حتى بعد اليوم الثالث من نزوله ببيتي ضيفا لم أسأله على عادة أهلنا في الشام عن سبب زيارته، ليس لأن مدة السؤال لدينا زائدة عن السوريين، بل لمعرفتي بأنه أوروبي يدرك سر واخلاق الوقت، فسلمت له في ثقة تامة الزمن بالكامل ليتصرف كيفما شاء، لكن ما إن نزعت عني هذا الانشغال حتى أقحمني في آخر بسؤاله الكبير، كنت أتوقع أسئلته فهو رجل أبيض، فلن تكون جعبة أسئلته بأقل من حقيبة أشيائه البيضاء الكبيرة ذات القفل الرقمي المعقد، المعطرة بعبق الرطوبة المتوسطية، والتي حملها من مطار إلى مطار حتى وصل إليَّ بإحدى زوايا الهامش الجنوبي بالجزائر:
- من يفك الاشتباك اليوم؟
- (...)!
- أفهم استغرابك، سؤال صار صعبا يا صديقي، كنا نسمع عن حراس الأصابع التي كانت جاهزة على حواف الأزرار من البحر إلى البر بالصواريخ الفتكة، لكن الشتائم والملائم والرجائم التي فاقت شهب السماء حرقة لا حارس لأصابع أزرارها على الحواسيب، تمضي بسرعة البرق وتنفجر كأنغام سيئة مضادة للاشخاص!
ارتج قلبي من فصل جيد من فصول مجالسة عقل أوربي بارد ونحن نحتسي شاي على مرتفع رملي ، فاستقمت جالسا بعدما حاولت الاضطجاع على الرمل كعادة أبناء الصحراء، أما هو فرفع بناظره إلى السماء حيث يعلق القمر ببدر قرصه المكتمل المشع كقلادة ألماسية متدلية على نحر أسمر لغجرية راحلة راجالة في الصحارى، قائلا:
- آه صدق أو لا تصدق.. لقد نسيت أن لكوكبنا قمرا رغم تخصصي في الكونيات؟
ما هذا النوع من النسيان؟ صحيح أن سماءهم كما أجسادهم بيضاء تنمحي منه النجوم والكواكب، لكن ومع كوني لا أفهم في الكونيات بل لعلي أسمع بهذا التخصص أول مرة، لم استوعب كيف لمتخصص فيها لا يرفع رأسه مرة في عمره الثلاثيني إلى السماء ليرى منعليها أن القمر موجود هناك كحارس ثان للأرض حين ترحل لتسريح الشمس، وكدت أن أخطأ وأتذكر الآية لأقول له
“ ما أنساكه إلا الشيطان”!
فساعتها كان سيسخر مني أو حتى يغضب وينزع عن طوله الفارع قميص وعمامة الطوارق اللذين ألبستهما إياه قبل اعتلائنها العرق الرملي، وشكرت الله على نعمة النسيان، كما كان يردد أبي كلما تذكر جرحا، فالذي لا يرى القمر في السماء الباردة كيف يرى الشيطان في ظلمة نفسه مثلما أراه أنا.
أذكر يوما كيف انتفض ضدي “القلم الأحمر” زميل في الدراسة هكذا كنا نسميه لغلواء نقده لخواطرنا، وأنا استعيذ من كلامه بالشيطان الرجيم، “هلا كففت عن هذا، يا رجل ارحم شياطين وهْمِك وارجم شياطين واقعك الذين يأكلون من صحونك ويشربون دمك.. فيومها سكت!
لكني لا ازال أحمل الشياطين معي
غير أن حكاية القمر مع ضيفي الأوروبي لم تبدأ في هاته اللحظة بل حين هممنا بعد الزوال بالخروج للسهر بالبادية القفر، استغرب زي الطوارق مع النظرات السوداء وقال لي كأنهم يعيشون على القمر! حينها شرعت أقفز على رؤوس أصابعي وحبات الرمل تتطير من تحت قدمي وهو يضحك ويستفهم حركاتي، لم أجبه ولم أضحك مثله واكتفيت بالقول في نفسي عسى أن يفهم بأننا كظلالنا خفيفين على هاته ارض كما رأيناكم على القمر الذي نسيتموه في السماء ولا نفتأ نذكره نحن في الارض..
لم يلح في سؤاله عن حركاتي وقفزاتي فارتحت لموقفه بالقول:
ربما احترم سكوتي!
لم أترك الرجل في حالة ضيق وتضايق فهو ضيف والضيف عند هو ملك مؤقت علينا كما نزعم في تقاليدنا الشرقية، فقلت له:
- إذا أزعجك اللباس الطارقي يمكنك نزعه ليس نظاما ولا تعصبا، والبس لباسك الأوروبي.
رأيت سرورا ينبلج من تحت ضوء القمر من ملامح وجهه، حتى وهو يتصنع الراحة ويفند مجاملة وحفظا لأدب الضيافة أي ضيق أو تضايق وليته كان صادقا بعد الذي قاله واقترحه علي:
- طالما أن الامر كذلك فلما لا نتعرى تماما على الرمل بما أننا هنا لوحدنا ونترك قرص القمر يرقص بنوره الذهبي على جسدينا..
أقفلت كل أبواب ونوافذ روحي حتى لا يسمع شيئا من صمتي الصارخ في قعر نفسي ، وأنا ألعنه لعنا كبيرا، واستغيذ من الشياطين أن يحضرون، ولما رآني متأخرا في الرد على الاقترح فهم أني أرفض ولكني لا أمانع أن يتعرى هو وحده فقال لي:
- أحتاج أن نتعرى سويا قبل أن أغادر غدا باتجاه زيغينشور بالسنغال
قلت بداخلي:
هه! لم أخطئ التقدير لقد كشف عن سبب زيارته، ذكرني برالي باريس الجزائر دكار لسنوات السبعينيات وبداية الثمانينات، الاوروبي له أخلاق الوقت لكن لا أخلاق له داخل الوقت، لماذا يريد أن يعريني في طريقه إلى زييغينشور بالسنيغال؟
شيئا فشيئا جاء صوت من أقصى البادية حيث تركنا المدينة تبدو في كبدها من تحتنا على العرق الرملي، ككعكة عيد الميلاد عجوز عليها شموع عدة بعدد سنوات العمر، أشار إلي براحة يده كاشارة الشرطي في الطريق بالتوقف عن الكلام للحظة كي يميز الصوت فلحظتها فرحت وقلت لقد جاءني الفرج وسخرت مرة اخرى من زميلي السابق في الدراسة “القلم الأحمر” وقلت له:
- هذا الآدان وهو موعد صلاة العشاء !
فأومأ لي باشارة الاحترام برأسه فهو كما اهله يحترمون حرية الاعتقاد والتعبد حتى في البراري والصحارى القصية!
وهكذا فلتت من سؤال التعري في عراء الصحراء
ولما عدت، لم اتركه يستحوذ علي هكذا، خططت وأنا في الصلاة، فقلت له ما المغزى من زيارتك للسنغال؟
- أحمل دواء صديق مريض أخشى عليه من أن يتفاقم حاله، وارجو أن لا تسألني عن مرضه فلن أخبرك هي أسرار الناس التي يجب أن نحفظها لهم، قد أخبرك إذا سمح لي بذلك، سأرسل لك رسالة على حسابك.
تلقفت عبارة السر وادعيته أنا أيضا عالقا بجسدي حجة لعدم التعري، فابتسم الأبيض بسيماء من ادرك أننا في حرب باردة الكلام،
لا عليك سأتعرى بعد غد في السينغال وارسل لك الصور إذا لم يكن ذلك يزعجك طبعا، فأنا لا أريد ازعاج أحد خصوصا من فتح لي باب بيته
تظاهرت بعدم الانزعاج، وأنا أحدثه في نفسي،” سيصلك صوت الاذان إلى هناك في غابات السنغال وسيقوم صديقك من فراش المرض ليصلي وتموت فيك شهوة العراء” قمنا نرفل لباسنا من ذرات الرمل هامين بالعودة إلى المدينة..
بعد اليوم الثالث من افتراقنا فتحت الحساب فانصعقت، إذ هما الأثنان معا على الصورة كما ولدتهما أماهما، لم أصدق أن السنغالي كان أشد بياضا منه.. فقرأت
عزيزي العربي:
أحييك هذا صديقي على النت مامادو حيدرة بكى مطولا سمرته التي كان يمزقها من عايه البهاق قسرا يوما بعد يوم داخل غرفته التي لم يخرج منها مذ حل بجسمه قبل ستة أشهر وقد استهلك الدواء الذي حملته له حتى صار مثلي ابيضا كاملا!
قبل أن أعيد له الاسال ساءله إن كانا ستبقيان أبيضان هناك أم يعودان معا إلى أوروبا؟ تعريت تماما أما المرآة أبحث عن شيء من علي!
Post A Comment: