ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الشارع طويلاً، رمادياً ومليئاً بعلامات المرور الباردة وبالسيارات والشاحنات المارقة في عجلة من أمرها كأن الدنيا على نار مستوية .
وكان هو يسير وحيداً في الشارع الرمادي الطويل وزخات المطر الخفيفة تنقر في حنان رأسه المكشوف للعاصفة، وعلى كتفيه تتبعثر، تنتثر كرداد جميل وتزحف على أطراف معطفه الشتائي. وفي لحظة من لحظات هذا الإحساس الجميل انزعج بشيء يصيب أذنه ،أحس كما لو أنه بلا أذن فارتعش ..ارتعشت أنامله وهي تنسحب في تردد غريب من جيب معطفه وتمتد إلى الياقة ثم إلى الرقبة المشرعة للصقيع ثم إلى الأذن.. تحسستها الأصابع الدافئة، كانت باردة برودة الموتى، متكلسة ومثلجة، ودون أن يستوعب ما يحدث تساقطت، هكذا، فجأة الأذن، تساقطت كما تتساقط ورقة خريفية من شجرة صفصاف عملاقة واصطدمت بالأرض الإسفلتية الصلبة وانتثرت، تمزغت أشلاءً وشظايا في كل مكان .
يذكر مرة، وكان يسير وحيداً في شارع رمادي كهذا وطويل، أن إبهام يده اليمنى فاجأه وسقط في الفراغ، تماماً كما تسقط الآن الأذن، واصطدم بالأرض الصلبة وانتثر، تمزغ أشلاءً وشظايا في كل مكان وعندما حاول لَمَّ بقاياه من فوق الثلج الكاسي الأرض الإسفلتية تعذر عليه ذلك لأنه لم يعثر على ظفر إبهامه..لم يعد له أثر، اختفى وسط كومات الثلج.
ويذكر أنه انتظر ثلاث ليال وثلاثة نهارات كي يذوب الثلج وتنجلي ندفه. وفي غمرة الإنتظار تجمد جسده الصفصافة، بمعطفه وياقته وبالرأس المكشوف ولم يذب الثلج ولا انجلت الندف. ولولا حفظ الله وستره وتدخل رجال الإسعاف والدرك والمطافئ ما استطاع الخروج من ورطة ظفر إبهامه إلاّ في صندوق يصدر إلى الوطن غير مأسوف عليه.
لم يشعر عندما أخذته سيارة الإسعاف قطعة صلصال متجمدة ووضعوه في سرير دافئ وأحضروا له ما لذ وطاب من المأكولات والأدوية، لكنه بمجرد ما بدأت عيناه تدوران في محجريهما وتتغلبان على التعب والنعاس وتستعيدان رويداً.. رويداً حيويتهما وحياتهما وبمجرد ما رأى أمامه جسداً كليوباترياً لممرضة حسناء نصف عارية وأحس بدفئه يقترب منه، انتعشت أوصاله، نسي كل شيء واستفاق من غيبوبة الليالي الثلاثة والنهارات الثلاث وسرت نار جهنمية في جسده من أخمص القدم إلى أعلى الرأس ولم يأبه بظفر إبهامه وانطلق خلفها كحصان جامح اتقدت في أحشائه الحمم. فكر؛ ما العيب أن أعيش بلا ظفر إبهام واحد. أعرف أن كثيرين غيري يعيشون بلا أنصاف أجسادهم. وأقسم أني صادفت مرة في الطريق العام رجلاً وامرأة، عندما فتح الرجل قميصه بَانَ ثقب غائر في صدره لقد كان المسكين بلا قلب، والمرأة التي إلى جواره لا أعرف كيف استطاعت بكل تلك الرشاقة أن تسوي قامتها وتسير، لا أدري كيف كانت تسير، لكنها كانت فعلاً تسير وبمشية جميلة رغم أنها بلا إست.
الغريب في الأمر أنه الآن غير مستعد بتاتاً لأن يفقد إلى جانب ظفر إبهامه شحمة أذنه أو شيئاً من هذا القبيل. يريد أن يسترد الأذن سالمة من أي أذى. بكل أشلائها وشظاياها المنتثرة. لقد علمته الأيام ألاّ يفرط في شبر من أشيائه ولو كان تافهاً.. فالتافه دائماً هو الحامل لقيمته في ذاته وفي حقيقته.
لكل هذا ها هو يخرج من جيب معطفه مكنسة صغيرة، (استعداد دائم للطوارئ) ويخرج جامعة نفايات، يحدد مجال عمله وحقل تجربته برسمه لدائرة كبيرة ثم يمسح الأرض، بما فيها وما عليها ويضعها في يده ذات الإبهام الناقص ظفراً ثم يختفي في حفرة محطة الميترو حيث يستقل عربة تأخذه إلى جهة ما.
يجلس في أقصى المقصورة، يتصفح الوجوه ؛ امرأة عجوزقبالته، على جانبه فتاة شقراء، سبحان منعم النعم، حسناء فائقة الجمال. تذوب الأذن المتكلسة الباردة وتتجمع الأشلاء المنتثرة والدفء يسري في عروقها. ينظر إلى الرجلين الزنجيين الواقفين في الوسط ثم يلحم الأذن في مكانها. يحملق في صورته المعكوسة على صفحة زجاج المقصورة حتى يتأكد من وضع الأذن الطبيعي ثم يخرج كتاباً صغيراً، يفتحه وينهمك في القراءة.
تنزعج الأذن من الضجة المثارة في الجوار، لا يعير لها اهتماماً، لا يحاول أن يشغل باله الرائق هذا الصباح بأشياء كهذه، رغم أن الشارع كان طويلاً ورمادياً ورغم الضجة والبرودة إلاّ أنه هذا الصباح رائق وسعيد. ماذا يهمه من أمر الضجة في الجوار ؟ ماذا يهمه أن يتقيأ زنجيان الكلام أو يتعاركا أو يتقاتلا حتى؟ لكن حين تبدأ الأذن تهتز ويحس أنها، لامحالة، ستتململ من مكانها، يخشى أن تتساقط مرة أخرى.. هو غير مستعد إطلاقاً أن ينحني انحناءة الصفصافة العملاقة، يرسم مجال عمله ويحدده بدائرة كبيرة ويخرج مكنسة من معطفه وجامعة النفايات ثم يلملم الأشلاء المنتثرة ويدفئها ثم يلحمها ثم ينظر إن كانت تأخذ شكلها الطبيعي من الرأس أم لا.. وهو غير مستعد بتاتاً وبالمرة أن يستنجد برجال الإسعاف والدرك والمطافئ، ولا يحتمل قلبه الرهيف أن يرى الممرضة الحسناء مرتين ولا أن يصهل صهيلتين. حينئذ يصرخ في وجه الزنجيين :
- صهٍ.. أريد أن أقرأ .
الزنجيان الذائبان في حرارة العراك لم يعيرا تنبيهه بالاً. لم يكن تنبيهاً كان إنذاراً بالكارثة ووعيداً بالمآل الشؤم. فرت الحروف من الكتاب جازعة وسالت مداداً مدراراً على أرضية المقصورة ففاضت كأسه وغضب، انفجر كبركان هادر، قذف بالكتاب أرضاً واتجه صوب الزنجيين، حمل واحداً بقبضة يده، فتح باب المترو بقوة ثم قذف به في النفق المظلم وعاد إلى مكانه وفتح الكتاب ثم انهمك في القراءة غير آبه بالآخرين ولا بالهزة الخفيفة التي حدثت بكل مقصورات المترو.
الزنجي الثاني أصبح أبكم بعد أن لعق ريقه التصق بقضيب الحديد في وسط المقصورة وسكت إلى الأبد، أصبح قضيب حديد بارداً وجامداً. المرأة العجوز لم تجرؤ أن ترفع بصرها إليه غارت بنظراتها في أرضية المقصورة ، أصبحت صنما ثابتاً. الشقراء الحسناء اختفت في ملابسها وانكمشت فوق الكرسي التي تجلس عليه أصبحت هي الكرسي والكرسي أصبح هو الشقراء.
وفي المحطة التالية دس كتابه في جيب معطفه تأمل على صفحة زجاج المقصورة مكان الأذن الطبيعي ثم خرج. عاد القضيب الحديديُّ البارد المتجمد زنجيّاً والصنم الثابت امرأة عجوزاً والكرسي شقراء حسناء. تابعوه كلهم بعيون حيرى ولم يجرؤ أحد أن ينزل خلفه.
وفي مخرج المحطة اعترض سبيله شرطيان، طلبا منه تأشيرة الدخول وبطاقة الميترو، ناولهما إياهما، وقبل أن ينصرف قالا له :
- في المرة القادمة عندما تلقي الأزبال من الميترو، رجاءً، لا تلق بها في الأنفاق
Post A Comment: