جريدة وفنجان قهوة  قرب النافذة ، وصوت قطرات المطر تطرق الزجاج في محاولة  مشاكسة لجلب الانتباه ، والمدفأة تحرس المكان ، وأسرار الشعور تتراقص على ذكريات أنغام  الجميلة ماجدة الرومي ، وهي تبث مشاعرها الدافئة في إحدى ليالي الشتاء ، وبالرغم من شغب الازدحام في الطرقات ، واجتياح البرد وعصف الرياح ، إلّا أنّ مجرد تخيّل دفء المكان عند العودة إلى البيت كان كفيلاً ببعث الرومانسية في تفاصيل ذلك الفصل القاسي ، وهو في 2020 يأتي والمشهد أقرب إلى الفوضى العارمة التي اجتاحت العالم مع انتشار واسع للكوفيد – 19 ، ما جعل الشعور العام يذهب في اتجاه الخوف إلى حدّ الرعب من احتمالات تطوّر الفيروس على نحو أكثر فتكاً ، لا سيّما وأنّ أعداد الإصابات في ازدياد ، واحصائيات حالات الوفاة في ارتفاع هي الأخرى ، إضاقة إلى لجوء الكثير من الدول إلى الخيار الأكثر مرارة بالعودة إلى الإغلاق الجزئي مرة أخرى .
والأردن اليوم يشهد تزايداً كبيراً في أعداد الإصابات ، الأمر الذي استدعى الاستمرار في نهج التعلم عن بعد ، إضافة إلى قرارات الحظر الجزئي ، وعلى الرغم من كلّ ما يُتخذ من قرارات وتدابير الغاية منها حصار المرض والحدّ من انتشاره ، إلّأ أنّ ما تمّ رصده من عدم التزام بمعايير الوقاية الشخصية ، وتهافت على المخابز والمجمعات التجارية خلال الأيام السابقة لحظر الجمعة والسبت من كل أسبوع ، إضافة إلى مخالفة قرار الحظر عشية الانتخابات النيابية  في بعض المحافظات  ، وخروج أعداد كبيرة من المواطنين لغايات الاحتفال بفوز مرشحيهم  ، يمكن وضعه في حقيقة الأمر في أكثر من خانة لغايات تفسير تلك السلوكيات  التي طفت على السطح ، و لم تتفق وتدابير الوقاية من خطر انتقال العدوى ، فعلى ما يبدو أنّه وبالرغم من تجاوز مرحلة التكذيب أو التشكيك بوجود الفيروس ، والترويج لنظرية تتحدث عن مؤامرة كونية ، فلا يكاد شخص إلا ويعرف آخراً قد أصيب بفيروس الكورونا ، أو يعرف آخراً توفي بسبب مضاعفاته الخطيرة ، إلأّ أنّ هناك إصراراً غريباً لدى البعض على عدم  الالتزام بإجراءات السلامة  كارتداء الكمامة ، والحفاظ على مسافات التباعد المكاني ، والتقيّد بالحظر المنزلي كما يجب .
ولا شكّ أنّ غياب قيم الضبط الداخلي تعتبر عاملاً هامّاً في تفسير مثل تلك السلوكيات ، إضافة إلى الضعف الشديد في الشعور بالإحساس بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية اتجاه أفراد المجتمع جميعاً ، ، إلّا أنّ هناك عاملاً  شديد الأهمية في تفسير استمرار مختلف السلوكيات المضادة لإجراءات الوقاية ، إذ يمكن لمن يراقب الصورة العامّة أن يلحظ توجهاً قوياً نحو اللامبالاة أو عدم الاكتراث ، فالفيروس موجود ، وخطورته أمر لا يقبل التشكيك ، لكنّ شعوراً من عدم المبالاة أصبح يسيطر على سلوكيات الكثير من الأفراد ليس فيما يتعلق بشأن الوباء فحسب ، بل اتجاه الكثير من الأمور المصيرية والمتعلقة بأمن الآخرين ، وسلامة المجتمع ، وجودة الأداء في نطاق لا يمكن تحديده إلّا من خلال الدراسات العميقة ، واللامبالاة شعور يتعدى مرحلة تجربة مشاعر معينة اتجاه أمر ما ، والدخول في نطاق التجربة الفعلية لذلك الأمر؛ بهدف استخلاص تقييم لشعور اللامبالاة من وجهة نظر الشخص نفسه ، في محاولة لتوجيه سلوكه وفقاً لتجربته الخاصة ، فهو شعور يكاد يقترب أكثر من فقدان القدرة على الاستجابة نحو الأشخاص والأحداث بشكل طبيعي ، وكأنّ الفرد يحاول أن ينفصل عن الواقع غير المرغوب فيه ، ما يعكس ردود فعل غالباً ما تتسم بالبرود ، وانعدام الرغبة في القيام بما يجب فعله ، في حالة سلبية يفتقد خلالها الفرد إلى الدافع والهدف ، فينتهي غير قادر على الاهتمام إطلاقاً ، وغير راغب في المواجهة مع أي من تحديات الحياة وعقباتها .
وشعور اللامبالاة يعتبر شعوراً متراوحاً ، فربّ امرئ لم يتعرّف إلى هذا اللاشعور في وقت ما ، وفي الوقت الذي تربط فيه بعض الدراسات بين اللامبالاة والكثير من العوامل البيولوجية المتعلقة بنمط الحياة اليومية كسوء التغذية ، وقلة النوم ، أو خلل عضوي في عمل الغدة الدرقية ، فإنّ العامل السيكولوجي كذلك يلعب دوره في تمكّن هذا الشعور من الفرد في بعض حالات الاكتئاب ؛ الذي يعتبر كذلك واحداً من أهم الآثار المترتبة على  الشعور باللامبالاة  ، ويبقى العنصر المشترك بين تلك العوامل متعلقاً بالخسارة أو الفشل في تحقيق غاية ما ، وافتقاد الفرد لأسباب السعادة ، والرغبة في تحدي الحياة وأمواج ضغوطاتها العالية ، وفي حقيقة الأمر فإنه لا يمكن إغفال ما تركته الجائحة من آثار شديدة العمق على الصعيد الاقتصادي والنفسي والاجتماعي ، فقد تسللت تبعات المرض ومتطلبات الوقاية  منه إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية ، مغيرة شكل الحياة ومجرياتها ، الأمر الذي خلّف كثيراً من الظروف الضاغطة ، وتلاعب بأحلام ومخططات الكثير من أفراد المجتمع ، وفي مثل هذه الحالات فإنّ القلة يتمكنون من الاستجابة بشكل إيجابي ، ويجتهدون في التكيّف ، ويسعون لتغيير الواقع إلى ما هو أفضل ، عبر اغتنام الفرصة والكشف عن مواطن المنح في ثنايا المحن ، في حين يستسلم البعض للشائعات ، ويقع فريسة  للأفكار السلبية ، فتضعف قدرته على المواجهة ، وتتناقص ثقته بنفسه  ، وتزداد مخاوفه من الإقدام على رد فعل مناسب ، وهكذا يقضي أيامه خائفاً من المحاولة ، خوفاً من مواجهة الفشل مرة أخرى ، فتضعف دفاعاته النفسية والجسدية إلى حدّ فقدان الشعور بالاكتراث أو التعاطف اتجاه الآخرين ، وهو يفقد تدريجياً الشعور بالتعاطف العام على المستوى الإنساني ، فيميل إلى الحلّ الأكثر سهولة  فيقف متفرجاً أو ساخراً ، وسط أجواء يسودها اليأس و الملل ، والضجر من كل ما من شأنه أن يثير اهتمامه ، أو يتطلب جهداً بدنياً منه .
لذا فإنّ ذلك اللاشعور والمسمى باللامبالاة يمكن أن يكون أكثر فتكاً من الأوبئة ذاتها إذا ما تحوّل إلى حالة عامّة ، في حالة أقرب إلى الشعور الجمعي ، فهو قادر على إنتاج جيل لا تعنيه القيم ، ولا يكترث لقضايا الوطن والعالم ، يعيش منعزلاً داخل فقاعة صابونية ، ولا يُبصر أبعد من أنفه ، ولا يمكن القول أنّ ما بدر من سلوكيات اللامبالاة من كثير من الأفراد خلال عام الجائحة يعتبر وليد بضع الشهور الماضية ، وإنما هو نتاج للكثير من الوقت الذي تهاوت فيه الغايات ، وتلاشت فيه الأهداف ، وتضاءلت فيه القيم ، حتى لم يعد الفرد يبالي بالآخر أو نفسه ، الأمر الذي يستدعي العمل على تغيير الطريقة التي يفكر بها الأفراد جذرياً ، من خلال السعي إلى إعادة الثقة  لدى الشباب على وجه الخصوص بأهميتهم الذاتية ، وحمايتهم من كلّ مصادر التشويش والتصورات الخاطئة عن الحياة والمستقبل ، كما ينبغي الوقوف مطوّلاً عند محطات الفشل عبر الماضي ، وإعادة تقييمها بشكل واقعي ، دون  جلد للذات وتأنيب للنفس ، مع النظر بشكل أكثر إشراقاً نحو إمكانية تجاوز الخطأ ، واتخاذه خطوة نحو النجاح .
ومع تساقط  آخر أوراق الشجر ، والبدايات الأولى لزخات المطر ، فإنه من المؤسف أن يكون هذا الشتاء بعيداً كل البعد عن المأمول لصورته المختزنة في الحنين ، فالمخاوف كانت صريحة في أنّ تفشي الفيروس سيشهد ذروته خلال الشتاء ، ونحن ولا شك مقبلون على مواجهة الأصعب ، وإنّ أكثر ما يزيد من تلك المخاوف يتعلق بطبيعة سلوك الأفراد خلال فصل البرد والمطر ، والميل نحو التجمع في أماكن محصورة ضمن مسافات شديدة التقارب ، ما يعني أنّ الحاجة إلى مراعاة السلامة الشخصية ، والالتزام بارتداء قناع الوجه ، والحفاظ على مسافات تباعد اجتماعي ومكاني آمنة ، أصبحت أكثر إلحاحاً من ذي قبل ، وإنّ الاستمرار في السباحة عكس التيار الذي يسعى إلى الخروج من الأزمة الصحية التي باغتت العالم في ظلّ أزمة اقتصادية عميقة ؛ لن ينتهي إلّا إلى مجتمع منهك صحياً ونفسياً واقتصادياً ، وعليه فإننا اليوم أحوج ما نكون إلى تكاتف الجهود الرسمية والفردية ، ومضاعفة حجم الالتزام بقواعد السلامة  والوقاية ، ففصل الشتاء القادم سيبقى في الذاكرة ، وإنّ في قدرتنا أن نجعل منه ذكرى جميلة نطرق بابها حتى الشتاء التالي ؛ إذا ما تمكنّا بالجهد العام من هزيمة المرض ، وتقليص أعداد الإصابات ، والخروج من التجربة بدرس بطولي على مستوى الإنسانية . 


Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com






Share To: