أبي 

قصيدة للشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث (1932-1963)

ترجمة د. محمد عثمان الخليل


كان عمر سيلفيا بلاث ثمان سنوات عندما ظهر الموت في حياتها الطفلة. بدأ الأمر بتورم الاصبع الكبير في قدم أبيها – ذلك الألماني المهاجر الذي كان يعاني من مرض السكر ومضاعفاته. ثم بدأ موت الغنغرينا الأسود من الأطراف. حاول الأطباء إيقاف هذا الموت الزاحف بقطع أوصال أبيها شيئا فشيئا عل وعسى. لكن الموت لم يتوقف وكان قدر تلك الطفلة أن تشاهد أباها الحاني يُقطّع ويُعذَّبُ أمامها في رحلة جهنمية بطيئة للموت. أين الله، تساءلت سيلفيا؟ كيف يسمح بهذا؟ وعندما مات أبوها قالت الصغيرة جملتها الشهيرة: "لن أكلم الله بعد الآن".

تنطلق قصيدة "Daddy"، التي كتبتها بلاث في الثاني عشر من أكتوبر عام 1962 بعد شهر من انفصالها عن زوجها الشاعر البريطاني تيد هيوز (1930-1998) وقبيل أربعة أشهر من انتحارها – تنطلق من تلك اللحظة السوداء (والأسود لون حاضر بقوة في القصيدة)، لحظة الحرمان القاتل من الأب، المنطبع في ذاكرتها، وهو حرمان دفع بها، كما تقول، لأحضان هذا الرجلٍ الآخر (هيوز) الذي خانها وأساء لها.  وحتى تتحرر من هذا الرجل صار لزاما عليها أن تتخلص من أبيها الذي تقمصه هيوز. صار لزاما أن تقتل أباها، ولتقتله كتبت سيلفيا هذه القصيدة الغريبة الصادمة الرائعة. ستعيد أباها إلى أصولٍ هربَ منها وإلى أفكار وأفعال لا علاقة له بها، وهو أستاذ الأحياء المنشغل أبدا بأبحاثه عن الحشرات واليرقات ("ملك النحل" كما أسمته في أشعار أخرى). لكنه سيتحول في هذه القصيدة، مثل يرقاته، إلى أبٍ ألماني آخر تربط صورته بأسوأ جرائم الإنسانية في القرن العشرين. صورة الأب التي نصل لها في النهاية، والذي تتخلص منه بلاث، هي الصورة المركزّة للأبوية الذكورية في أسوأ درجاتها، للرجل المتسلط المتألّه.

من البديهي القول إن الترجمة قاصرة في الشعر، وهذه القصيدة الإشكالية التي تعبر كلماتها، وغالبا ظلالُ كلماتها، عن تجربة ونفسية بلاث المضطربة والخاصة جدا – تشكل أيضا تحديا خاصا للترجمة. فالقصيدة تبدأ في الإنكليزية على نسق ترنيمة أطفال معروفة nursery rhyme (وبلاث كانت حينها ترعى طفليها وكانت تكتب قصائدها في الليل بعد أن تحكي وتنشد لهما ليناما)، ثم تعبُرُ من خلال هذه الترنيمة إلى صور وإشارات خاصة من طفولتها في ماساتشوستس وحياة أبيها في كاليفورنيا، ثم تخرج من ذلك إلى عبارات وصور ورموز من الحقبة النازية في ألمانيا. وقد حاولتُ في ترجمتي التالية أن أقدم ترجمة توازن بين هذه اللغة الخاصة ببلاث وعالمها المزدوج وبين الديناميات الشعرية للغة العربية.

Daddy

أبي



You do not do, you do not do

كان يا ما كان، وما عاد كان

Anymore, black shoe

كان هناك حذاءٌ أسود

In which I have lived like a foot

عشتُ فيه مثل قَدَمٍ

For thirty years, poor and white,

ثلاثين سنة، فقيرةً بيضاء،

Barely daring to breathe or Achoo.

بالكاد أتنفسُ أو أعطسْ



Daddy, I have had to kill you.

أبي، كان عليّ أن أقتلكْ.

You died before I had time——

لكنك متَّ قبل أن يُتاح لي ___ ___

Marble-heavy, a bag full of God,

ثقيلٌ كالرخام كُنتْ، كيس ملئ بالله،

Ghastly statue with one gray toe

تمثالٌ شاحبٌ بإصبعٍ رمادي

Big as a Frisco seal

ضخمٍ مثل فقمةِ فرانسيسكو



And a head in the freakish Atlantic

ورأسٍ في الأطلسيّ المخيف

Where it pours bean green over blue

حيث يهبط الأخضر النباتي فوق الأزرق المحيط

In the waters off beautiful Nauset.

في خلجان نوسيت البديعة.

I used to pray to recover you.

كنتُ أصلّي كي استعيدك أنت.

Ach, du.

آخٍ منك أنت.



In the German tongue, in the Polish town

بلسانٍ ألماني، في مدينة بولندية

Scraped flat by the roller

سوّتها بالأرضِ جرافاتُ

Of wars, wars, wars.

الحروبِ والحروبِ والحروبْ.

But the name of the town is common.

لكن اسم البلدة شائع.

My Polack friend

صديقي البولنديُّ



Says there are a dozen or two.

يقولُ هناك منها عشرةٌ أو عشرونْ.

So I never could tell where you

وهكذا لا أعرف أينَ

Put your foot, your root,

وضعتَ قدمَك، جذوركَ،

I never could talk to you.

لم أستطعْ أن أكلمْكَ.

The tongue stuck in my jaw.

لساني علقَ في فكّي.



It stuck in a barb wire snare.

قد علِق في فخٍ من الأسلاكِ الشائكة.

Ich, ich, ich, ich,

أنا.. أنا.. أنا.. أنا..

I could hardly speak.

ما عدتُ أستطيعُ الكلامْ.

I thought every German was you.

صرتُ أظن كلَّ ألمانيٍّ هو أنتَ.

And the language obscene

واللغةَ الكريهةَ



An engine, an engine

قطارٌ.. قطارٌ

Chuffing me off like a Jew.

يأخذني مثل يهودية.

A Jew to Dachau, Auschwitz, Belsen.

إلى معتقلات داتشو، وأوشويتز، وبيلسن.

I began to talk like a Jew.

بدأتُ أتكلمُ كيهودية.

I think I may well be a Jew.

ربما أكونُ يهودية.



The snows of the Tyrol, the clear beer of Vienna

ثلوجُ تيرول، جعةُ فيينا الصافية

Are not very pure or true.

ليست نقيّةً تماماً، ليست حقيقيّة.

With my gipsy ancestress and my weird luck

بأجدادي الغجر وحظي الغريبْ

And my Taroc pack and my Taroc pack

وأوراقِ التاروت، أوراقِ التاروت

I may be a bit of a Jew.

ربما فيّ شئٌ من اليهود.



I have always been scared of you,

كنتُ دائماً أخافُ منك.

With your Luftwaffe, your gobbledygoo.

بطيرانِك النازي وهرائِك.

And your neat mustache

وشاربِك الأنيق

And your Aryan eye, bright blue.

وعينكَ الآرية، زرقاءَ اللون.

Panzer-man, panzer-man, O You——

رجلَ البانزر، رجلَ البانزر أنت



Not God but a swastika

لستَ الله ولكن الصليبَ المعقوفَ

So black no sky could squeak through.

أسودٌ لا سماءَ تتسرب منه.

Every woman adores a Fascist,

المرأة تعشقُ الرجل الفاشي،

The boot in the face, the brute

بسطاره في الوجوه

Brute heart of a brute like you.

القلب الوحشي الوحشي لوحش مثلك.



You stand at the blackboard, daddy,

تقفُ بجانبِ اللوحِ أبي،

In the picture I have of you,

في الصورة التي بقيت لكْ،

A cleft in your chin instead of your foot

شقٌ في ذقنكَ بدلاً من قدميكْ

But no less a devil for that, no not

لكنك شيطانٌ حتى بدونِ ظلوفْ

Any less the black man who

رجلاً أسودَ



Bit my pretty red heart in two.

عضَّ قلبي الأحمرَ الجميلَ شَطَرَه نصفين.

I was ten when they buried you.

كان لي عشراً حين دفنوكْ.

At twenty I tried to die

في العشرينَ حاولتُ أموت

And get back, back, back to you.

وأعود أعود أعود إليكْ

I thought even the bones would do.

ظننتُ العظامَ تكفي لذاكْ.



But they pulled me out of the sack,

لكنهم أخرجوني من الكيسْ،

And they stuck me together with glue.

ولصّقوا بعضي ببعضٍ من جديد.

And then I knew what to do.

وعرفت حينها ما يجب أن أفعل.

I made a model of you,

صنعتُ تمثالا لك،

A man in black with a Meinkampf look

رجلاً متشحاً بالسوادِ ونظرةِ "كفاحي"



And a love of the rack and the screw.

وهوسٍ بالحديدِ والبراغي.

And I said I do, I do.

وقلتُ نعم، نعم أقبلْ.

So daddy, I’m finally through.

وهكذا يا أبي، قد خَلَصتُ منك أخيراً.

The black telephone’s off at the root,

سِلْكُ الهاتفِ انقطعَ من الحائطْ،

The voices just can’t worm through.

ما عادت الأصوات تنفذ منه كالثعابين.



If I’ve killed one man, I’ve killed two——

إن قتلتُ رجلا فيك، قتلتُ رجلين ——

The vampire who said he was you

مصّاصَ الدماءِ الذي قال إنه أنت

And drank my blood for a year,

ومص دمي لسنين،

Seven years, if you want to know.

سبعَ سنينٍ إن أردتَ المزيد.

Daddy, you can lie back now.

أبي، يمكن أن تستريحَ الآن.



There’s a stake in your fat black heart

هناك وَتدٌ مَزروعٌ في قلبِك الأسودِ البدين

And the villagers never liked you.

والقرويّونَ ما أحبّوك يوماً.

They are dancing and stamping on you.

هم يرقصونَ الآنَ ويدوسونَ عليك.

They always knew it was you.

كانوا دائماً يعرفونَ من تكون.

Daddy, daddy, you bastard, I’m through.

أبي، أبي، أيها اللقيط، قد خَلَصتُ منك.






Share To: