أحياناً أقول لنفسي ساخرًا: لو سألت الأخلاق عن جنسيتها؟، لقالت لي دون تردد أنا أمريكية. بالحديث عن "Captain Phillips"
فلم كعادة الأفلام الأمريكية، كل شيء أخلاقي مالم يقع بنا. هذا الفلم يذكرني في أحد الأفلام مشتركة الإنتاج البريطاني والأمريكي التي شاهدتها مؤخراً " The Imitation Game". وهو فلم عن عالم رياضيات بيرطاني يقوم على فك شيفرة "الانجما" في الحرب العالمية الثانية، وهي شيفرة استخدمتها القوات النازية في الحرب لتواصل بينهم.
أذكر كان هناك مشهدين مهمين مر بعضنا عليهم مرور الكرام، مشهدين لا يمكن إلا أن نحللهم بكل دقة دون التجاوز عنهما.
بداية من مشهد الذي قال به "آلان" أثناء سهرة الليلية حين كان يخبره صديق له أنه سمع جندي ألماني يقول لحبيبته "أحبك"، ينتفض "الآن" مصعوقًا بعد هذا المفتاح الذي سيساعده على فك الشفرة، ويردد ماذا قال؟.. ماذا قال؟ يرد الصديق لقد قال أحبك.
يخرج" الآن " مسرعاً مغادرًا السهرة إلى جهاز الفك وهو يردد جملة: "هذه أحبك ستكلفهم خسارة الحرب" وهي بالفعل قد كلفتهم خسارة حرب. لكن نتسأل ضمن الموضوعية ولنتفرض ما حدث هو العكس تمامًا أن النازيون هم من قاموا في فك الشيفرة عن طريقة كلمة أحبك بين حبيبين، كم فلمًا سيخرج علينا متعاطفًا مع قضية حب استغلها النازيون ضدهم وكلفتهم خسارة حرب وارواح.
أعتقد اننا لسنا بحاجة للإجابة؛ لأن الأجوبة دائماً كانت حاضرة لنا من الأفلام الأمريكية والبريطانية في عملية هتك الأخلاق متى شاءوا.
في المشهد الثاني: بعد نجاح "آلان" في فك الشيفرة، وفي أول اختبار حول إنسانية هذا الآلة والإنسان، تتجه سفينة بريطانية على متنها مدنيين هذا الاتجاة الذي ترسيه السفينة ستكلفهم التقاء مباشر مع القوات النازية، يطلب أحد الأصدقاء من "آلان" أن يخبر السفينة البريطانية في التراجع متوسلاً له أن على متن هذه السفينة احد افراد العائلة، لكن يرفض "آلان" اخبار السفينة؛ مبرراً أن هكذا فعل سيجعل النازيون يعرفون في موضوع فك الشيفرة مما يؤدي إلى تغير وسيلة الإتصال بينهم مرة أخرى، وقد تؤدي إلى خسارة الحرب والتجسس عليهم، بل ويصر على أن خسارة هذه الرواح سوف تحافظ على كمية أكبر من الأرواح الأخرى والعكس غير صحيح.
وهكذا تقع سفينة مدنيين ضحية صراعات غير أخلاقية بين قوتين لا يختلف كل منهما في تطرفة عن الاخر.
في ختام الفلم يخرج لنا تصريح صوتي يتحدث: عن إنجازات "آلان" في تقليص مدة الحرب، والمساعدة التي قدمها في تقليص عدد الضحايا. لكن نتسأل مرة أخرى ما مصير الطرف الثاني من هذا الانتصار!، فقط أصبح الأمر في قمة الأخلاق عندما تحولت عدد الضحايا من بريطانية أمريكية إلى ألمانية، ولست هنا أيضا للحديث والناقش حول المثلية الجنسية، لكن هذا الفلم كان يتطلب منا أن نتعاطف مع "آلان" حول شخصيته المثلية وما كان يعانيه، لكنه لم يكن يتطلب منا أن نتعاطف أو نتسال عن ضحايا الألمان، فالبروباغندا كانت ساطعة هنا حد النجومية.
بالعودة إلى فلم "Captain Phillips" الذي هو بالأساس حرب رهائن؛ من أجل المال وليس القتل، يتم عطب الشخصية متى يشاء الإخراج الأميركي؛ لكي نتعاطف معها، في المنظور الآحادي لسنا هنا بصدد أن نتسأل عن الأسباب التي دفعت أربعة قراصنة صوماليين للاستيلاء على باخرة محملة! واحتجاز القبطان رهينة من قبل القراصنة الذين هم من الأساس صيادون، دفعتهم بعض الشركات التي استولت على كل خيرات البحر إلى ان يتحولوا إلى قراصنة. نحن هنا بصدد أن نتعاطف فقط مع القبطان الأمريكي ونلعن أربعة أشخاص جعلت منهم الحياة قراصنة مجرمين.
في أكثر المشاهد مصداقية ذلك المشهدين المكررين، عندما يقرر أحد القراصنة بعدما عجز عن التفاوض مع البحرية الأميركية من أجل مبلغ من المال مقابل إخلاء سبيل القبطان يقرر أن يتقل، لكن القبطان يقول له: "أنت لست صياد أنت مجرم قاتل"، يتراجع القراصنة عن هذا الفعل أكثر من مرة؛ مما يتضح أنهم ليسوا قتله.
الشخصية الأميركية الأخلاقية حاضرة دائما بكل الأفلام مثل قوانين الإله، سبحانك ربي، القبطان وهو رهينة يعرض دائماً المساعدة على القراصنة لمعالجة الحراج التي اصيبوا بها، لكن القراصنة يرفضوا إعطاء هذا القبطان شرب الماء حتى، فإذا كانت الكاميرا انتاجاً أمريكي فإنه يتم تحركها بتلاعب بهلواني بين محوري الأخلاق.
ليس ما أكتبه الآن دفاعًا عن أفعال القرصنة التي ارفضها رفضاً قاطعاً، بالقدر الذي أرفض به تسير الإنتاج الأمريكي كيفما يشاء. بنهاية تم أخذ رهينة من القراصنة لدى القوات البحرية الأمريكية، وتم قتل ثلاثة قراصنة عن طريق القنص من هذه القوات، وبعدها وقفت اتساءل: الم يقولوا وهم يقدسوا إنجازات "آلان" إنه قلص عدد الضحايا في الحرب، لماذا لا نفترض أن القوات الأمريكية كان عليها ان تضحي في رهينة مقابل ثلاث قراصنة! نرجع مرة أخرى إلى محور الكلام، عندما قلت أن كل شيء أخلاقي مالم يكن بهم. فلم يرجعنا إلى قناعة مزيفة أن الإنسانية جمعاء متساوية، وترسخ ببالنا أن فلسفة الرهائن متفاوة بالقيمة.
مع نهاية الفلم عدت مع نفسي إلى ثلاثة أعوام، ثلاثة أعوام لا أنساها ابدًا، ثلاثة أعوام تمنيت وقتها أن أقلب هذا العالم على راسه؛ لعله يتزن، بعدما قرأت مقالاً بعنوان "سوق العملة البشرية" بكتاب "ثقافة العين وثقافة الأذن" للمفكر المغربي "عبد السلام بنعد العالي"
حين كتب نصًا في المقال يتحدث بهذا الموضوع: " كتب أحدهم ذات مرة متسائلاً: لماذا لا توجد رهائن عربية؟ لماذا لا يستعمل الغرب سلاح الاختطاف فيحتجز رهائن من العرب ويطالب الحكومات العربية بدفع مقابلات مادية وتضحيات بشرية لتحرير تلك الرهائن؟ الجواب الذي يقدمه صاحبنا كافِ لإجلاء العوامل الذاتية التي تكرس التفاوت بين قيم العملة البشرية: لا وجود لرهائن، لا لأنها تعجز عن ذلك، وإنما بكل بساطة، لأن الرهينة لا ثمن لها أو لان ثمنها من الهون بحيث يشعر من يطالب به ومن يدفعه بشيء غير هين من المهانة ولعل هذا تجلى، وأكثر ما تجلى عند اللحظات التي تكون فيها عملية التبادل ضرورية فيطرح تقويم(السلع) المتبادلة، كما هو الشأن عند تبادل أسرى الحرب حيث تجد بعض الحكومات ( الصعبة) مستعدة لدفع مئات من وحدات العملة البشرية (الهينة) مقابل فرد واحد. لا لأن ذلك الفرد يستعد قيمتة من عملية التبادل نفسها، وإنما لأن له قيمة في مجتمعة، ولأنه عملة صعبة حتى قبل التبادل. إنه جوهرة نفسية لا يمكن التضحية بها حتى لو كان ذلك إسعاد البشرية جمعاء"
إنه جوهرة نفسية، إنه جوهرة نفسية! في حين كنا نحن وكل دول العالم الثالث نباع في أرخص الثمن بالمزاد العلني.
Post A Comment: