في رحلة سريعة عبر انحناءات الذاكرة والعودة إلى الزمن الحاضر ، تجبرك مقارنة عاجلة على إدراك حجم التغيير الذي تمكن من كل شيء ، فالتغيير هو الوجه الثابت لجوهر الحياة ، وإن كنّا نسبح عكس تياراته لبعض الوقت ، إلّا أنّ الرضوخ لشروطه يعتبر مادة أساسية في قانون الكون ، الأمر الذي يضع كلّ جيل أمام تحديات خاصة تختلف عن تلك التي مرّ بها الجيل السابق ، ويبقى التحدي هو القاسم المشترك بين جميع الأجيال ، وكما أنّ لكل جيل تسهيلاته الخاصة ؛ فإنّ له بالمقابل تحدياته الخاصة كذلك .
وإنّ المجتمع يشكل في مجمله مختبراً ضخماً يهيئ لعدد هائل من التفاعلات التي تتمّ بشكل ديناميكي ، الأمر الذي يُنتج في استمراريته مادة التغيير ، ما يعني أنّ الأسرة وهي نواة المجتمع وأساس بنيانه ؛ تعتبر البيئة الحاضنة لأساس كل ما يتمّ في إطار المجتمع من تفاعلات تدفع به نحو التغيير ، ما يؤدي بنا إلى النظر عميقاً في طبيعة الدور الذي تمارسه الأسرة ، بعيداً عن حصر الغاية في تحصيل كمّ الأهداف التي يتمّ تسديدها في مرمى المقارنة بين دور الأبوين من الجيل السابق أو الجيل المعاصر .
فالأمّ وهي الركن الأكثر فاعلية في عملية التنشئة ؛ بحكم دورها البيولوجي في الحمل والإنجاب ، إضافة إلى دورها السيكولوجي المقترن بما تمثله من معاني الحنان والدفء والاستقرار والسكينة ، تعتبر الشخصية الأكثر مثولاً في المشهد عند الحديث عن الأدوار وحجم التغيير الذي تمكن منها ، فهي وقد نجحت في إثبات قدرتها على القيام بمختلف الأعمال التي كانت حكراً على الرجل في أزمنة سابقة ، وتمكنت من ترسيخ موطئ قدم بارز لها في مختلف المجالات ، قامت أثناء ذلك بمضاعفة حجم الأدوار التي تقوم بها ، وهو ما يجعلها بطلة المجتمع الحقيقية إذا ما تمكنت من الموازنة بشكل فيزيائي دقيق بين مختلف الأدوار التي تلعبها على مسرح الحياة ، فنجاحها في عملها الذي تمارسه خارج البيت محققة من خلاله ذاتها التي ترى نفسها جديرة بها ، إلى جانب نجاحها في بناء أسرة مستقرة ، يرتقي أفرادها عبر سلم العلم والخُلُق بخطوات واسعة واثقة ، يعتبر الميزان الذي يمكن لها من خلاله أن تقيّم بطولتها وبراعتها في تحقيق المعادلة التي لن يتمكن الرجل بمفرده من موازنتها .
ومع تسارع وتيرة التغيير ، وظهور الكثير من الأزمات التي تطلّ بوجهها من كلّ اتجاه ؛ فإنّ دور المرأة بشكل عام و الأمّ على وجه الخصوص في ظلّ الزمن الراهن ؛ ربما يكون الأكثر تعقيداً بين مختلف المراحل الزمنية للحضارة الإنسانية ، وقد يقول قائل أنّ ما تتمتع به المرأة المعاصرة من مميزات على صعيد الحقوق والحريات ، وما وفرته لها وسائل التكنولوجيا من تسهيلات ؛ يعتبر مقايضة عادلة تطبق فمها عن الشكوى أو الأنين تحت وقع الضغوط العملاقة التي ترزح فوق نفسها وروحها وجسدها ، وهو ما لا يقترب من العدل ولو بمقدار شعرة رفيعة ، فالمرأة اليوم وهي تدير شؤون أسرتها ، وتمارس وظيفتها خارج البيت لا تعتبر مخيّرة أبداً ، فظروف الحياة الاقتصادية لا تمنحها الخيار وهي تساعد في إعالة أبنائها إلى جانب الأب ، إن لم تكن المعيل الوحيد لهم في بعض الحالات ، كما أنّ عملية التربية والتي تقوم بها إلى جانب الأب أو منفردة ، لا يمكن لأيّ كان أن يعتبرها عملية محسومة في عصر التكنولوجيا وثورة الاتصالات ، فلم تعد المسألة محصورة في توجيه الأوامر للأبناء ليكون السمع والطاعة ردهم في المقابل ، فالتنشئة السليمة اليوم تتعدى النجاح في توفير احتياجات الأبناء الأساسية من متطلبات الرعاية كالمسكن والمأكل والملبس ، فهم اليوم جيل ممتلئ بالمعرفة وشغوف بالفضول ، وهو جيل محاط بألوان من التحديات الكفيلة بجعل زمانه صعباً بما فيه الكفاية ، ففي الوقت الذي كان فيه جيلنا نحن الآباء يكتفي ببرنامج تلفزيوني أو اثنين ، نتابعه في وقت محدد نذهب بعده للنوم ، فإنّ الأبناء اليوم يحملون الشاشات معهم أينما كانوا ، وسط مطر غزير من الألعاب الإلكترونية ، والتطبيقات الذكية التي تحمل العالم كلّه وتضعه بين أيديهم بخيره وشره ، وفي الوقت الذي كانت الأمّ فيه ربة للمنزل فقط في الجيل السابق غالباً ، فإنّ جيل اليوم مجبر على التعامل مع غياب كلا الأبوين عن المنزل بحكم متطلبات العمل ، وانشغالهما معظم الوقت بالسعي لتوفير ما كان يعتبر سابقاً كمالياً ، إلى جانب أنّ انتقال المجتمع إلى الشكل النووي للأسرة ، ساهم في حصر مهمة التربية في الأبوين غالباً ، مع تراجع دور العائلة الممتدة التي كانت تشارك في عملية التنشئة وزرع القيم سابقاً ، لتتدخل عناصر كالإعلام والتكنولوجيا والتطبيقات الرقمية وزمرة الأصدقاء في عملية التربية على نحو صامت وخفي ، الأمر الذي يشكل تحدياً على مستوى قدرة الأبوين على إحاطة أبنائهما بالأمن الذي لم تعد أبشع كوابيسه أن يتعرض الابن لحادث ما ، أو أن يتأخر في العودة إلى البيت بعد المدرسة لساعة أو ساعتين .
إنّ تنشئة جيل اليوم تقتضي أن يكون الصبر و الحبّ والحوار والإصغاء والتوجيه الهادئ أهم متطلبات التواصل معهم ، لتكون المراقبة والمتابعة المتواصلة على الطرف الآخر ملازمة لهم ، ولتكون المناقشة طريقاً لبناء شخصيتهم الواثقة وإرادتهم الحرة بعيداً عن أساليب العنف والقهر والخوف ، وأثناء العمل على كلّ تلك القيم العميقة يمكن تخيّل حجم الجهد النفسي والعقلي والعصبي والروحي الذي تبذله الأم لإبقاء يدها في منتصف العصى ، دون أن تفقد السيطرة في كثير من اللحظات التي تزداد فيها حجم الضغوط التي تتعرض لها ، وفي زمن الأزمات الاقتصادية والوباء والاضطرار لإغلاق المدارس أصبحت الأم مؤسسة متكاملة من الأدوار ، فإلى جانب دورها كأم عاملة ومدبرة لشؤون البيت ؛ تجسدت الأم خارج أبيات الشعر لتصبح مدرسة حقيقية متكاملة ، تقوم بدور الإدارة المدرسية في ضبط ساعات الدراسة ومتابعة الأبناء للواجبات وأداء الامتحانات ، كما أنها مضطرة أحياناً لسد الثغرات التي تنتج عن غياب الأبناء عن البيئة الصفية ، فتقوم بدور المعلم لأكثر من ثماني مباحث دراسية ولمراحل صفية مختلفة ، فأي دور بطولي ذلك الذي تحمل ثقله تلك المرأة ، وهي الكائن الذي ميزه الله بالرقة واللين .
وهنا تتجلّى وصايا خاتم الأنبياء والمرسلين ، وقد كان خيرنا بأهله ، بعد أن قال : استوصوا بالنساء خيراً ، ليقرر بأن خيرنا من كان خيراً لأهله ، ويبدع في وصفهن في موقف آخر بالقوارير وهو يوصي حادي القافلة أن يترفق بهنّ كي لا يضطررن للإسراع في المشي ، مشبّهاً إياهن بالزجاج الصافي ، فكيف ونحن اليوم نُلقي بثقل هائل على أكتاف تلك التي أخلصت في غايتها ، وهي تُعين الزوج على مشقة الطريق ، وتربي جيلاً من الأبناء لا يكفي لمتابعته وتلبية متطلباته عشرة من الأمهات ، فرفقاً بها ، وكفانا اتكالاً على جميل خُلقها ، وصدق عطائها ، ونكرانها لذاتها ، ولنكن عوناً لها وظهراً قوياً يساندها ، وهو ما لا تتوقف مسؤوليته على الزوج والأبناء فقط ، وإنما هي رسالة للمجتمع بأسره لأن يترفق بها ويكفّ عن الميل بثقله على أكتافها ، فلها ترفع القبعات وتصفق الأكف اعترافاً بفضلها وتقديراً لعظيم جهودها .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: