• الحُبّ كمفهوم فلسفي :
المتعارف عليه أن الحب حاجة إنسانية كبيرة، غالباً مايتم ربطها بمعنى الحياة، والحب أنواع تختلف باختلاف المراحل التي يمر بها الشخص خلال حياته وظروفه التي يعيشها، فالإنسان يبدأ حياته بممارسة فعل الحب تجاه والديه، ثم حبه لأقاربه وأصدقائه، إلى أن يصل إلى حب الجنس الآخر.
الإنسان بطبعه، ومهما كانت ظروفه وحالته يتوق باستمرار إلى أن يكون محبوباً عند الآخرين، ويبذل مجهوداً كبيراً في سبيل ذلك، وقد أشار علم النفس العلمي وعلم الإجتماع إلى أن المشاكل الأساسية التي يمر بها الإنسان وكذا الإضطرابات السلوكية والنفسية، مرتبطة بالدرجة الأولى بغياب الحب في حياته.
أما الحب كمفهوم فلسفي لا علاقة له بأي شيء حقيقي أو متصور، ولا يمكن إدراكه عن طريق العقل أو تفسيره بالمنطق، وهو -الحبّ- ما يجعل الشخص يبرز شخصيته الحقيقية. وقد بدأ سطوع الحب كمفهوم فلسفي (فلسفة الحبّ) مع الإغريق، حيث كان الإعتقاد أنذاك أن الحبّ عَمدٌ من أعمدة الفلسفة، فتم تطويره من مفهوم مادي إلى مفهوم روحي بلغ أعلى المستويات عن طريق طرح نظريات متعددة؛ مثل نظرية أفلاطون الذي قال بأن الحبّ يجب أن يكون سلسلة من المشاعر التي تهيمن عليها الرغبة الحيوانية، وقال أن الحب ليس سوى وسيلة للخلاص وطريق نحو التحرر الفكري والعاطفي، وهو من يحقق حرية الإنسان.
سؤال "ما الحبّ؟" لازال محيراً عقول الفلاسفة والمفكرين، إذ أنه مفهوم شائك لم يصل أحد لجوهره أو يبلغ كينونته. عرف الفيلسوف البريطاني "روجر سكروتن" الحبّ كالتالي : ( يحدث الحبّ في اللحظة التي تزول فيها المساحة الفاصلة بين مصلحتي ومصلحتك.) إذاً فالحبّ علاقة مصلحة ليس إلاّ! بينما ينكر "شارلز تايلر" ذلك معتبراً أن الحبّ غاية لا يمكن ربطها بمصالح أو غايات أبعد منها. إذاً الغاية من الحبّ هو الحبّ نفسه. أما صاحب المطرقة الألماني "فريدريك نيتشه" ذهب إلى إسقاط الحبّ من عرشه العالي، ويرفض رفضاً قاطعاً اعتباره أمراً إيجابياً تنتج منه متعة!
هكذا نجد أنفسنا أمام دوامة من التعريفات والتناقضات، فكل يدلي بدلوه في محاولة لوضع تعبير مناسب عما نحسه تجاه هذا المفهوم الغامض.
• الفلاسفة والحب :
تعددت تجارب الفلاسفة مع الحبّ كإحساس روحي، وتعاريفهم له كمفهوم فلسفي، فلا نكاد نجد الكثير ممن اتفقوا حول تعريف موحد ينهي غموض وقتامة هذا المفهوم. والواضح أن كل فيلسوف إنطلق في تعريفه من تجربته الشخصية مع الحبّ.
وفي هذا الجزء نستحضر مجموعة من الفلاسفة الذين عبروا عن آرائهم في الحبّ :
|| الحب الأفلاطوني (أفلاطون) :
"أفلاطون" من الفلاسفة الذين اهتموا بدراسة الحب، فيقول أن الحبّ جزء لا ينفصل عن الطيبة والجمال، بل هو نفسه يولد الجمال في الجسم والنفس. ويفهم أفلاطون من مفهوم الحبّ أنه إحساس إنساني يحقق التوافق بيننا وبين جميع الكائنات، فعندما نحب نمتلئ فضيلة وسعادة، وننأى عن الرذيلة والتعاسة.
يقول "أفلاطون" أننا نحب لكي نصبح مكتملين، ففي كتابه (المحاورات) يحكي على لسان "أرسطوفانيس" -وهو كاتب مسرحي ساخر- الأسطورة التالية :
كان البشر في القديم مخلوقات ذات أربع أذرع وأربعة أرجل و وجهين، حاولوا التمرد على الآلهة فأغضبوها، فقرر الإله "زيوس" معاقبتهم بإضعافهم، فقام بشطر كل واحد منهم لإثنين، ومنذ ذلك الوقت فقَدَ كل شخص نصفه الآخر.
فالحبّ هو التوق إلى إيجاد النصف الآخر الذي يحقق الإكتمال المنشود.
|| الحب خدعة للتناسل تحت غطاء رومانسي (شوبنهاور) :
في كتابه (العالم إرادة وتمثلاً) يصف الفيلسوف الألماني "شوبنهاور" الحب على أنه : ( سلسلة من الشقلبات السخيفة التي يقوم بها إثنان من الحمقى )، بنظرته التشاؤمية يقول "شوبنهاور" بأن الحبّ مجرد وهم تبيعنا إياه الإرادة من أجل أن نستمر في التناسل تحت غطاء رومانسي، ويعتبر الحبّ ليس إلاّ شهوة جنسية نظنها نشوة حسية، فيضع الحبّ والرغبة الجنسية في كفة واحدة مؤكداً على أنه -الحبّ- شكل من أشكال الرغبة الجنسية التي تستعملها الإرادة من أجل الحفاظ على استمراريتها.
|| الحبّ شعور أناني (نيتشه) :
إعتقد "نيتشه" أننا نحب فقط لنشعر بالرضا، أو بالأحرى لأن الحبّ يشعرنا بالرضا ويحقق لنا المتعة التي نرغبها ونشعر أننا محبُّون من طرف الآخرين، فالسعادة التي نشعر بها حين نحبّ هي مجرد سعادة أنانية.
لم ينته "نيتشه" هنا، بل قال أن الحبّ؛ هذه العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، قائمة على عدم المساواة، حيث المرأة تمنح نفسها وجسدها بينما الرجل يمتلك فقط!
|| الحبّ هروب من الوحدة (راسل) :
يجيب الفيلسوف الإنجليزي "راسل" عن سؤال لماذا نحبّ؟ بأننا نحبّ من أجل إشباع رغباتنا الجسدية والنفسية معاً. فكان رأيه أقل حدةً بذلك من "شوبنهاور". فالبشر بالنسبة لراسل وجد من أجل التكاثر والتناسل، لكن لا يكون هذا الأخير مرضياً إذا لم يكن لم يكن بالحبّ.
ويذهب " راسل" إلى أن خوفنا المستمر من العالم والوحدة هو ما يجعلنا نلجأ للحبّ من أجل عزل أنفسنا عن قساوة العالم الخارجي والإقبال على الحياة، فالحبّ يجعل كياننا أفضل الموجودات.
|| الحبّ وهم (جون جاك روسو) :
في تصور "روسو" الحبّ مجرد وهم، لكنه لا يرفضه؛ لأنه يعتقد أنه ضروري رغم ذلك، حيث يجعلنا نستشعر الجمال الذي يغنينا عن كل ماهو قبيح. فقال : ( إن أكثر النُّساكِ ورعاً ليسوا في مأمن من أن يصبحوا أطفالاً صغاراً أمام امرأة جميلة ). ورغم كل شيء يرفض "روسو" الحبّ باعتباره حدثاً يدمر حياتنا كلها. ويصف الممارسة الجنسية التي تحدث بلا حبّ بالعبودية التي تفقدنا إحترام ذاتنا.
• أخيراً :
دراسة الحب كمفهوم فلسفي أنتج لنا عدداً كبيراً من الآراء المتناقضة والمتضاربة، حيث لم يعط أي من الفلاسفة أو المفكرين تفسيراً واضحاً لمفهوم الحبّ، فكلٌ سلك مسلكه في محاولات باءت بالفشل الدَّريع من أجل الوصول لأغوار هذا الشعور المبهم، فمنهم من ذهب إلى أنه مجرد علاقة مصلحة، بينما اعتبره آخر أنه غاية في حد ذاته، وهناك من رفضه أو اعتبره وهم من أوهام الطبيعة! وهكذا تبقى ماهية الحب بعيدةً على أن ندركها.
Post A Comment: