استيقظ السيد (ك) كعادته مبكرا.يفتتح يومه بحركات رياضية على أجهزة مختلفة،لتقوية عضلات جسمه،ومنحه رشاقة دائمة.يأخذ دوشا بماء فاتر،وصابون ذي رائحة نفاذة.يكاد الذين يعرفونه يميزون الأمكنة التي مر منها،والأشياء التي لمسها، برائحة صابونه المميز.يحك أسنانه بفرشاة جديدة،وسنون أوصاه به طبيب الأسنان،الذي يزوره بشكل منتظم.يصفف شعره الفاحم الخفيف، الذي يحظى منه بعناية خاصة. تتلمس يده منابت الشعر في وجهه الحليق.رشة من عطره الفواح على راحة يده اليسرى،حكها باليمنى برشاقة فمررهما على خديه،وذقنه بلطف.استشعر بعض النتوءات التي لم تكن لتقلق راحته،لأن خبيرة التجميل طمأنته أثناء اتصاله الأخير بها،بأن كل مشكل له حل.ينتقى بدلة كاملة، مع ربطة عنق بألوان منسجمة، وحذاء ملائم. هي بالطبع ليست بدلة الأمس،ولا بدلة اليوم الذي قبله. دولابه الكبير،مليء بالملابس المخصصة لكل يوم ومناسبة. فهو لا يحتار في أي جانب من تفاصيل حياته الخاصة، لأنه عضو منخرط ومسير في نادي "نظم حياتك بنفسك".يضع في معصمه ساعته المُبرمِجة بدقة لمواعيده اليومية.يتفقد هيئته في المرآة الكبيرة كدأبه.يلقي تحية الصباح على زوجته ويتفقد ابنيهما التوأم،هل هما جاهزان للذهاب لمدرستهما؟كلهم نبهتهم ساعاتهم بشكل متزامن لنفس الموعد.يتركون الطابق العلوي ،في وقت متزامن،ليتناولوا وجبة الصباح.كل ذلك وهم لا يبرحون  كراسيهم.يكتفون بضغط أزرار على لوحات أمامهم.
تعرج عائلة"ك" على المطبخ.يفتحون ثلاجة كبيرة بحجم غرفة متوسطة ،تخزن فيها مؤونة الشهر، يرسلها لهم مركز متخصص في انتاج أغذية بيولوجية،وفق مواصفات خاصة تراعي السن ،الجنس والمهام الوظيفية الموكولة لكل فرد بالنسبة للكبار.القدرات العقلية،المواهب، والتوجهات المستقبلية بالنسبة للصغار.كل فرد له مكان باسمه،ينظم فيه موظفو المركز طعامه، ويجب عليه الالتزام بالتعليمات حرفيا حسب اليوم،الوجبة،والساعة طيلة الشهر.اِجتمعت العائلة حول مائدة إفطار،كل يعتمد فيها على نفسه،لأن كل الوظائف بشكلها التقليدي تم تجاوزها. في نظام التغذية الجديد،كل شيء يستهلك؛هذا الإجراء اختفى معه ما كان يسمى قمامة.وباتت النظافة،والتنظيم من سمات الحياة الجديدة.
أزف وقت العمل للكبار، ومراكز التربية والتكوين بالنسبة للصغار.توجه السيد "ك "إلى عمله،وهو أستاذ للأدب القديم. قليلون هم الطلبة والطالبات الذين يستحقون أن يوجهوا لمثل هذه الدراسات،لأنها تحتاج إلى فيض من المشاعر،والاحساس المرهف،وقدرة كبيرة على تذوق الآداب،ومواهب مُؤهلة للإبداع في ضروب الآداب والفنون.فالسيد "ك " بتخصصه هذا،يعد من الموظفين السامين،ومن فطاحل المبدعين المعروفين.قبل أن يفتتح حصته الموجهة لطلبة الدراسات العليا النهائية،لاحظ غياب إحدى الطالبات.ضغط على أحد الأزرار، فرآها في غرفة من يخرقون النظام،في انتظار إصدار حكم عليها.وهو مدعو للمشاركة في محاكمتها،باعتباره عارفا بها ،مدركا للأسباب الكامنة وراء جرمها. بدأ  حصته المخصصة للحديث عن الحب عند شاعر قديم،محض كل شعره وحياته لمحبوبته.وهو يحدثهم عن الشاعر وحياته ،وإخلاصه لمحبوبته.كان الطلبة والطالبات جميعا،وفي ذات الوقت،يتابعون درس أستاذهم بدهشة غامرة، فاغرين أفواههم ،متسائلين عن ماهية هذا الحب،الذي يمكنه أن يصل بالكائن إلى هذه الدرجة من الألم والمعاناة؟وبالرغم من ذلك،يبقى مخلصا له مستمرا في طلبه.لم يغب عن أستاذهم ذلك كله،لأنه مخول له ،بحكم سلطته المعرفية،قراءة الأفكار لكبح جماحها،وتوجيهها الوجهة السليمة، وفق قوانين الجماعة،وشروط ضمان استمراريتها.فجاءت في ثنايا كلامه أجوبة عقلية ترفع الغموض،وتلغي المفارقة التي استشعروها.بعد أن أنهى محاضرته،تابع محاكمة طالبته التي خرقت النظام،مرجعا علة ذلك إلى نمو مفرط،وغير طبيعي، في منطقة العاطفة على حساب منطقة العقل.ويرجع السبب إلى مطالعات غير مشروعة لمؤلف موضوع تحت خانة "سري للغاية".بعد مداولة سريعة صدر حكم قاس في حق الطالبة؛ستعيش بموجبه شهرين كاملين في الخارج،حرة طليقة محرومة من كل المزايا التي يفرضها التنظيم،والمراقبة المشددة،مع منحها قدرا من المال يغطي نفقات تواجدها خارج النظام،مع الفوضويين والمتحررين من أية سلطة.
أنهى السيد "ك" باقي التزاماته اليومية،بكل مسؤولية وانضباط، بحكم موقعه القيادي في النظام. سيطمئن على زوجته وأبنيه؛هل أدوا أدوارهم التي يفرضها الانخراط الفعلي في المنظومة، حتى لايقع خلل ما،تترتب عنه عواقب وخيمة،ويفقدون معها مكانهم،ومكانتهم الاعتبارية بانتمائهم لعائلة "ك".
ما فضل من وقته،سيقضي فيه أغراضه الشخصية،ويمارس هواياته.كل ذلك في تطبيق تام وصريح لمقتضيات المنظومة،التي يحرص على عدم الزيغ عنها قيد شعرة.يتجرد من ثيابه، ويضغط على زر حمام شمسي لمدة ربع ساعة.يضغط على زر آخر للاستمتاع بسباحة في شاطئ برمال ذهبية لمدة ربع ساعة.كل ما بقي له من الوقت ،وهو كثير يخصصه يوميا للتأمل، ويكون ذلك بعد أن يتخذ احياطات شديدة،حتى لا يُعلم ما هو فيه من التأمل،وإلى ما قادته تأملاته.بعد أن تأكد أن إمكانية مراقبته باتت مستحيلة.يضغط على زر خاص،اختفت معه كل العوالم،الكائنات،الأشياء والألوان .وظهر أن العالم الذي يعيش فيه مجرد وهم...وبقي وحده نقطة ضوء هاربة،خارج إطاري الزمان والمكان.بالرغم من ضئالته،كانت أسئلته ثقيلة.مرات كثيرة،منذ أن أوصله تأمله إلى وجود هذاالجدار،يسائل نفسه متى وجد؟من أوجده ؟ماذا يوجد خلفه؟ هل هو حقيقي أم مجرد وهم من صنع خياله؟ في عالمه الذي يعيش فيه،داخل المنظومة لا وجود لشيء اسمه الخيال.هذا المعطى أحس أنه بدأ ينمو معه،منذ تلك اللحظة التي أطلعه أستاذه،وهو على فراش المرض،على أول كتاب شعري حقيقي،يعود إلى أحد الشعراء القدماء.وحذره من خطورته ،ودعاه إلى التعاطي معه باحتراس شديد.بعدها علم أن كل ما تعلمه من شعر تحت مسمى شعرقديم،لا يمت إليه بصلة.وهو في تدريسه،قد يُفلت عنوة بيتا شعريا حقيقي، يلتقطه طالب نبيه يكون مشروع أستاذ لتدريس المادة ،كما حدث مع الطالبة التي حوكمت اليوم.
 وهو يتأمل في ما وراء الجدار،تحاصره الأسئلة المنبثقة من صلب اكتشافه الذي بات يضنيه. من ذاك الشخص الذي يظهر له خلف الجدار؟ لم يشبهه تمام الشبه؟ أسئلة ظل يطرحها على نفسه،ولكن عقله غير قادر على إيجاد أجوبة لها.وهل المرأة التي تعيش معه في عالم الصور المتحركة ،هي أيضا لها شبيهة وراء الجدارالشفاف؟وكذلك كل موجودات عالم الصور المتحركة؟إنه متيقن من شيء شبيه بالحقيقة،هو لا أحد في عالمه يدرك ما أدركه هو.السؤال المؤرق الذي لم يجد له جوابا؛من الأصل ومن الصورة؟؟
بينما يكون غارقا في بحر أسئلته،وشجون تأملاته.تمتد نفس اليد باتجاه الجدار الشفاف،وتضغط على زٍر،أو شيء ما يشبه الزر، فيختفي هو وعالمه وراء عالم الظلام، في الوقت الذي يعتقد غيره في عالمه،أنهم أخلدوا لما يسمونه نوما عميقا.



Share To: