عادة ما تبدأ الشركات والمؤسسات وحتى المحال الصغيرة بجرد حساباتها مع اقتراب نهاية العام ، حتى تتمكن من تبيّن موقفها المالي ، وإعداد موازنة العام القادم في ضوء معطيات الربح والخسارة والتطلعات ، لكنّ الإنسانية وهي تخطو نحو الثلث الأخير من العام 2020 أحوج ما تكون إلى عمل جرد لحساباتها القيمية والأخلاقية ، والتي كشفت جائحتها الكورونية عن مدى هشاشتها وضعف أساساتها ، ذلك الضعف الذي ستلمسه الأجيال القادمة وهي تتصفح تاريخ الحقبة الزمنية التي حملت بين ثنايا أكثر إنجازاتها العلمية والتقنية إبهاراً ، الكثير من الإخفاق الذي ألمّ بإنسانية الإنسان وعلاقته بكلّ ما في الكوكب من أسباب البقاء .
في البداية ظهر الرقم 2020 جميلاً ، فهو لن يتكرر في الألف عام القادمة ، إلّا أنّ جماله كان في شكل الخانات دون قيمتها ، فقد جاء مصرّاً بمفاجآته الثقيلة على صفع البشرية بقوّة علّها تُفيق على ما اقترفت يداها من فظائع بحق كل خُلق سويّ وقيمة إنسانية ، فالتاريخ لن يكون رحيماً وهو يروي تفاصيل سجلّ حافل بالحروب وبؤر الأزمات ، ويرسم صورة دموية لضحايا الحروب والإرهاب والتطرف والتمييز والفقر والجوع والعنف ، وإنّ الأجيال القادمة لن تترحم على من نهبوا خيرات الأرض بشراهة ، وأتوا على توازنها البيولوجي بنَهَم عبثيتهم ، فالقليل مما ستقرأه تلك الأجيال عن مشاريع التمكين ومحو الأمية وعلاج الكثير من الأمراض الخطيرة ، لن يُشكلّ فارقاً أمام حجم الاستنزاف المحموم لكلّ معاني الإنسانية وقيمها .
وإذا ما نظرنا إلى هذا العام من زاوية أكثر عدلاً ، فإنّ الفرصة كبيرة في رؤية الرسالة المُضمنة بين سطور الأحداث التي تبدو سريعة وفي غاية الجنون وعلى كلّ المستويات ، وكأنها تضرب صافرات الإنذار لتُنبه البشر في كلّ العالم فتوقظ بعضاً من بقايا إنسانيتهم ، فالفيروس لم يستثن مكاناً ، ولم يُميّز بين إنسان وآخر ، فالأعراض ذاتها ، وأساليب الوقاية ذاتها ، وإجراءات المواجهة هي أيضاً ذاتها ، لم تختلف بين دولة عظمى وأخرى ضعيفة ، وحتى في جهل سبُل العلاج لم يوجد اختلاف ، وكأنّ هذا المخلوق الدقيق في حجمه يُلقّن البشرية الدرس الأهم قبل فوات الأوان ، ولقد كانت فترة الحظر والإغلاق استثنائية وقد أوقفت عقارب الزمن ليتمكن كلّ فرد في كلّ مكان من الوقوف أمام المرآة مواجهاً نفسه ، ومراجعاً حساباته وطريقته في التفاعل مع أحداث الحياة التي جرفته بتسارعها ، وماديتها ، وأرقامها ، ليرى بوضوح ضآلة معرفته التي لا زالت تقف عاجزة أمام فيروس مجهري .
ولا زالت رياح الجائحة تعصف بسكان الأرض ، وتجتثّ غرورهم وجبروت غطرستهم ، وهي تقتلع كلّ ما في طريقها ، فأضخم القطاعات الاقتصادية اهتزت عروشها أمام إجراءات الإغلاق الوقائية ، في حين تمكنت بعض القطاعات الصغيرة من الصمود في وجه العاصفة ، ضاربة بكلّ مفاهيم المال والأعمال عُرض الحائط ، كما تنبّه البشر عبر القارات إلى بقايا الإنسانية في أعماقهم وهم يبحثون عن سبُل للتواصل من وراء جدران العزل المنزلي ومسافات التباعد المكانيّ ، فكان الإنترنت المعقل الأكثر حصانة ، وقد بات ميداناً للتعلّم والتسوّق وإدارة المشاريع ، وفي غمرة البحث المتعطش للقاء مع الذات ، حتى الفنون والموسيقى وجدت ضالتها في الفضاء الافتراضي ، غير آبهة بالمكان واللون والعرق واللغة ، وهكذا حلّ كل شيء بطعم مختلف ، فرمضان والأعياد لم تكن كالمعتاد ، والصلاة في المساجد والكنائس أيضا لم تكن كالمعتاد ، والعام الدراسي ، وكلّ المناسبات لم تكن كالمعتاد ، لقد برهن الفيروس على أنّ البشرية تعيش الضعف والعجز في أوضح حالاته ، كما برهن على أنّ معاني الإنسانية لا زالت كامنة في جوهر الإنسان .
إذاً فإنّ البحث في أعماق ما تبقّى فينا من إنسانية أصبح هو المعقل الأخير، والملاذ الوحيد الذي يمكن أن تحتمي به البشرية علّها ترى الوجه البشع الذي آلت إليه ، فالكورونا لن يكون الوباء الأخير الذي سيجتاح الكوكب ، ولن يكون هذا الظرف القاسي آخر الاختبارات الصعبة ، ما يلفت إلى أهمية إعداد الإنسان وفق منظومة قيمية تحترم الكرامة ، وتنبذ العنف والتمييز ، وتؤمن بالسلام وحق الشعوب في الحياة والاستقلال واستغلال الثروات ، وفق علاقة أُممية لا استقواء فيها ، ولا بدّ من الإعداد لبروتوكول صحيّ على مستوى العالم كلّه يُنسّق لمواجهة الكوارث الفيروسية ، بشكل يكفل سرعة السيطرة وتقليص حجم الخسائر إلى أقلّ الاحتمالات ، كما ينبغي الالتفات إلى محورية الدور الذي لعبه الإنترنت خلال أزمة الكوفيد – 19 ، الدور الذي يُنبّه إلى أهمية البحث عن بدائل حيوية أخرى في حال حدوث خلل في وسيلة الاتصال الوحيدة التي ترتكز عليها البشرية ، وبالاقتراب أكثر من البداهة فإنّ تحويل المليارات التي تُنفق سنوياً على آلات القتل والدمار نحو إعمار الأرض ، وبناء الإنسان ، وترسيخ أعمدة الرخاء والسلام والعلم والرعاية الصحية ، ستجعل الإنسان أكثر قُرباً من المنطق التي أصبح مفقوداً في أروقة العلاقات الدولية ، كما يجب التنبّه إلى أنّ بيئة الوباء التي امتدت على مساحة قارات العالم لا تزال حيوية ونشطة ، ما يجعل منها وسطاً مناسباً لإعداد الكثير من الدراسات العلمية ؛ للوقوف على ردود الفعل المترتبة على كافة المتغيرات التي طرأت على جوانب الحياة الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والتعليمية ، ومعرفة مدى تناسب الإجراءات التي تمّ من خلالها مواجهة الفيروس وحجم المشكلة ، وتحويل نتائج تلك الدراسات إلى استراتيجيات وخطط تُنفذ على شكل سيناريوهات واقعية تستند على رؤية مستقبلية للواقع القادم ، ووجود خطط بديلة للتعامل مع مسار الأحداث المفاجئة ، وتفعيل مبدأ التعاون الدولي كاستراتيجية بعيدة المدى تتبناها الدول لمواجهة الكوارث ، أو الحدّ من أي أخطار طارئة قادمة ، وهذا يفرض أن يعيد العالم ترتيب أولوياته لتقوية النظام الصحي ، وإنعاش الوضع الاقتصادي ، ورفد البحث العلمي بالمزيد من الدعم الذي يُضيء الطريق أمام الأجيال القادمة ، ويجمعها على صعيد ما يوحّدها .
لا شكّ أن الدرس الذي لا زالت الكورونا تلقنه للبشرية يُعتبر درساً قاسياً ، فنتاجاته لم تكن عمياء كقنابل الحروب التي حلّ دمارها في مكان دون آخر ، ولم تكن جائرة كالفقر الذي استوطن جيوباً دون أخرى ، ولم تكن ظالمة كالتمييز والعنف الذي وشّح بالألم والقهر قلوباً دون غيرها ، فبالرغم من صغر حجم الفيروس ، إلّا أنه نجح في المساس بكل ما طالته يداه ، فلم يفرّق بين غني وفقير ، أو قوي وضعيف ، أو أبيض وأسود ، ولنتذكر أنّ هذا العام لم يبُح بكلّ أسراره بعد ، ولعله باح بها منهياً فصلاً ثقيل الظلّ من الرواية .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: