وكنت قد عملت صحفيا فترة من الزمن، التحقت بها عشقًا، وفيها تعلمت كتابة التحقيق الصحفي والاستطلاع والحوار والمقال، ومنها تعلمت صناعة الخبر ومن خلالها التقيت بكم هائل من البشر، رأيت الملائكة والشياطين عن مسافة قريبة.
كان برفقتي قلمي وأوراقي ومسجل صغير.. تلك هي أدوات الصحفي.. لم يكن هناك جوالات، وأجهزة الحاسوب ليست للأفراد بعد..
الصحافة تحقق للصحفي فوائد عظيمة، من ضمن تلك الفوائد؛ تنمية الحس الفني، صقل المهارات، القدرة على التحليل، الكتابة بدقة، معرفة الفروق الجوهرية بين المواد الصحفية، الجرأة، رفع الثقة بالنفس، الولع بالتفاصيل الصغيرة، القدرة على عرض الأفكار بشكل جذاب، تحمّل العمل تحت الضغط..
الصحافة تعيد زرع الطموح من جديد، وتساعد في تهذيب الأخلاق، وتحضُّ على التحضر والتمدن لدى ممارسها و قارئها..
كل مرة يأتي موضوع الصحافة، أتذكر قصة العم غرمالله بن زربان الزهراني غفر الله له، وبعد العودة من رحلة حج أتممناها معا.. صادف وكنت في المقعد المجاور له، وسألته: ماسر اختلافك يابو فهد عن اندادك؟ من أين اكتسبت هذا المنطق الجميل، والفكر المرتب، والرؤية الواضحة.. أجاب: كنت أقرأ الجريدة كل يوم.
ثم أردف؛ عندما انتقلت من قريتي إلى المدينة لم أكن حينها أجيد القراءة والكتابة فاضطر استعين بآخرين لكتابة أو قراءة الرسائل بيني وبين اسرتي، وفي يوم ساءتني ردة فعل أحدهم وكأنني أثقلت عليه، فصمّمت أن أتعلم القراءة والكتابة. وأول ماعملته اشتريت طاولة وكرسي، ثم الزمت نفسي يوميا بممارستها والتدرب عليها.. تعلمت حتى أصبحت اقرأ الجريدة بسهولة، بل استفتح نهاري صباح كل يوم بجريدة، اقرأ جميع صفحاتها كوجبة يومية مفيدة وممتعة.
أدوار كثيرة قامت بها الصحافة، وما الحكاية الصغيرة السابقة إلا أحد الأدوار التي قدمتها لحضارة الانسان.
الصحافة ساهمت في ازدهار عدد من العلوم والفنون، وخاصة الفنون التي تعتمد على الكتابة مثل القصة والقصة القصيرة والخاطرة والقصيدة والرواية والمقال ... أيضا عرّفتْ الصحافة بالكثير من البارزين والموهوبين، وساهمت لمئة عام في تبادل المعلومات ونقل الأفكار الخلّاقة بين الناس..
الصحافة دقيقة في لغتها، حريصة على أسلوبها، ومتزنه في طرحها، وتهتم باختيار موضوعاتها، ومن يداوم على قراءتها يظهر تميزه ..
وكان للصحافة بريق، استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي الحد من هذا البريق، ولكنها لم تلغِ أصالتها.. موضوعات الصحافة تنطلق من فكرة، يتم طرحها بتميز، وتحاول تقدم الجديد..لذا استطاعت ان تصنع القاريء المثقف، وهذا الذي عجزت عنه وسائل التواصل الاجتماعي..
لو عادت بي الأيام.. لتفرغت للصحافة، وعشت جنونها، ومشقتها، وحدّتها، وتقبلتها بكل معاناتها. الصحافة رغم أتعابها..ولكنها تمنح أكثر من حياة.
Post A Comment: