من قصص المجموعة القصصية ( فناءات قزحية ) صدرت عام 2003 قبل الاحتلال ثم ابدل غلافها بسبب الشعار للوضع السابق وصدرت عام 2004
فناءات قزحيـــة
صانع الطائرات الورقية، يطرق أبواب المدن البعيدة، يحمل في حقيبته عجين اللصق، والورق الزاهي الألوان ، والعيدان، والخيوط . يصنع الطائرات ، ذات أطراف و ذيول تتطوّى خلفها.
تحلّق على ارتفاعات شاهقة. و تزحف على فراغات الفضاء الرحبة.
هناك.. ينادي بصوت أخن يفتعله :
ــ طيّارات .. طيّارات .
و الأطفال يهرعون خلفه . يبتاعونها ، يحلّقون بها .. في فضاءات المدن ، يتبارون، في الوصول الى ارتفاعات شاهقة.
صانع الطائرات الورقية ينظر برضاء تام، و يمضي في الأزقّة ، والساحات ينادي :
ــ طيارات .. طيارات.
في مدينته .. صنع لولده، واحدة جميلة. أودع فيها ما استطاع من خبرة و إتقان.رسم لها إذنين و عينين. وأطرافا ولسانا وشفتين، وقال :
ــ خذها وحلّق بها وأنصت الى حوارها.
***
حلّقت الطائرة الورقية . على ارتفاع شاهق.ابن صانع الطائرات يمسك بالخيط، و الخيط يرتجف.
راقبها من تحت إبطها. وفي المجال المثبت به طرف الخيط،راقب تأرجحها. إنها على علو شاهق حقّا.
ثقب الخيط من الوسط لكي تمر بالخيط.. تسلّقت الورقة،و التصقت أسفل الطائرة.
شدّ بطرف الخيط الى رسغ يده.أمسك بقلم رصاص . رسم اسمه بإمعان،على ورقة مربّعة .
قال الإسم و الورقة ترتعد :
ــ هذا علو شاهق.. امسكي بي كي لا أقع.
قالت ساخرة :
ــ لا تخف يا طيّار.
***
من فوق .. أطلّ على المدينة بأكملها.فتَحتُها تتقزّم قمم الأشجار الوارفة. والقصور الشاهقة المشنشلة. ومن كلل المآذن فزعت فاختات، تدف باجنحتها. فالطائرة الورقية شرعت تطير باتجاهات عديدة.ومن الممكن أن يهبط بها..إلى انخفاضات، باتجاه المساكن . لم يعرف من قبل ، ما فوق البنايات و القصور و تحتها .فتعرّف الآن على قببها. و فناءات حدائقها. و نزع حجابات عجرفتها.
هل يستطيع أن يتفسّح بها ، فوق القصور المترفة؟
ذلك بحاجة الى خيط إضافي . أعطاها خيطا إضافيّاً، لكي تتجوّل على هواها . متنقّلة.. في حيّز فضاءاتها ، شبرا ً شبراً.
الآن.. باستطاعته أن يرصد ابن الباشا.الذي ما تجرّأ أن يقترب منه ، برغم كونه، في صفّه الدراسي . وأن يتمعّن في ملامح الباشا و خاتونته.
هل هي شبيهة بأمه؟ لا يعتقد ذلك . ربما أصغر سناً. سمينة بعكنة. ولها ثياب زاهية هفهافة.
كتب لطائرته أمراً بورقة صغيرة ثقبها ومررها عبر الخيط ،و اندفعت بحرّية تامة :
ـ ( إلى قصور الباشوات ) .
فهم الأسم محتواها، فوجهها باتجاه القصور، زاحفة بحركة افعوانية فوٌق رؤوس الخدم. ظلت تتجوّل لا تأبه بهم كانت تبحث دون كلل: عن غرفة الإبن. قادتها الألوان الخلاّبة و الرياش ( المرهّشة ) . و البلاطات ذات الألوان ( اللصّافية ) .
عثرت على غرفة : رافلة بالدمى و الأبواق. و الدراجات و الكرات . و قبب من التفاح . و الليمون ، و البرتقال . و فراط من حبيبات الرمّان و العنب ، في أواني خزفية متللة.
طوّحت الطائرة بنفسها : هابطة فوق أشجار الليمون . كمخت أنفها روائح ليمونية محسسة. عادت لتحلّق عاليا، كي لا ترتطم.ظلّت تحدق مُتأملة اكتظاظ الأشجار. بيد أن عطاسها تعالى.
فقال الإسم :
ــ ما الحكاية؟
قالت الطائرة:
ــ لعابي يمصل .. ألم تمصل أنت ؟
قال :
كفى تحريضا.. دعي لعابي هادئا.
***
لكن لعابه لم يهدأ. كانت رؤيا أشجار الليمون و أريجها، حادّا و محرضا للغاية. كان هذا يصل إلى إحساس ابن صانع الطائرات ،عبر علبتي بلاستك ، ثقبهما و مرر خيطا، متصلا بخيط الطائرة، و ثبّته ما فوق أُذنيه. أنصت بوضوح إلى : أزيز و أنين و ورير، و دندنة ، و وشيش .
رتّب الجميع بعناية. واحدة قرب الثانية. وفهم : إنها محاورة بين الطائرة و اسمه .
فلمح ابن الباشا، بفخذيه المكتنزين و الشورت القصير، والقميص ( أبو الجوري ) إنه صبي نضر ، و يحلم بإجراء حديث معه.
سمع الطائرة تهتف، وهي تقفز بإرتعاشٍ:
ــ إنظر.. هذا هو الصبي.
ــ أين هو؟!
قال الإسم منحدرا بنظره إلى أسفل. كان الصبي يتبوّل على الجدار:
ــ أيجوز أن يفعل هذا؟!
قالت الطائرة:
ــ وما العجب؟هل هناك من لا يتبوّل؟
قال الإسم :
ــ لا عجب.. ولكن على جدار القصر؟! ههههههه
قالت:
ــ ألا تفعل كلاب البيوت و الصغارذلك؟
قال :
ــ ولكنه ابن الخاتون؟
قالت :
ــ ولو...
أطل الباشا . تنقلت قدماه ببطء، و يداه في كمّي جلبابه الأزرق. و ينتعل خفّاً بنفسجيّا. انداحت الألوان البنفسجية من حوله ترقص و تصفق. و بدت زوجته بـ(شبشب) ذهبي. و ثوب مُتألّق ، يرفل بالأزهار و العصافير الملونة. متناثرة على أرضية الثوب السندسي. في حين تناثر شعرها مداعبا خدّين ورديين مكتنزين.
سمع ابن صانع الطائرات ، اسمه يهتف :
ــ أترين شيئا؟!
قالت الطائرة:
ــ اللـ...........ه ما هذا؟!! هنا الحياة . هذه هي الدنيا التي ينبغي ان تكون .
قال:
ــ ماذا ترين؟
قالت:
ــ فِلمـــــاً سينمــــــائياً. كـــل الأشياء المختفية.. إلى جانبهم وا.........ضحة.
قال:
ــ الباشا بنفسه و معه الخاتون .
قالت:
ــ لم لا؟ وَي..وَي ..وَي. كل القصور المجاورة .. تعوم بالألوان.
قال:
ــ هل يمصل و زوجته؟
وقف ابنهم وسط المرج. وحوله الأشجار و الأزهار. وفي يده كيكة، و في الأخرى قدح شاي.
قال الإسم بمرح:
ــ عطَسَ .. يعطُس ..إعطس .
هيّأت الطائرة أنفها، و هدّفَتْ به نحوهم :
ــ إرْرْرْ.. تِش..شِوْ .
كركر الإسم ، بينما رفع ابن الخاتون رأسه. باحثا عن مصدر العطاس. لاحظ : إن الطائرة الورقية تطوّح بجسدها. و الخيط.. يندفع و يرتد.
قال بمرح:
ــ هلو...
استفسرت الطائرة الورقية:
ــ ما المقصود؟
قال الإسم:
ــ يعني مرحباً...
ردت الطائرة بورير:
ــ مرررحبا. مرررحبا. هل أنت تأكل ؟
قال ابن الباشا:
ــ ألا تتفضّلا على الكيك و الشاي؟
قال الإسم:
ــ لدينا الشاي في البيت.
قال الإبن:
ــ و الكيك...؟
قال الإسم:
ــ إننا نسمع : أن الكيك يؤكل مع الشاي . أليس كذلك ؟
قال الإبن:
ــ ولكن تعالا .. لكي تتناولا الكيك مع الشاي.
نظرت الطائرة بارتباك و حرج، مستنجدة بالإسم الذي أجاب:
ــ و لكننا لا نستطيع الهبوط. إن مهمتنا.. أن نمكث نتفرّج فحسب . أما مهمتكم فهي أن تأكلوا و تشربوا كل شيء . هل للكيك نكهة؟
قال الإبن:
ــ تعالا و جرّبا. إنكما ستأكلان أصابعكما.
قالت الطائرة:
ــ ألا تعلم؟! إننا عندما نأكل، سنثقل و نهوي إلى القاع . و لذلك ينبغي أن تكون بطوننا فارغة على طول.
قال ابن الباشا:
ــ إنكما ستجوعان .
قال الإسم:
ــ إن الجوع يساعد على التحليق، في عوالم بديعة. فالشبع يُسقطُنا إلى أسفل.
اقترب الأب و الأُم لكي يمكنهما..من التقاط ما يدور من حوار.
فقال الباشا:
ــ في الأقل ، فنجان شاي مع لفة كباب. أو تفّاحة ،أو ليمونة؟
قال الإسم:
ــ يا باشا.. لو كنّا بحالة سويّة مع هذه الأمور، ما حلّقنا إلى هذا الارتفاع الشاهق .هل تريدون.. أن نحلّق أكثر ؟
قالت الخاتون :
ــ لا .. ولكن من أجل المجاملة على الأقل؟
لم يبتعد اهتمام الإسم عن هذه الوفرة، لثمار الليمون و التفّاح و البرتقال و الرمّان فقال:
ــ ماذا تصنعون بهذا كله؟
قالت الخاتون :
ــ لكي تبدو الحديقة.. رائعة و بهيّة.
قال الإسم:
ــ ألا تمصلون ؟!
قالت الخاتون :
ــ لا .. وهل تمصل أُمّك؟
قال:
ــ لمجرّد رؤيا الليمون . لذا تتجنّبُهُ إلاّ أنّها معجبة جدا بالشاي.
قال الباشا .. مساعدا رهال بطنه، وهو يضع مشابك يديه تحته:
ــ الشاي مُنبه. ولكنه يسبب الإمساك. الأفضل لها أن تقضم التفاح . فهو غني بالسللوز.
قال الإسم:
ــ هههههههه كلوه أنتم . لماذا لا تأكلون؟ كلوا الكيك و التفاح و الليمون ؟ كلوا كل شيء.
قال الباشا :
ــ لماذا لا تأكلان أنتما أيضاً ؟
قال الإسم:
ــ ومن يبقى للتحليق؟
قال الباشا متألّما:
ــ إنكما تضعان على عاتقنا مهمّات صعبة و تؤدي الى عسر الهضم.
قال الإسم:
ــ على هواكم .. كلوا ما تشاءون.. فنحن لدينا الشاي المسكر.
قالت الخاتون :
ــ كم ملعقة سكر تخلطون؟
قال الإسم:
ــ بالمقدّر و المكتوب.. ألم تسمعي الأغنية؟
قالت:
ــ أية أُغنية؟
قال:
ــ آ..يالشاي..آ ..يالشاي إنت فراشي وانت غطاي
قالت الخاتون :
ــ يا لحنجرة العندليب!! .. يا لها من أُغنية عذبة!!
قال الباشا:
ــ أنتم لطفاء .. لماذا لا تهبطان و تسمعانا نكاتكما؟
قالت الطائرة الورقية :
ــ هذا يحتاج إلى قرار.
قال الباشا مُتأوّها من خيبته:
ــ الوقت ليلاَ.. ألا تسمحان لنا بتناول العشاء؟
قال الإسم:
ــــ خذوا حريّتكم .
قال الباشا:
ــ أرجو أن لا يثير إزعاجكما ذلك.
قال الإسم:
ــ هههههههه بالعكس .. إننا نقدّر ظروفكم نتمنى لكم نوما هادئاَ.
دخلت العائلة فناء البيت القزحي . . انسكبت الألوان فوقهم لونا فوق لون.فتألّقوا بالألوان .
الأواني توهجت، و الستائر و حتى الأشجار. كل شيء..أمسى شرائط من الألوان القزحية المبهرة.
ظل الليل يمضي إلى العمق، فقال الإسم :
ــ إني أتثاءب.
***
في سطح المنزل،شد ابن صانع الطائرات، خيط طائرته، إلى النافذة العلوية.وهبط ليأكل على عجل . عاد و استلقى على قفاه.كان الجو منعشاَ، ظلّت الطائرة تتأمّل هنا و هناك.و الخيط يرتعش و يُوَرْوِرْ.
غطّ هو بنوم حالم. الطائرة تمضي ليلها وحيدة. راقبت بصمت توهج المدينة ، الهاجعة تحت أضوائها . الباهرة و الكابية.
***
كان الليل يمضي. و الصمت يزحف بردائه. وكانت النجوم ترمش بتكاسل، يدثر بعضها بعضاَ.
سمعت الطائرة همسا رفيقاَ:
ــ هل أنت حزينة أيّتها البنيّة؟
كــــان القمر....
قالت :
ــ نعم .. فأنا بدون الأطفال لا أعني شيئا.
قال القمر :
ــ أجل .. فأنت سفيرتهم بلا منازع.
قالت :
ــ مع ذلك .. فإن التأمّل بهدوء.. حزين و جميل.. أيّها العم.
قال القمر:
ــ هذا صحيح.
قالت :
ــ ولكني قصيرة العمر و التجربة. إن أشياء تحدث تحت ، يتمنّى الكائن.. أن تكون أليفة كالنجوم، و بهاؤها يسبح به الجميع.
قال :
ــ العبرة ليس بطول العمر أو قصره يا بنية ، العبرة في أن يكون مجديا و مثمرا للآخرين و جالباً للسعادة.
قالت :
ــ ولكني أجهل الأشياء و مراسيها؟
قال القمر :
ــ يا بنيّة.. أجمل الأشياء..أن تكوني إنساَ للآخرين.. ألا ترَيني أنا القمر؟
قالت :
ــ كيف لاأراك أيها العم؟
قال :
ــ لقد شاهدت مالا يحصى من أمور. وكنت مرضيا للجميع. فالجياع.. يريدونني يتمنوني رغيفاَ. و الأطفال .. يبكون من أجل أن أكون بأحضانهم.والمحبّون .. يتناجون تحت بهائي.والحائرون.. يهتدون بي.وأنا أستأنس بذلك.
قالت الطائرة:
ــ ألا تأتي إلى بيتي؟
ضحك القمر وقال:
ــ يا بنية.. هل شاهدت أقماراً تمكث في الأرض؟ هذه أقمار فاشلة. كلما مرّ الزمن يبهت ضياؤها و تموت . فالقمر ينبغي أن يعلو ليشمل بضيائه كل المحتاجين إليه.
قالت:
ــ زرني مجرد زيارة .
قال :
ــ يا بنيّة.. .. إن بيتك صغير ولا يسعني.إذا كنت راغبة فتعالي أنت.
قالت :
ــ ألا تراني مشدودة إلى النافذة؟
قال :
ــ حسنا.. سأمد لك و لصاحبك ذراعي الساطع ، لكي تقضيا في بيتي، ليلة جميلة مليئة بالحكايات.
Post A Comment: