--------
كست الأرض غمامة سوداء، انتشرت حالة من الذعر والفوضى بين الناس، وتعالت أصوات العويل والنواح من جهات متفرقة:
- يقولون إنها جائحة!
****
اعتدت التطلّع للدنيا بعينين ساذجتين حالمتين من خلف بنطال أبي القديم الباهت؛ وكان هذا أقصى ما تبلغه قامتي منه حينها، أما الآن وقد أضحى كتفي بكَتفه، اختلفت نظرتي للأمور.
- الزبالة يا هانم.
- ماشي من غير كمامة ليه يا عم ابراهيم، انت مش عايش في الدنيا؟!
يعبس والدي ويجيب صمتا، تلفح نسمات "المكييف" الباردة صهد وجهيينا،
تتعلق عيناي بذيل ثوبها الحريري الهفهاف يتدلى من أسفل الروب،
أتناول القمامة من الخادمة الأجنبية بنفس حانقة؛
"أي دنيا، دنيانا أم دنياكم؟! "
تستمهل "الهانم" أبي:
- إحنا رايحين يومين السخنة، وعايزة أم السيد معانا.
يتردد والدي بين العوز والخوف:
- بس يا هانم أم السيد عدت الخمسين وهم في التلفزيون بيقولوا إ...
جاءت نظرتها ساخرة:
- يعني هي عندكوا هتكون في أمان أكتر؟!
واستدارت باعتداد مبتعدة إلى داخل شقتها الفارهة بينما أغلقت الخادمة الباب في وجهينا، كرهت صلفها؛
- هي فكرانا شغالين عند أبوها!
يتأمل أبي مشاعل الغضب المتقدة في عينييّ، يسكب عليها كلماته برفق وصبر حكيم:
- أنا عايز بالك يبقى طويل يا سيد، وربك كريم هو الرزّاق، احنا أسباب لبعض يا ابني.
في عودتنا تطلعت إلى السماء، منذ أن وعيت موقعي من هذا العالم الفسيح أصبحت أراها رمادية في كل المواسم. عجبت لك يا زمن؛ جامع قمامة واسمه "السيد"، يقولون أن لكلٍ منا نصيب من أسمه، وللحق كان نصيبي وافرا !
بصقت السخرية من جوفي بعنف في وجه الدنيا، بقيت مراراتها في حلقي.
بمجرد أن دلفنا حارتنا رأيته مقبلا مغبّر الوجه منطفيء العينين شاردهما؛ "النص" صبي القهوة وصديقي، مرق بجانبنا دون سلام، استأذنت والدي ولحقت به أستوقفه:
- مالك ياله واخد في وشك وزاعق.
انتفض برهة وكأنما رششته بماء بارد، ثم استكان وهو يتطلع لوجهي بعين مكسورة، سلم عليّ بلا حماس، وبعد قليل من الألحاح زفر كلماته في ضيق:
- ملعون أبو الحظر يا أخي؛ من ساعة ما قفلوا القهاوي واحنا مش عارفين نعيش، والنعمة البيت ما فيه لقمة.
نغزني حديثه في قلبي؛ فلكزته في كتفه بود:
- وأنا رحت فين ياض، مش احنا اخوات،
نروح نتغدى الأول عند أم السيد، وهتُفرج إن شاء الله.
وجدته يتحرّج؛ فهممت بلكزة أخرى ممازحا؛ انفرجت أساريره مبتسما ومضينا.
في بيتنا، يجلس أبي بجلال ملك على عرشه، كنبة مهترئة تتصدر الفَسّحة، يكتنفه صمت يزيده فوق الجلال مهابة بينما يستغرقه شرود يرسم ظلا كئيبا على وجهه، في حين أمي، وقد أشرق وجهها بْشرا وسرورا، تَبرُم في البيت كالنحلة، بعد أن وضعت الطعام لنا -أنا والنص- على الطبلية، أخذت تلملم أشياءها استعدادا للسفر مع " الهانم " بهمة ونشاط يزغردان.
يأكل " النص" بشهية بعد أن عرض عليه والدي أن يعمل معنا، وقد وافق على الفور، أشاركه الطعام بينما أرقب بطرف عيني تضاد الليل والنهار بين حالتيّ أبي وأمي، راودتني رغبة في مشاكسة كليهما، ابتسمت في قرارة نفسي بخبث؛ فقد قررت أن أبدأ بشمس النهار:
- مش خايفة من الكورونا يا امه؟
نظرت لي باستهجان دون أن تتوقف حركتها الدائبة، وقد التقطت نيتي الخبيثة وهي طائرة:
- بس يا واد بطل غتاتة، ما الكورونا هنا وهناك، واللي من نصيبك هيصيبك يا فالح.
واختفت داخل حجرة نومها، ابتسمت مشفقا وعيناي تلاحقها، ثم عدت أنظر إلى والدي، ما زال على حاله، محاصرا بجبل همومه الذي ظهر لي جليا جاثما على صدره؛ جعل نفسي تهاب مشاكسته وتزهد فيها.
إن شبح تنكيس البيت يستنفذ روحه ويسقيها من الحزن كؤوسا، بينما عجزه عن فعل شيء يحرق أعصابه غضبا وألما. الشيء الوحيد الذي يمتلكه من حطام الدنيا، البيت الذي توارثه أبا عن جد؛ فهل يتقوّض على يديه ويصير مجرد ذكرى، ثم ما مصيرنا إن حدث ذلك؟.
في اليوم التالي كنا أنا و"النص" نقف أمام باب "الهانم" نتطلع إليه ثم يتطلع كلانا للأخر متعجّبين في حيرة، فقد تصاعدت من خلفه أصوات متشاحنة تشابكت في جدال محموم، ميزت فيها صوت الهانم الذي اندفع أخيرا مهزوما باكيا:
- حرام عليك يا إياد، توجع قلبي كدة!
- يا ماما أنا دكتور وده واجبي.
كان صوت "إياد" صارما قاطعا، وإن تلاشت حدته أمام نبرة الأم المتخاذلة المقهورة، بينما كبّلني الموقف بالارتباك لبضع دقائق قبل أن أستعيد توازني وأقرر ضرب الجرس :
- الزبالة!
عم الصمت برهة قبل أن أسمع صوت خطوات تبتعد وأخرى تقترب مسرعة من الباب، فتحت لنا الخادمة السيرلانكية تناولني القمامة، وهي تبلغني بعربية مكسّرة أن "الهانم" قد لغت مشوار "السخنة"، دفعني الفضول أن أخطف نظرة سريعة داخل الشقة، متباطئا في أخذ القمامة عن عمد، لأراها في إحدى الزوايا ساهمة بوجه محتقن تنفث دخان سيجارتها بتوتر بالغ، رددت بصري بعدها بينما يُغلق الباب، والتفت إلى " النص" الذي اتسعت عيناه تلتهم في انبهار جائع لكل ما يراه.
- الناس دي بتجيب الفلوس دي كلها منين؟، ودي شقق ولا قصور يا جدع؟
كنا عائدين مثقلين بأجولة القمامة إلى حيث العربة الخشبية الصغيرة التي نجمعها فيها، عندما ضرب صدري شيء من التوجّس؛ ألقيت ما بيدي بعنف في العربة والتفت له مجيبا بحدة مباغتة:
- ملناش دعوة، وخلي بالك يا نص ده مكان أكل عيش، فاهمني؟
تراجع "النص" خطوتين بما يحمله من أجولة متفاجئا منكمشا، وهو يعقّب بصوت خفيض مهتز :
- فاهم يا صاحبي، أنا بس بفضفض معاك.
وعندما أنس مني هدوءا؛ استعاد ثباته مقتربا من العربة يضع بها حمله، ويقول مدّعيا اللامبالاة :
- بس البت السرلانكية، هي مش حلوة، بس عليها جتة موووووز.
نظرت له متوعّدا، لكني لم أستطع الصمود أمام غمزة عينه، وعضة أسنانه على شفته السفلى بشهوانية، بينما يرسم حدود جسدها بيديه في الهواء، وانخرطنا سويا في الضحك.
عندما أخبرت أمي بألغاء " الهانم" لفكرة الذهاب إلى "السُخنة"؛ أربدّ وجهها وتكدرت سحنتها:
- كانوا قرشين هينفعونا في تنكيس البيت.
طيّب أبي خاطرها، ورغم ثقل مصابه حدّثها ممازحا :
- بقى الحكاية في القرشين، ولا كنتِ عايزة تصيّفي يا ولية وراحت عليكِ؟
ارتفعت أصوات القهقهة صافية تصفع بشجاعة وجه الهموم، إلا إنه من المعلوم جيدا أن الكثرة تغلب الشجاعة، وقد تكاثرت المصائب، وتكالبت علينا تنهش أرواحنا وأقواتنا ككلاب مسعورة؛ فمع ارتفاع معدلات الأصابة والوفيات، وحجر عمائر من بابها لأصابة أحد أو كل ساكنيها، اكتظاظ مستشفيات العزل بالمرضى، وامتداد الحظر من خمسة عشر يوما لأشهر متصلة، أزداد وقف الحال وحُصِرَ أهل الحارة بين شقي الرحى إما الموت مرضا أو جوعا، ولا يمتلكون حتى رفاهية الاختيار.
بينما على الجانب الأخر كان هناك بشرا تمثلت أقصى مشاكلهم في كيفية قضاء أوقاتهم في الحظر داخل منازلهم، وتجنب زيادة أوزانهم.
" متى نرى العدل في هذا العالم؟"
ركلت تراب الطريق بكل قوتي مثيرا عاصفة من الغبار كادت أن تعميني، عندما تذكرت "النص" وهو يعرض عليّ فكرته الخسيسة، والتي تسببت في افتراقنا:
- الهانم مثلا أخدت الشغالة وراحت أقعدت عند أختها في فيلتها، وابنها في مستشفى العزل مش بيطلع منها.
كان الخيال حصان جامح، أراني وأنا أهجم على شقتها، أجردها من كل ما خف وزنه وغلا ثمنه، وربما أجردها من "روبها" الحريري ليتبدى لي ذلك الثوب الشفاف على جسدها شبه العاري، وقد تخلّت عن تعاليها وغرورها، ليصلني صوتها متخاذلا مقهورا:
- ليه توجع قلبي كدة يا إياد؟!
في تلك الليلة كنت هائما في دروب الحارة كعادتي، متجنبا شوارعها الرئيسية خوفا من الكمين، بين أهلها أهرب في ضجيجهم من فحيح نفسي، عندما جاءني صبي المكوجي مهرولا، يبلغني بأنفاس متلاحقة أن عربة البوكس جاءت إلى بيتنا وأخذت أبي للقسم!
ركضت كالمجنون إلى هناك،
وجدت أبي، و"النص"، واثنين أخرين لا أعرفهما، والدكتور "إياد".
سمّرتني الدهشة في مكاني لبرهة، قبل أن أهجم على "النص" كالثور الهائج:
- عملت إيه يا غبي يا ابن ال....
عندما تدخل "إياد" بسرعة وبعض الموجودين لفض الشجار، كان يصرخ بكل عزمه في وجهي:
- أهدى يا سيد، النُص اتمسك متلبّس بالمسروقات، هو والأتنين دول، وأكد في اعترافه إن انت وأبوك مالكوش دعوة بالموضوع، أبوك هنا كشاهد هياخدوا أقواله، مجرد أجراءات مش أكتر.
كانت كلماته تهطل على ثورة غضبي المشتعلة تحيلها رمادا موحلا أغرق فيه حتى النخاع، بينما تعلقت عيناي ما بين عتاب وشفقة بوجه "النص" الذي صدّره للأرض خزيا.
شعرت بيد تربت كتفي، تنتشلني من متاهتي:
- ما تخفش يا سيد، أنا هقوّم له محامي كبير، وهتنازل عن المحضر، لو أن ده مش هيفرق معاه كتير، لكن ده اللي أقدر عليه.
تطلعت إلى "إياد" متعجبا، ابتسم موضحا:
- النص حكى لي على كل حاجة، بس اللي محيرني ليه ما سمعتش كلامه رغم إنك محتاج؟
- وليه ماسمعتش كلام والدتك رغم إنك مش محتاج؟!
باغته ردي ملقيا به في رهبة الصمت متأملا ملامحي للحظة، أضاءت وجهه بعدها ابتسامة ودودة، مادا يده راغبا في مصافحتي، نظرت إلى يده الممدودة مترددا قبل أن أصافحها متشجّعا بنظرة من عينيه، ثم التفت إلى والدي مخاطبا:
- بس أنا زعلان منك يا عم ابراهيم، ده احنا حتى عشرة يا راجل يا عجوز، فلوس تنكيس البيت هتكون عندك بكرة.
لم أصدق أذني، أخذت أتابع "إياد" ببصري مذهولا وهو يمضي إلى سيارته يستقلها راحلا، ثم نظرت إلى والدي فاقدا القدرة على التعبير عما يجيش بصدري، إلا إنه احتضنني وهو يلهج شكرا لله، بينما أجهش بالبكاء:
- قولت لك يا سيد، إحنا أسباب لبعض يا ابني.
في طريق عودتنا للحارة، تطلعت للسماء، بعينين باسمتين، شاعرا بهائها رغم وجهها حالك السواد.
تمت
Post A Comment: