كل الاشياء صارت متهمة والطبيعة قد أنقصت من هدير صخبها الكثير، فغرقت الحواري والأزقة في شكوكها الصامتة، هكذا تجلت لها المدينة عارية مذ فتحت عيونها الصغيرة أول مرة قبل 22 سنة، ارصفة لم تزلها نيئة، طرية ببلاط تحمل قطع سنة صنعه وتقطيعه 1956 بدا كمطارح الاسنفج كما لو أنه يتنفس تحت أقدام الأعداد القليلة من المارة، مذ حل الطاعون، ولا شيء غير الساعة الكبيرة المعلقة على رأس البلدية تدور بميعادها وصار دقها الكنسي بصوت أقوى بعد أن غسله الصمت، وبائع الزهور الذي وقفت عند باب كشكه القابع منذ زمن الاستعمار بمفرق الطرق كعقدة ربطة العنق من نوع الفراشة، هكذا كان يشبهه أبناء الحي، لم يعد يبيع الورود بعطرها، صارت الألوان موضوع الخيار الأول بعد أن أغلقت بقية الحواس، فلا شيء يسمع عن الانسان الا من تحت الكمامة وكانه لهج آخر يحتاج ترجمان..
مضت تفكر في الموعد االصامت الذي ينتظرها، كيف سيراها، هل ستنفي ملاحظاته وتقول له انها هي هي وإنما الطبيعة التي تغيرت؟ هل ستدعوه لاختبار الميزان حتى لو كان ملوثا، كان عادة ما يقول لها:
- أنا لا احتاج موازين لافحصك اضبط مؤشراتك بموزين دخليتي أعرف كم زاد حبك لي بدخيلتك وكم نقص، أعرف كم سرعة دقات قلبك كلما تباطأت وتسارعت، أعرف حتى الانش التي يستجد بالزيادة أو بنقصان في وزنك.
فاستغنت عن فكرة الميزان، أو الموازين بالاحرى، كانت تدرك أن هديتها له هاته المرة ستكون غريبة عليه، خشيت أن يؤنبها على مصدر الهامها في اهداية، كم مرة نبهها إلى أن الحب هو كالارض لكل الانسانية لكنه يتنوع بتنوع رائحة تراب كل ارض، فلسفة في الحب غريبة عنها فهي لم تشتم عطرا للاتربة يوما لكنها كانت تطالبه بتغيير هاته الفلسفة فمرة من شدة عشقه للتراب واعتبار عطره كمثل لخصوصية الحب وثقافته بين الناس أن اقترحت عليه عبو الحواس
لماذا لا يكون الحب كالجاذبية التي تحت الاتربة تشدنا إلى ارض ولا نراها
فسكت سكوتا مبهما
كانت في العادة تقدم له الجريدة اليومية هدية لقائهما العادية، لم تكن تعرف أي الصفحات يقرأ لكنه كان يفرح بتلك الهدية وأحيانا يتلهى عن سماعها وهي تتكلم ليبحر فيما بين صفحات وسطور الجريدة، سعت خلسة كما مرة تعرف بأي صفحات الجريدة يهتم، فهي تدرك ضعف رصيده في السياسة، لا يهوى ركن الأبراج، وأبعد ما يكون هو عن الاهتمام أوالالمام بسوق المال ومؤشرات سوق النفط، لم تبالي بذلك كله طالما أنها رأته يغض الطرف عن صور لحم نساء بصفحات الاشهار، كما يفعل على الطبيعة كلما كانا معا، فقررت تعليق السؤال...
طبعا لن يسألها عن سبب تبدل هديتها؟ فسيكون غباء وليس نسيان من لدنه إن حصل وسأل، كل الجرائد مطعونة اليوم ومبوؤة بالطاعون هي الأخرى، وكم مرة أقر لها بأنه لا يريد أن يخرج من إطاره الطبيعة، لا يريد حبا عن بعد لذا كان مضربا على مواعدتها على الفضاء الأزرق بل أخبرها أنه طلقه وطلق معه الشاشات وأخبارها، وكان يحب رائحة ورق الجريدة وحركة اهتزازها مع الريح وهو يمسككها من حواشيها ويدك صدرها بذقنه كلما أرادة أن تطير مع هبات الريح، هذا أخبرها عن علاقة المتعة التي يستشعرها مع الجريدة على الطبيعة والتي لا يمنحها له الحاسوب.
- ولو تحركت صوره بعكس الجريدة
- ولو فاحت عطور صوره من شاشته!
فضحت.
تعترف أنها استلهمت منه القدرة على الخروج من ايسار الحاسوب، وشيئا فشيئا بدأت تطبخ مما لا يزاله ملتصقا بالذاكرة، من أوئل تجربة بالمطبخ ببيتهم الأول في الحي الشعبي بالقصر القديم، تعلمت مما كان يأكله الناس كل جمعة كسكسي يعطر القصر ويصير صاخبا سقفه المشترك بضباب فوران السكايس الطعام، وروائح المرق المطر بتاوبيل السوق المغطاة، لم تسأله يوما:
- هل كنت تفرز رائحةطبخي من طبخ الجيران الآخرين ؟
لم تعهده ممن يبالغ كذبا بالمجاملة ويؤكد ما لا يمكن تأكيده، مهما رقص القلب غيبا أو حضورا بذكرى الحبيب فلن تبلغ ارنبة الانف فصل عطر أطعمة القصر القديم، لذا كانت مدركة إن سألته ذلك السؤال سيستعصم بالصدق ولسوف ينكر ويجيب بالنفي، وذاك ما كان سيغدو علقما مذابا بمرارته على مسمعها، حتى وإن كانت تحب الصدق، لأن الرجل الصادق وإن جف عاطفة فهو فائض الامان والرجولة، لكنها تحب أن يكون لها موقع خاص عنده ولو في رنبة أنفه كأن يشتم طعامها مهم تماثل في ميزان موقوماته وتوابله مع اطعمة بنات الجيران.
اعادها نهاية ظل جدار المقبرة القديمة الطويل، الممتد بين حي القديم ومحطة مشروع الترموي الذي لم يكتمل، فترآى لها بقامته الطويلة مكموم الفم والعينين بنظارة سوداء، على يده قفاز شفاق.. وقبل أن يصل ظلها رأس ظله اشار اليها بوقوف كعلامة شرطي المرور، عبست وتساءلت كيف سيقبلها كما كان الحال منذ ستة أشهر كيف سيرى سمرتها التي تفتحت أشهر الظل الطوال؟ وكيف لموازينه التي لا تخطئ أن تفحص فرحة قلبها وسرعة دقاته ورقصاته، وحين قدمت له باقة الزهور الملفوفة بأوراق الجريدة، زهور التي لن يشتمها ولن يرى ألونها الحقيقة خلف نظارته السوداء، قال لها:
- الجرائد ملوثة ما بلك لا تتفكرين، كان يفترض فيك أن تخاتفي على صحتى إن هانت عليك صحتك!
- ولكني اهديك باقة الزهور التي بداخل ورق الصحيفة، ما بك؟
- حتى الزهور تلوثت حسب نشرات الاخبار الصحية بشاشة التلفزيون..
- الشاشة قلت؟
Post A Comment: