ربما يكون حجم الدراسات الاجتماعية التي تمّ ويتمّ إعدادها يتفوّق على أعداد الدراسات في المجالات الأخرى ، وبحسب ما يقتضيه المنهج العلمي ؛  فإنّ هذه الدراسات تلتزم في آلية إجرائها ، وإخراجها بالصورة النهائية بقالب علمي يتحرى الدقة في استخدام المصطلحات والمفاهيم وفقاً لتعريفها العلمي واللغوي والإجرائي ، وخلال ذلك فإنّ على الباحث أن ينأى بنفسه عن السقوط في فخ الانحياز لآرائه ، أو الرؤية من منظور أيدولوجيته أو معتقده ، فهو خلال البحث والتحليل معزول تماماً كما فرق التقصي الوبائي ، وإنّ الدراسة في شكلها النهائي لا تبتعد عن كونها جملة من الجداول والإحصاءات التي تمّ استخراجها على خلفية استبانات تكونت من عدد من الأسئلة التي تُوَجه لمجتمع و عينة الدراسة  ، لتُصاغ إجاباتها بصورة دراسة  يُستدل من خلالها على واقع و اتجاهات الأفراد نحو متغيرات معينة ، للخروج بجملة من النتائج التي تنعكس على شكل توصيات وحلول مقترحة ، وغالباً ما تتعرض هذه الدراسات للكثير من متغيرات الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو العلمية  وعلاقتها بالأفراد ، وكيفية تفاعلهم معها أو استجابتهم لها أو الصراع المترتب عليها  ، من خلال التدقيق في ظواهر محددة وتبيّن أسبابها وآثارها ، ليتمّ اختزال المشكلة موضوع الدراسة وتفاصيلها الكامنة في العلاقات والتفاعلات ، وردود الأفعال على هيئة أرقام لا تكشف جميع جوانب المشهد ، ما يجعل إدراك حقيقة الصراع السيكولوجي للأفراد غامضاً إلى حد ما ، إلاّ من خلال بعض الوصف العاجز عن سرد أبعاد التفاصيل ، وتحسس نبضها بشكل إنساني أعمق    . 
وبالمقابل فإنك عندما تنتهي من قراءة رواية " الجريمة والعقاب " للروائي الروسي الشهير دويستوفيسكي ،  وبعد أن تنخرط في جملة الأحداث التي تحكي قصة بطل الرواية ، فإنك تتمكن من تشكيل صورة متكاملة عن واقع مدينة بطرسبرغ في القرن التاسع عشر ، وما ترتب على الليبرالية وهيمنة اقتصاد السوق من تغيّرات اقتصادية واجتماعية وتوترات بين الأفراد والمجتمع ، الأمر الذي انعكس في صورة الشعور بالاغتراب والتفكك الاجتماعي الذي عانته شخصيات الرواية ، كما أنّ الكاتب قدم من خلال الرواية تحليلاً دقيقاً لسيكولوجية المجرم وأزمته الأخلاقية والصراع بين الخير والشر فيها ، في ضوء المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي نالت من المجتمع الروسي الذي تأثر بالحداثة على الطريقة الأوروبية ، وهو ما جعل الكاتب يحمل هوية الأديب والروائي الذي يفكر بعقل الفيلسوف وعالم النفس وربما الباحث الاجتماعيّ . ولا شكّ أنّ الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز ، تمكن هو الآخر من نقد الأوضاع الاجتماعية بأسلوب لاذع في " أوليفر تويست " و "ديفيد كوبرفيلد " وغيرهما ، فقد امتلك قدرة كبيرة على كشف التفاوت الطبقي في مجتمعه في العصر الفيكتوري ، وما ترتب على ذلك من صراعات اجتماعية محاطة بحلقة مُحكمة من الفساد الأخلاقي ، كما لعبت ثلاثية نجيب محفوظ المزدحمة بالأحداث والأنماط الإنسانية ،  دوراً بالغ الأهمية في تشريح واقع المجتمع المصري في عشرينيات القرن الماضي ، وما طرأ عليه من تغيرات اجتماعية واقتصادية ، وما آلت إليه  من تفاعلات وصراعات أيدولوجية وسياسية  بين الفرد والمجتمع ، الأمر الذي برعت فيه الروائية المصرية رضوى عاشور في  " ثلاثية غرناطة " وهي تروي وقائع سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس ، وتصف بدقة الظروف الاجتماعية والسياسية والدينية التي  رافقت المسلمين حينذاك ، من خلال قصة إحدى العائلات المسلمة ، ليُبدع غابرييل غارسيا ماركيز في سرد تفاصيل الحرب الأهلية في منطقة الكاريبي ، وما مرّ به شخوص رائعته " الحُب في زمن الكوليرا " من تغيرات نفسية وسياسية واجتماعية ، من خلال سرده لتفاصيل العلاقة بين الحُب والحرب والوباء ، ولا يمكن لأي من جيلنا أن يستبعد من ذاكرته أحداث " التغريبة الفلسطينية " ، التي عبّرت عن بعض ما عايشه الكاتب وليد سيف الذي ولُد عام النكبة ، فكانت روايته شاهداً على سلسلة من المتغيرات السياسية والاجتماعية التي ألمت بالشعب الفلسطيني ، وامتداد أثرها إلى الجوار ، الأمر الذي يمكن معايشة المزيد من وقائعه في أولى روايات غسان كنفاني " رجال في الشمس " التي صوّرت واقع الإنسان الباحث عن الخلاص ،  الفاقد لهويته ومعاناته في مخيمات اللجوء ، والقائمة تطول عند الحديث عن روائع الأدب التي حفرت في ذاكرة القرّاء بعد أن شكلوا من خلال قراءتها صورة شاملة عن المجتمعات التي احتضنت شخصياتها ، واختبرتهم بعواصف تغيّراتها .
إذاً فإنّ الإنتاج العلمي في المجال الاجتماعي ، يحتاج إلى الاقتراب أكثر من تلك الصور والحالات الانفعالية والصراع الواقعي الذي يضعنا فيه الإنتاج الأدبي ، خلال وصفه المفعم بالحياة للتغيّرات التي تطرأ على الأفراد من مختلف فئات وطبقات المجتمع ، وأثر ذلك على صراعاتهم وتفاعلاتهم السيكولوجية ، ومن ثمّ تأثير ذلك كله على القيم التي يؤمنون بها ، والتي تنعكس في صورة سلوكياتهم واتجاهاتهم ، الأمر الذي يؤكد على حقيقة أن مجرد التحصن بالمنهج العلمي لن يكون كافياً للوقوف على جوهر المشكلات الاجتماعية ، وملامسة معاناة الأفراد التي يمرون بها من خلال تفاعلهم مع التغيّرات المختلفة التي تهز جذور المجتمع ، وأنّ قيمة قراءة الإنتاج الأدبي لا تقف عند حدود تذوّق صوره الفنية ، وصدقه في تصوير الواقع  ، وسبره أغوار النفس البشرية فحسب ، إذ يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك إذا ما أردنا التعرف عن قرب على تفاصيل التغيّر والصراع ، فالأديب في حقيقته يملك عدسة دقيقة تمكنه من تصوير أدق جزئيات المجتمع ، ورصد أحاديث النفس الغامضة ، والمواجهة الصادقة مع الذات ، في أعمال حافلة بالحوارات والانفعالات والأصوات والصور ، التي تعجز أحياناً لغة الأرقام وبعض الحروف في الُجمل المختزلة عن الوصول إلى احترافها العالي في تجسيدها ، ما يعني أنّ مكتبة عالم الاجتماع و المختصين في هذا الميدان من العلوم  ينبغي أن تحتفي بالكثير من الأعمال الأدبية المحلية والعالمية ، وإلاّ فإنه سيكون كمن يحاول أن ينظر إلى العالم الكبير من خلال ثقب الإبرة الضيق ، كما أنّ عليه أن يبرع في استخدام المفردات والصور التي يتحدث من خلالها عن المشكلة ، ويقترب أكثر من واقع الأحداث ، إذا ما أراد أن يؤدي دوره كجرّاح لمشكلات المجتمع بصورة مُتقنة ،  وليست الدعوة هنا للتخلي عن المنهج العلمي ، أو التقليل من أهمية البيانات الإحصائية ، وإنما هي دعوة لعلماء الاجتماع المختصين للبحث أكثر في سجلّات الأدب من رواية وقصة قصيرة ، والنظر بدقة إلى الكيفية التي  أرّخت ولا زالت تلك الأدبيات له من أحداث وتغيّرات ، وإلى الطريقة التي تفحص بها المجتمع وأفراده وسلوكياتهم ، والاقتراب أكثر في أسلوب عرض المشكلة وحلولها من واقعية الأحداث وما تخلّفه من آثار وتداعيات على النفس الإنسانية .


Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com





Share To: