في المحصلة التي ظلت مفتوحة على كل احتمال .. بدا حادي القافلة يلوح للناظر.. كما لو كان على وشك أن يستسلم لما يمليه عليه القدر : على انه قد خسر كل شيء .

رغم كونه .. في مجرى مسيرته  ، التي لم ينضب معينها بعد ؛ كان قد وُفّق بقطع الكثير من الفلوات العسيرة ، بروح من القدرة و الحنكة .

و مع ما يحف به من جسامة الأخطار ؛ ألزم نفسه : أن لا يتوانى في غذه السير دون هوادة . في الزمهرير ، و المطر ، و العواصف . و في الأجواء اللاهبة .

و في الليالي الداجية ، التي تخفي تحت إهابها حتى الجبال .. أوفت ناقته في اقتدارها على تحمل جهد المسافات .

كان يصارع العقبات بصبر جميل  ، لا تنتكس إرادته من الدروب الموصدة النهايات . و لا يعتبرها هزيمة . يصحح مساره في قرار التراجع .. ثم يمضي بفكر متوقد ، لكي تنجلي عتمة الظلمات ، و تنطوي المفازات و ساعاتها الثقيلة. حتى يكون بوسعه ان يكمل الشوط  ، و يحقق حلم العودة إلى موطنه الآمن ، و ينعم براحة البال ، و يخلد إلى لذة الاسترخاء . و استدراجه للسنين الآفلة . كذكريات يبهر بها الأحفاد .

  مضت ناقته تواصل المسيرة ، نحو ذلك الحلم الذي هو مرود العين .

  كان عدوّه ، أن يُسلِّم قياده للخمول ، و تَرَهّل الحال  . ليعزف عن مضيه لاجتياز الرزايا . ففي قناعته : إن التوقف لا يجنى من ورائه سوى الركون إلى غيلة الموت .

لذا .. هو يمضي في الطليعة دون تراجع ، من أجل ان لا تنوخ ناقته  : إلاّ في بطاح الأرض الموعودة .

سيتقبل عسر المسيرة ، حتى و لو كان عطاؤها علقماً و هو الذي عاشر مرارة العلقم و تطبع عليه .

تصدرت ناقته ، حاثة خطاها نحو تشابك طرق المتاهات ، و الطريق السالكة ، قدماً نحو ربوع مدينته ، التي التفت على دروبها مجسات الصحراء، و حالت بينها و بين القافلة ، فظل اجتياز فلواتها : هو الحلم الذي يشغله طوال مسيرته .

كان يشعر بضمير مسؤول : إن مسيرة القافلة .. لا يمكن أن تستكين إلى أمان الفلوات. ففيها الضمأ. و فيها كواسر الليل و دبيبه . و احتمال التيه في مراوغات السراب . و فيها ملامة المتقاعسين . كل ذلك يستدعيه أن يقلق و أن يتدبرّ، و أن يكون على انتباه لكل طارئ ، فيحث اليائسين.  

أحياناً يتقدم القافلة ، و أحياناً يتفقد من تأخر عن الركب . وأحياناً يواري من صرعته المسافات .

 و لكي لا يركع مغلوباً ، و يكلكل الصمت على المسيرة ، مضى يحدي على هدى خطوات القافلة .

 تفاوتت معنويات الرجال، بين من صمدت همتهم ، و بين من مضوا حالهم حال الأجساد المستسلمة لما قُدّر لها ، أن تستكين على ظهور الإبل ، كما لو كان الهلاك حائقاً بهم ، و يقودهم طيعين إلى حتفهم . 

كان مَثَله .. مثل امراة تقاوم أقدار العقم ، و عسر الوصول إلى العطاء، و اجتياز الزمن الغادر، مذعنة لمسيرة العمر الحالم بالوليد ، لكي تطرد متاهات سني القحل و التوحد ، فتأبى أن تطوي أحلامها و تستكين للخيبة.

هو كذلك في رحلته الطويلة ، التي تبدو كما لو كانت عقيمة العطاء ، مدماة القدمين ، في مسالك الدروب التي التف على معالمها الغموض ؛ إلى مدينة الأحلام ، التي هي ساحة العمر المكتظ بالضوء وبهاء الليالي الشذية . الى مرابع الحلم بالفوز ، مهما كلف  ثمن المسيرة .

  لا يشترط ان تكون محط رحالهم حديقة غناء ، باهرة الجمال و الوجوه . ذات شوارع صاخبة بطرائف السعداء كسابق أيامها الآفلة ، و سهر الليالي الوسنانة. 

 هو يحلم قبل كل شيء بقهر المسافات ، مضياً لمدينتهم ، حلمهم المنشود. يرتضونها وطناً حتى لو كانت أطلالاً ،  يتدثرون بغمام ركامها متطلعين لغدها الرغيد . 

و رغم قفر الصحراء ، يمضي بتطلعه و يواصل غناءه المتهادي مع وطئ أخفاف الجمال ، ليحثها بنبراته الشجية .

 كان الجميع قد تدنت طاقات تحملهم . ووقع بين أيديهم، امتدادات البيداء ، التي عفرت عواصفها الذارية : وجوههم و عيونهم ، و استحالت عودتهم من حيث أتوا مجرد امنية بائسة. فهو يدرك : ان النكوص هو الهلاك ، فمضى لا يريم للوم عاذل .

 حل ليل آخر.. من الليالي العسيرة ، و بانت النجوم تتلأل في كبد السماء ،  راقبها و كأنه يطل من علوها البارد إلى الطريق الفاضي . إلى بر الأمان  لتصحيح المسار .

 و عندما لاحت له نجمة الصباح ، كان قد هيأهم لينغمروا من جديد ، عبر الفلوات القاحلة المترامية لمواصلة المسيرة طيلة نهار كامل ، في حين شرعت الشمس تجنح للمغيب ، بينما كانت القافلة ، قد أنهكها عمق المسيرة ، و هيمن عليها اليأس، مذعنة لسوء المصير .

وفي الأفق البعيد .. و في عمق السماء رصدت عيونهم سرباً من الطيور مثل نقط سوداء ماضية إلى أمام ،  كأنها تبشرهم بسلامة الوصول .

كان الحادي يراقب السرب و هو  يأخذ نفساً عميقاً ، و يكفكف دموعه بصمت ، كأنه غير آبه بسلامة الوصول .

كان قد ارتضى لنفسه : أن يكون ذبالة لمسيرة أضناها الطريق ، و مجهولية المصير ، حتى كادت أن لا تعدو ؛ سوى ضوء منهك ، يمضي برضاء تام إلى عالم السكينة و الارتخاء .




Share To: