وتلك الأواعي بأيمانهم
حقائب فيها الغد المُختبي
ففيها الذي إن يُقِم لا يُعدّ
من الناس أو يمضِ أو يُحسبِ
وفيها اللواء وفيها المنار
وفيها التبيع وفيها النبي
وفيها المؤخر خلف الزُحام
وفيها المقدم في الموكبِ
لو أنك تدري يا شوقي كيف صار الزُحام مدّاً عالياً ، وكيف على واقعنا قد هوى ليجتاح بطوفانه البغيض ذلك الغد الذي كانت المخيّلة تداعبه في الصِّبا ؛ وهي تسترق النظر إلى القادم المشرق ، كنّا بالأمس نُحمّل حقائبنا كُتباً وحبّاً وأملاً ، ونحملها على الظهور لنشق بها طريقاً بين صخور الحياة ، ونبني قلاعاً من الأمنيات ، كانت الحكمة تنادي بأنّ لكل مجتهد نصيب ، وأنّ المُجِدّ سيصل في نهاية الطريق ، إنها أبجديات الحياة البسيطة ، لم يكن في اعتبارنا سوى تلك المعادلات البدهيّة للنجاح ، وكلّ دروس التنمية البشرية عن تحقيق الذات ، وقوّة التحدي والإصرار ، والبحث عن بدايات متتابعة خارج مناطق الراحة المعتادة ، وهكذا كانت الرؤى عميقة وجريئة ، لكنها كانت متواضعة أيضاً في ضوء الإمكانات المتاحة ، لكنّ كل اعتباراتنا لم تلتفت إلى تلك السهام التي وإن أخطأت هدفها في مرّات كثيرة ، فإنها لن تُخطئ في آخرها وأنّ المقتل سيكون في إحدى تسديداتها اللئيمة .
وفي ضوء واقع كثير التخبط ، شديد التضارب ، تمكن كُثر من شقّ طريقهم نحو الغايات وحيث تُلوّح المُنى من بعيد ، لكنّ الواقع كان يزداد ضبابية مع تدافع الأزمات ، وفي كلّ مرحلة كان الطريق يصير أكثر تعرجاً ، وكانت طبوغرافية المكان تصير مبهمة شديدة التضرّس ، ولم تعد حِكم الفلاسفة تبدو منطقية ، ولم تعد الحياة قطعة طيّعة من الصلصال ؛ يمكن تشكيلها ببعض دورات المهارات الحياتية ، التي يبيع بعضها الإرادة الزائفة لروّاد البسطات الفاخرة في الفنادق الفخمة ، وكانت الهوّة تتسع أكثر بين جيل واجه تحديات القرن الماضي مؤمناً بالعزيمة ، ومتسلحاً بالقيم ، ومصرّاً على النجاح ، وجيل اليوم الذي يقف الواقع أمام تطلعاته سدّاً لا قِبَل لهم على أن يظهروه أو أن يستطيعوا له نقباً ، فجيل اليوم يعيش إعصاراً هائلاً من التغيّرات العاتية التي لم يسلم منها حتى أبسط مفاهيم الحياة ، اختلال في القيم ، تشويش في معظم الصور التي كانت تبدو مثالية ، وتحطم لمعظم النماذج والمُثل ، وكلّ ذلك يحدث في عالم مُشرّع الأبواب ، منفتح الثقافات ، سهل التواصل ، وهكذا صار جيل اليوم في مواجهة مع كلّ شيء ، وصار كلّ شيء يبدو مِحنة حقيقية ينبغي تخطيها لبلوغ المِحنة التالية ، وربما يكون التعليم الذي يُفترض أن يكون الوسيلة التي يواجه بها النشء مِحَنه وتحدياته مِحنة في حدّ ذاته ، فالطالب اليوم يحمل حقيبته ويتوجه للمدرسة وهو يعلم مُسبقاً بأنّ فرصته في تحقيق أحلامه ولِدت ضئيلة وتتضاءل مع كلّ خطوة يقترب فيها من المستقبل المُرتقب ، وفعلاً فإنّ أكثر تصوراته تتساقط شظايا متناثرة أمام تسديدات الواقع ، التي تضطره للقبول بالتخصص الذي لم يكن ضمن قائمة أحلامه فقط لأنه يلائم مجموع درجاته ، وما أن يخلع ثوب التخرّج حتى تتحوّل ضحكته العالية إلى صمت مُطبِق وهو يعلم أنّ خطوته التالية ستنحدر به غالباً نحو المجهول ؛ في ظلّ واقع مُتخم بالبطالة وشبه انعدام للفرص ، وتتعمق الصدمة الثقيلة لديه وهو يرى بعضاً من رفاقه يقطعون حرير الطريق بمقص الواسطة التي تضع بعضهم على أعلى درجات السُلّم دون مشقة التسلّق ، ويظهر التعليم محنة أخرى في حياة أولئك الذين اعتنقوه مذهباً وسعوا في دروبه لبلوغ درجاته العُليا ، وهم يعلمون كلّ العلم بأنهم سيقتطعون ثمن ساعاته الباهظة من دخل آبائهم المحدود أو من قوت أطفالهم ، وسيوفرون أكثر تكاليفه من قروض سيضيفونها إلى قروضهم الأخرى التي صنعوا بها واقعاً لن يملكوه حتى تنقضي ، لكنه الطموح ... ذلك الجدار الذي ظاهره فيه السعادة وباطنه فيه العذاب ، وهم يتسلقون ذلك الجدار أملاً في رسم غدٍ يليق بحجم تضحياتهم وثقة أحبائهم ، ويُداني سقف تطلعاتهم المشروعة ، ومرة أخرى ومع خلع ثوب التخرّج وإيداع رسائلهم و أطروحاتهم أبعد رفٍ في المكتبة ، يصفعهم الواقع بوقاحته المألوفة ويوصد في وجوههم أبوابه الشرسة ، مُقراً بوأد أحلامهم حية تحت التراب ، وتحنيطها في متحف الزمن ، وأمام ألغام الواسطة ، والعلاقات النفعية المريضة ، وسريان سُمّ الأنانية الزُعاف ، وتُخمة سوق العمل بالعديد من التخصصات ، وامتداد طابور البطالة إلى ما وراء القدرة على الإدراك والسيطرة ، وانعدام الإحساس بالشعور بمعاناة الآخرين ، و أحلامهم المغلفة بدعاء الأمهات وحسرة الآباء ، وغياب المسؤولية الأخلاقية ، وحاضر ضبابيّ تنعدم فيه الرؤية ، لم يعد شيء حقيقي سوى المجهول .
وعندما تنظر في عيون أولئك الأطفال الذين يحملون تلك الحقائب الصغيرة على ظهورهم الغضة ، وينطلقون كالفراشات في أوج الربيع نحو مدارسهم ، ليودعوا بين جدران الصفوف أغلى طموحاتهم ، ويخبؤوا بين طيّات الكتب أحلامهم البسيطة ، فإنّ غصة في الصدر تكاد تذبح المرء وهو يوشك أن يفرد أوراق الحاضر أمامهم ، لكنّ تلك البراءة بين أضلعهم تستنفر أبعد ما في الأعماق من أمل فلعلّ غداً يُصبح أفضل ، ولعلّ المرارة تستحيل سُكّراً في مستقبل هؤلاء الصغار، فلتدعهم يحلمون ، ويبنون قصورهم من رمال الشاطئ ، فالأحلام مجانية دون ثمن ، لا تخبرهم عن تلك الأمواج التي ستباغتهم وتهدم أركان طموحاتهم الصغيرة ، فقد يهدأ البحر بعد الغضب الذي طال ، وقد يأتي وقت تُهزم فيه كلّ الخفافيش التي تغذت على أحلام الماضي ، وقد تتحطم أصنام الواسطة والعلاقات الوصولية بفأس العدل وتكافؤ الفرص ، وقد ينتظم وزن سوق العمل بحِميَة مُحكَمة من التخطيط السليم ، وقد يغدو التعليم مارداً قادراً على رفعنا إلى مصافّ الأمم التي تمكنت من هزيمة مشكلاتها وخساراتها وفقرها ، وتقف عملاقة بإرادتها الصادقة أمام قحط مواردها ، وقد تصبح المِهَن أداة تصنع من مجتمعنا ثقافة تواجه الواقع بحرفية عالية ، وتدفع بنا نحو قصة نجاح كالتي قرأنا عنها في الكتب ، وقد يخرج من بين هؤلاء الصغار المصلح والعالم والأديب والاقتصادي الفذ الذي يضعنا في النور ، ويضع أحلامنا في خانة الممكن .
والقادم أجمل بإذن الله تعالى .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: