العدو دائما يبحث عن الثغرات أو نقاط الضعف التي منها يستطيع اختراق البيت، ليفصل عراه المتصلة، والإنسان بطبيعته يميل أو يتضامن مع من يشتركون معه في شيء ما فإن كان هذا الشيء هو الدين نفسه فإن التضامن يكون على أشده، مهما علت نعرات ما بعيدة عن هذا التصور فإن الدين هو أقواها جميعا، والآن نابليون وجيشه أصبح مدركا للهجوم المحتمل من المقاومة داخل مصر أو الباب العالي بتركيا، ومن ثم فإن إثارة القلاقل أو الفتن داخل أي تجمع كفيل بنسفه نسفا، فعملت فرنسا على استمالة اليونانيين والأرمن داخل الخلافة العثمانية فأصبحوا يرتدون الشارة الفرنسية وهذا يعد بمثابة إعلان منهم عن انتمائهم لفرنسا دون غيرها، وأبلغ سفير الدولة العثمانية بفرنسا احتجاج بلاده، وازداد الانزعاج مع احتلال فرنسا للجزر الأيونية وتدمير البندقية (بإيطاليا)، والتحالف مع حكام البلقان واليونانيين داخل الدولة العثمانية بما يشي بإن فرنسا تسلك سلوك الدولة العظمى التي تسعى للتوسع والسيطرة والهيمنة شأنهم في ذلك شأن المحتل في كل زمان الذي يمارس الحرب النفسية لتدمير معنويات أهل البلاد كرسالة واضحة للدولة العثمانية بأنكم لا تقدرون علينا ونحن الأقوى ولن تستطيعوا القضاء علينا في مصر أو غيرها، ويستمر نابليون في الخداع الممنهج فيرسل للباب العالي بأنه يرغب في الاحتفاظ بمصر لتكون وسيلة لإضعاف وتدمير انجلترا بالهند، وعلى السلطان ألا ينزعج لأنه سيصبح له الحق في السيطرة على بقية البلدان الواقعة تحت رايتهم، وأنه لا يرغب الحرب أو القطيعة مع الدولة العثمانية.
ورغم حرب بلغاريا الغربية (بإيعاز من فرنسا وحدها على الأقل لإضعاف الدولة العثمانية) على الدولة العثمانية لإشاعة المزيد من القلاقل داخلها فلا تتمكن من طرد فرنسا من مصر فإن الرياح جاءت بما لا تشتهي الأنفس على فرنسا فقد حدث تحالف بين انجلترا والدولة العثمانية جعل الفرنسيين يخافون الخروج من منازلهم سواء في العاصمة أو الولايات، وخرج بيان من الدولة العثمانية لتضامن المسلمين (بعد إعلان اليونانيون والأرمن ولاءهم لفرنسا) وقال البيان:
“إن فرنسا قد خانت الصداقة التقليدية التي كانت تربطها بالباب العالي، وهذه الخيانة جد مشينة، بقدر ما أن الدولة العثمانية خلال ائتلاف دول أوروبا ضد فرنسا قد تمسكت بحياد عطوف يسمح بإمداد فرنسا التي تتهددها المجاعة بالمؤن (دون الإمساك بسلة الطعام في يد والأسلمة باليد الأخرى كما يحدث من الصليب الأحمر الآن في الدول الإسلامية المنكوبة بالحروب أو المجاعات)، وفي مقابل ذلك فإن فرنسا انتهجت سياسة تخريبية تجاه الدول الأوروبية التابعة للدولة العثمانية، فضلا عن الهجوم على مصر وهي لا تهدف إلا زعزعة نظام وانسجام العالم برمته وتمزيق الأواصر التي تربط بين الشعوب والأمم، وتبعا لما يناسبها، فإنها تستخدم الدسائس السرية وتلجأ إلى الوسائل المستترة، وتستخدم الحديد والنار على المكشوف مرة أخرى، لكي تطيح بدساتير الدول، وتقيم كما فعلت في إيطاليا كثرة من الجمهوريات الصغيرة التي تود أن تكون فرنسا هي الجمهورية الأم لها، ومن الواضح أنها تنتزع لنفسها في كل مكان حق تسوية الشئون العامة على هواها.
ولما كانت مصر هي بوابة المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، فإن هذه المسألة بالنسبة للمسلمين تمثل الأهمية الكبرى ووفقا للبيانات التي أصدرها الباب العالي بالفعل في هذا الشأن، فإن الهجوم الجائر والمباغت والأعمال الحربية من جانب فرنسا يجب بموجب شرائع العدل والرحمة وعون الهم سبحانه وتعالى، فقد اتخذنا ترتيبا على ذلك جميع التدابير لدفع الاعتداءات برا وبحرا وتقرر لقهر وسحق الأعداء أن من الواجب الديني على كل مسلم الخروج للحرب ضد فرنسا”
وتأبى فرنسا الصليبية إلا أن تعلن عن وجهها القبيح ففي السطور القادمة نعرض مكتوب المؤرخ الفرنسي هنري لورانس وهو واحد ممن رافقوا نابليون، فهو يعبر بفجاجة أقرب للبجاحة والوقاحة منها إلى الفطنة، فإن قشرة الخداع الرقيقة مالبثت أن تهتكت وتهتك معها أكاذيبهم التي لا تنطلي على أحد، وتلك هي عقيدة المحتل حيث يقول:
“فإذا وصلنا أقطارهم وحللنا بديارهم، فالضعيف منهم نباشره بالحرب والضرب، والقتل والنهب، والقوي منهم تنصب لهم شرائك المكر والحيل حتى تطمئن خواطرهم وتأمن ضمائرهم، إلى أن يقعوا في أشراكنا ونعمل فيهم ماشئنا من مقاصدنا ونلقي بين سائر المسلمين المكائد الخفية بالفساد، لإيقاع العداوة المباينة للاتحاد، في أحوالهم وأديانهم، فإن أعظم مايشتت حدود الإسلام ويفل حد سنانهم عن الانتظام، هدم قبلتهم، وحرق مساجدهم، وإذا ظفرنا بأقطارهم وهدمت كعبتهم، ومسجد نبيهم، وبيت مقدس لهم، انقطع أملهم وتفرق شملهم، وملكنا ديارهم، فإن الأمور لا يدركها إلا اتفاق الجمهور، فنقتل جميع رجالهم، ومن يعقل من صبيانهم، فحيئذ تقتسم ديارهم وأموالهم وأملاكهم ويحول بقية الناس إلى أصولنا وقواعدنا ولساننا وديننا، فينمحي الإسلام وقواعده وشرائعه، وتندثر رسومه وآثاره من وجه الأرض شرقها وغربها، وجنوبها وشمالها وعربها وعجمها”
إنها الحملة العلمية، لحملة مشعل الحضارة والثقافة والتنوير!!
وقد دعى الباب العالي على ضرورة الاتحاد مع جنده الذين يتأهبون لدحر الفرنسيين عن الديار المصرية، أما هذا ليس إلا إعلان الحرب من الباب العالي والذي يعلمه نابليون وجيشه ولا بد من نكرانه والتهوين منه وإشاعة بين عموم
المصريين أن هذا ليس إلا فرية يطلقها المماليك وأن الباب العالي لن يحارب نابليون، وأن من يضبطه الفرنسيون حاملا لتلك الرسائل التي تحض المصريين على التعاون مع الجيش العثماني لدحر الفرنسيين فأنه سيعدم في الحال، وعلى أثر ذلك فإنه ممنوع على المصريين التحدث في الشأن السياسي منعا باتا كما يجب طرد غير المصريين خاصة المغاربة وهو أمر صعب التطبيق حيث أن الحصار المضروب على مصر منع عنها الاتصال بالعالم الخارجي، وإرغام المصريين على إنارة الشوارع ليلا على حسابهم.
ورغم ضعف هذه الإجراءات إلا أنها تشف عن ثقة الفرنسيين في قدراتهم خاصة أنهم دعوا أعيان مصر للتباحث في شأن “ما يسعد الشعب المصري” وهذا يعتبرونه مما أنعم به المحتل عليهم ألا وهو الاشتراك في الشأن العام.
أما الاجتماع الذي عقده الديوان فقال فيه الفرنسي المتحدث باسم جيشه:
“إن قطر مصر هو مهد الفنون والعلوم والقراءة والكتابة، وقد ملكته امبراطوريات عظمى، أهل بابل واليونانيون والعرب والترك، وهؤلاء الأخيرون هم الأسوأ بين جميع الفاتحين (دائما المسلمون هم الأسوأ!!)، فقد خربوا البلد خرابا تاما، وقد جاء الفرنسيون لتحريره، وهم ينتظرون من المجلس نصائحه حول التدابير الواجب اتخاذها من أجل البلد”
العميل منديل ورقي لا يستخدم سوى مرة واحدة ثم يلقى به في سلة المهملات غير مأسوفا عليه، ولكي نعلم كيف يختار المحتل عميله فلنقرأ ماكتبه هنري لورانس عن الشيخ الشرقاوي الذي اختير لترأس الديوان:
“الشرقاوي ينحدر من أحدى الأسر المتواضعة من قري محافظة الشرقية، ونسبه للأزهر تلميذا ثم أستاذا ثم زعيما صوفيا وذلك يستوجب أن يعود عليه بهبات عظيمة تضع نهاية للبؤس الذي عاش فيه حتى ذلك الحين، وهو يصل لمرتبة شيخ الأزهر بفضل دسائس معقدة بالرغم من منافسة الشيخ الصاوي، ولما كان محدثا للنعمة على المستوى الاجتماعي، فإنه يحيط نفسه بهالة من الأبهة تجعله مثيرا للسخرية، إن ضخامة عمامته تصبح مضربا للأمثال، على أنه يعرف كيف يتصدى للمماليك باسم الدفاع عن الفلاحين خاصة الملتزمين الذي ينتمي هو نفسه إليهم، وهو يستفيد من الوظائف التي يسندها إليه الفرنسيون لكي يزيد ثروته عبر الحصول على أتعاب من أسر العسكر للتوسط لدى السلطات وعبر الاستيلاء في هذه الفترة المضطربة على ممتلكات النازحين أو الأموات المهجورة وهو لا يتردد في إبلاغ القائد العام بوجود رسل من طرف أحمد باشا الجزار مكلفين بالدعوة إلى الجهاد ضد الفرنسيين”
ثم يحدثنا لورانس عن أربعة مشايخ آخرين وهم البكري والفيومي والمهدي والصاوي، ورغم أن هؤلاء تعاونوا مع المحتل بصورة أو بأخرى إلا أن لورانس لا يذكرهم بخير وهذا طبيعي جدا ومنطقي جدا، من لا يحترم نفسه لا يحترمه أحد، هؤلاء سالفي الذكر كانوا لا ينظرون إلا لمصالحهم الضيقة غاضين الطرف عن الصالح العام حتى ولو كان الدين الذين حل الفرنسيون من بلادهم للقضاء عليه، ما يدلنا على أن ليس كل صاحب لحية واجب الاتباع وأن العبرة بالسلوك الذي يسلكه الفرد أو الموقف الذي يتخذه سواء ألتزم ظاهريا بصحيح الدين أو لم يلتزم والحقيقة أن هذا الأمر شقينا به كثيرا.
وللحديث بقية إن شاء الله
Post A Comment: