حرَّك فيه طارئ اللحظة أشياء الذاكرة ليضحك مجددا من جائزته القديمة، وهو يرى تلك الرؤوس الثلاث تلج المكان وتصطف عرضيا على خط قمة مائل، بسبب اختلال في قاماتها المتنازلة، لا يمكنه حصدها بالنحاسة الوحيدة المتبقية له بمخزن مسدس لم يفهم بعد كيف حازه في يده فجأة وسط دخان زاكم من حرائق مطاط العجلات وضجيج يملأ الشوارع، تذكر العصافير الثلاث التي أسقطها في مسابقة التعبير بالمدرسة الابتدائية توج يومها بدراجة هوائية صغيرة، جاب بها لسنوات عدة، دروب الحي الترابية القديمة، وأبناء الجيران خلفه يركضون بأقدامهم الحافية وأحلامهم العارية وهو يشق بثقله الضاغط على دوسات الدراجة صدر الريح منتشيا باندفعه السريع إلى مام ضاحكا وهو يلتفت بين الفينة والأخرى من صورة الأطفال والغبار المتعالي والمتطاير خلفهم.
تساءل لتوه وسط تلك العتمة التي يخترقها موج الضوء الأبيض المندفع بقوة إلى عيون المتابعين، وسط صمت يكاد يغدو مطبقا، أين ذلك الحجَر السحري الذي ضرب به العصافير الثلاثة البريئة أوسقطها مرة واحدة ولم يرها ولم ينتف وريشها ويشوي لحمها على نار صغيرة كما كان يفعل الكثير أقرانه من أبناء الجيران، حين يحنون للحم فيتغيبون عن مقاعد الدراسة، فاللحم ساعتها يغدو وهو يتمزق تحت أسنانهم الصغيرة القوية طريا وثمنه ليس غاليا على أبناء عمال المناجم، فقط غياب عن دروس اللغة، الترتبية السياسية والتاريخ.
لكن من يومها صار الأطفال الحفاة لا يتغيبون عن دروس العربية، التي منحته هو دراجة هوائية، الجائزة الأعظم وقتها، لم يكن أبناء المنجميين يحلمون بأكثر من مخيم صيفي على ضفاف المتوسط المالحة، أمام المواسم الثلاثة الأخرى فهي حقائب عمر فارغة، لذا سموا جميعا تلك السنة باسمه (عام الدراجة الهوائية) طبعا لا يكتبونها على سبورات ولا دفاتر المدارس بل نقشوها دوما على سبابير عقولهم.
عاد ليتساءل مجددا، هل هو في الطبيعة أم في الخيال؟ هل هي مسابقة أخرى خارج اللغة العربية أم مسابقة بلا جائزة؟ من أين أتاه المسدس؟ ولما مخزونه برصاصة وحدة فقط، في من أفرغت الرصاصات الخمس الأخرى؟
أبدا لن يكون هو مسدس رفيق، جاره الشرطي الذي دأب في العادة على أن لا يضع عنه مسدسه حتى خارج وقت العمل، والرصاصات الست المحشو بها، قيل أنها الأقدم في العالم لأنه مذ انخرط في سلك الشرطة لم يطلق صاصة واحدة، ومذ علق على سطح بيته القديم صحنا هوائيا مقعرا، صار يستمتع بصخب رصاص رعاة البقر والشرطة بشوراع نيو يورك المهمشة، ويرفع من صوت التلفاز ليتدفق أزيز الرصاص الهوليودي على الطرق والسطوح!
فيضحك الجيران !
الآن فقط أدرك لماذا سماه الشباب وقتها اليماني، صحيح لأنه كان بسمرة أهل اليمن، بشوش مثلهم، تواق لانتهاء دوامه حتى يتخلص من قبعة الشرطة ويعتمر عمامة؟ لا يتعاطى القات لكن سجائره المحشوة بالحشيش لا تكاد تنطفئ، فالأمر إذن كان لحمله الدائم زينة السلاح دون أن يستعمله لأنه عاش ينظم المرور بمفترق الطرق المدينة!
جمح السؤال لديه عن مصير الرصاصات النحاسية الخمس، دون أن يُسقط احتمال نسب المسدس لرفيق أو اليماني؟
تأسف كيف أنه ترك رفيق يموت على فراشه الرث دون أن يسأله عن الرصاصات المفقودة قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، يوم عاده آخر مرة بالحي الترابي العتيق..
عاد بكل انتباهه إلى الأوغاد الذين يجلسون في الصف الخامس من الصفوف التي تسبقه، لا يرُى منهم من شدة الضوء المنعكس إلا مخطط أجاسادهم الثلاثة كمسرح العرائس الياباني، والغضب يعتصر روحه كيف تجرؤوا على تتبعه إلى هنا، يبدون في جلوسهم مصطفين كأسنان منشار خشب خرب، لم تعد له سوى ثلاثة أسنان متآكلة وغير متساوية، الأول بجدع طويل نحيف مغطى بسترة جلدية لا يظهر لونها، وعلى رأسة قبعة من نوع البريه الايطالي، ذكرته وهي تبدو في الظل من مؤخرتها العريضة متناهية إلى مقدمتها المذببة، بشكل مقعد دراجة هوائية التي فاز بها في مسابقة التعبير يوم ضرب العصافير الثلاث واسقطها بحجر واحد، الأوسط قصير غليظ بمنكبين ضخمين دائريين ورأس كبيرة موضوعة على جسد منتفخ تفيض عجيزته على صحن الكرسي، يُرى بلون الظل كإبريق شاي مغربي، أما الثالث الجالس على يسار في آخر مقعد بالصف، هزيل كأنه فاصلة لجملة غير مفيدة كلماتها هؤلاء الثالثة الذين لم يمقت أحدا مثل مقته إياهم وقد حل مقيات نهايتهم على يده كما كان يتمنى دوما.
صار هو الآخر مقتنعا بأن الموت ليس بالتهديد، وحمل السلاح دون استعماله كما كان يتغامز ويتنابز الجميع إذ يرون رفيق ماشيا في الأسواق والمسدس متدل من حزام سرواله العربي، هو كالذكورة منزوعة الفحولة، بيد أن المعضلة الأخرى تفاقم قلقها في نفسه، كيف يمكن قتلهم هم الثلاثة بطلقة واحدة، هي الموت وليس طلاقا قد يُستفتى في عدد طلقاته؟
فجأة قفزت إلى مخيلته فكرة، ربما لو أنه غير المكان وجاء صفهم من قعودهم من الجنب وسدد الطلقة باتجاه ذي القبعة الشبيهة بكرسي الدراجة الهوائية، لأمكنها ربما اختراق رقبته، لتستقر برأس الغليظ الأوسظ ومؤكد أنها لن تصل إلى الهزيل الجالس أقصى اليسار!
لا يهم الهزيل إن أخطأته أو لم تصله النحاسة بالمرة، فقد فكر في إمكان الاجهاز عليه ومعاركته بتهشم مؤخرة رأسه بمقبض المسدس الصلب، فيلحقه بصاحبيه، استحسن الفكرة، وأدرك لتوه ما غفل عنه، من أنه هو بذاته وجسده الطويل الهزيل، الرصاصة الثانية، أما الثالثة فهي عقب المسدس الصلب، كيف فاته أن يذكُر والده كان وهو يسد الباب الخشبي القديم لغرفته، ببيتهم الترابي المغطى بالصفيح، أيام الريح بحجر صماء زرقاء، وبها يهشم قالب السكر في أثناء جلوس الجميع حول صينية شاي العصر، بعد أن يتيمَّم بها للصلاة، لم تكذب اللغة إذن، وجائزته في “التعبير” لم تكن خيال وصف أو جرس شعر، بل سقطت العصافير الثلاثة فعلا بالحجرة الوحيدة!
الآن ما عليه سوى أن يتأكد من قوة دفع الرصاصة، مثلما كان عليه الحال مع قوة دفع الحجرة التي طوحها، وهل بوسعها أن تخترق الرقبة المتينة لذي قبعة البريه والرأس الكبيرة للأوسط الغليظ، مثلما أسقطت الحجرة العصافير الثلاثة.
ليس له خبرة في السلاح الفردي، واستشارة الانترنت غير ممكنة الآن، لأنه لم يعد يمتلك القدرة على دفع الاشتراك، كما أنه دأب من مدة على غلق الهاتف كلما خرج من البيت حتى لا يتصل الدائنون يطالبونه بالوفاء بدينه المتراكم وحتى لا تتبعه ثلاجة المطبخ إلى شوارع المدينة، فمذ اقتنى الهاتف صارت زوجته تتفادى صدامه بمطالبها في البيت وتقصه بها حين يغادر باتجاه المقاهي، كان يتعمد إظهار الهاتف معلقا على جنبه بلا رصيد مثلما يظهر رفيق مسدسه بلا رصاصات خمس!
إذن صار ممكنا حذف من الحياة نهائيا هؤلاء الثلاثة الذين يتبعونه كلما خرج من البيت أو مقر الحزب أو كلما نُشر له مقال في ركنه الأسبوعي الشهير “العصافير الثلاثة” أخرج المسدس من جيبه، تحركت فيه الفحولة، دفع بالرصاصة الوحيدة إلى بيت النار، انزلقت من أعلى حاجبه قطرة سميكة من عرق الشتاء المالح وتذلت على محجر عينه التي أغلقها وهو يصوب ويدقق الهدف، فسقطت القطرة على اصبعه بالزناد فارتج، وإذا بالقاعة تهتز من دوي الرصاصة، سقط يصرخ، الموت للأوغاد الموت لأعداء الشعب، الموت للفاسدين..
صبوا عليه الماء، صفقوا وجهه بصفعات متاتلية، قبل أن يرد أحدهم على سؤاله الذي أذهل الكل:
- واضح أنك لم تفهم شيئا عزيزي، الرصاصات الخمس باعها الشرطي ليشتري له دواء لمرص الصدر الذي فتك به!
- والنحاسة التي ظلت بالمسدس؟
- انتحر بها الثائر بعد أن كاد يلقى عليه القبض وهو يريد قتل المخبرين في عرض داخل قاعة السينما..
ضحكوا منه لما افاق واستعاد وعيه وأنفاسه وأشعلت قاعة السينما أضواءها بعدما انطفأ ذلك التنور الأبيض المتدفق من الشاشة الكبرى..
- لقد أبهرت حين ندمجت بقوة في مجرى فيلم “الثائر والنُحاسة السادسة” هل سبق لك امتهان التمثيل؟
سأله بعدما التقط له صورا على وضعيات مختلفة، صاحب المعطف الطويل والنظرات السوداء الذي اقتحم فجأة مكتب المسئول عن قاعة اليسنما البلدي!
Post A Comment: