يبلغ المرأ عمرا لا بأس به ليودع كل شيء قد رآه سالفا في الحياة، قد يودع قطته الصغيرة أو مذكراته الكتابية أو لربما يودع أسرته الصغيرة برمتها حين يحس بأنه سيرحل عنها تماما، نحو مثواه الأخير حالما بالربيع أو بغيره.. لقد أصبحت على يقين تام بأن الإنسان سيشيخ وسيموت ولن تصير له ذكرى تحتويه بعد ذلك، لأنني وصلت إلى الحقيقة بنفسي وليس عن طريق آدمي، قبور ظلت هنالك منسية لسنوات طويلة طالها النسيان، لم يزرها أحد ولم ينثر عليها الفقيه رذاذ ماء الزهر، أصحاب تلك القبور طمروا في العدم وبقيت سوى أسماءهم المنحوثة تسامر الليالي الشداد فوق صخرة صغيرة مواربة بالتراب.. تأتي الأمطار أحيانا لتمسح ما بقي من رموز تواريخهم فلا تجد من يجدد كتابة أسماءهم على الصخور الميتة، والحق أنني لا أود أن أكون مقبورا مثلما وقع للموتى الصامتون، الراقدون في غرف الأنتظار والقاعات المظلمة..
وحتى أغدو واقعيا مع ذاتي أكثر فقد بدأت بكتابة رواية تخصني حتى لا أنسى، يقال أن الكتابة أداة رائعة لإعادة الموتى إلى عالمهم السابق الحافل بالغرابة ، عودتهم للأرض الكريمة التي شربوا من ماءها واكلوا من خياراتها، لذلك فمهما رحل الناس عن الحياة فالكلمات الصادقة تعيدهم مرة ثانية، تم إنني لقد كتبت عن طفولتي وواقعي وذكرياتي المخجلة ومنزلي القديم ولم أفكر أبدا في حقارة هذا المجتمع الصارخ في ذاته أو في نظرته، وقد استنزفت ما استنزفته من الطاقة لأكتب عن هذه التيمات الأدبية ولو بأسلوب ركيك وبلغة مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية.. لم أخجل على الإطلاق من كل شيء كتبته، فأنا هو كلماتي وكلماتي هي انا، وأظل ثابتا بعيوبي وزلاتي وحسناتي القلال، كما أن مسألة الرحيل عن هذا العالم الفوضوي الزائل يولد لدينا رغبة في البوح وهو شيء فطري وطبيعي جدا بل أبعد من ذلك يجعلنا نفكر دوما في نهايتنا المجهولة.. فنغرق في الهم ونطرح الأسئلة الكثيرة وبذلك نحاول ألا نكون أشرارا، نحاول مثلا ان نحب أن نسامح أن نؤثر كثيرا ونضخر قليلا ، كل هذا لتزكية مصائرنا المجهولة المليئة بالحيرة والتساؤل...
حين كنت طفلا لم أكن أفكر في الموت أو الحياة، كان قلبي ينبض وكنت أحس به وحده، وكان يمنحني معظم الطاقة لالعب وأتسلق الأشجار واركب الحمارة وادخن من سجائر جدي البدوي، بل كنت أنتظر كل ليلة بزوغ فجر جديد لأكمل أحداث اللعب والشغب بالمنزل وخارجه.. لقد كانت سعادة سوريالية وبسيطة لم يستوجب علي فيها أن أغدو رومانتكيا في تفكيري أو تساؤلي، أحيانا الغرابة تولد بهجة صادقة وحياة مليحة..
اليوم و بعد أن وصلت سن الثانية والعشرين سنة ضاعت مني طفولتي ولم أعد أتحسسها في أي لعبة أو رائحة قديمة الأزل .. ضاعت كلها وتبخرت في الجو كأنها لم تكن وكأنني لم أكن طفلا أو سارقا صغيرا يجوب الأسواق بحثا عن تفاحة مرمية لبائع الخضر... لكنه أعجبني ماض كان يمثلني بحماس ويتحرك بخفة شديدة كمصور محترف ليحفظ ذكرياتي ومعلوماتي الشخصية...
Post A Comment: