته باهضة بالنسبة للعراق.



Share To: