عندما تقرأ مسرحية تاجر البندقية للكاتب الإنجليزي وليم شكسبير ، فإنك تجد تشابها كبيراً يكاد يُلغي الفاصل الزمني الذي يمتد عبر أكثر من خمسمائة عام على تداول تلك الحكاية من مدينة البندقية في إيطاليا ، فلا زالت تلك الملهاة تستهوي النقاد ورواد المسرح ، وهي تحتفظ بذات البريق الذي يشدّ المتابع في كلّ مرة تُسرد فيها أحداث القصة التي لم تخلُ من حبكة دقيقة التبلور ، وتشويق متصاعد يستمر حتى يُسدل الستار .
وإنّ التشابه اللافت يكاد يحمل أحداث المسرحية إلى كلّ زمان ، وكأنها تتحدث عن تفاصيل لابدّ وأن مرّ بها هذا المرء أو ذاك ، بصرف النظر عن شخصيات القصة الأصلية ، أو خصوصية الحكاية ، فعند الإمعان في طبيعة العلاقة التي تمّ من خلالها بناء نسيج الحكاية بين الشخصيات ، فإنّ الُملاحظ أنها كانت علاقات نمت من خلال التطوّر الطبيعي للأدوار التي يؤديها الأفراد في المجتمع ، فهناك علاقة الأب بالابنة ، وعلاقات الصداقة ، وعلاقات مؤسسة الزوجية ، ما يعني أنّ الأحداث صعدت إلى السطح من خلال تفاعل نمطي للعلاقات الاجتماعية ، وفي وسط اجتماعي خالٍ من ظروف الخيال أو الإثارة والمغامرة ، وهنا يتمحور السؤال حول الميزة التي أحاطت بهذه الحكاية ، وأبقتها نابضة و مشوِّقة مع مرور الزمن ، فتتبدى الإجابة في ثنايا السؤال ، فقد برع شكسبير في تعرية النفس البشرية ، والغوص في أعماق الصراعات الداخلية التي تنتهي على شكل المواقف التي يتخذها كل امرئ في حياته ، فتجعل منه الشخص الذي هو عليه ، بكلّ ما فيه من قناعات ومبادئ وقيم وأخلاق ، فعنصر التشويق في المسرحية ، هو ذاته ما يدفعنا بشوق نحو الحياة ، إنه ذلك التناقض الأزلي بين خيوط الخير والحب والشرف والنبل والتضحية مقابل الشر والكراهية والبخل والنذالة ، فالقصة مبنية على ذلك التناقض ، كقصة الحياة في كلّ زمان .
و ربما يتفق الجميع على أنّ المشهد الذي تجسّد في المحكمة خلال أحداث الحكاية ؛ يكاد يكون الأكثر عبقرية بين مشاهد المسرحية ، في صورة جسدت حقيقة المواقف التي تبنتها أطراف القصة التي صارت حديث المدينة ، وكأنّ المشهد يكاد يقترب من ذلك الموقف الذي ستؤول إليه البشرية منذ آدم عليه السلام وحتى آخر نفس ستقضي على هذه الأرض ، فهناك القانون واضح وصريح لا ثغرات فيه ، ولا مجال للمراوغة وتقديم الأعذار التي تسوّغ الظلم والقهر وغُبن الحقوق ، فالحقّ بيّن إلى درجة تُلجم الأفواه ، وحتى طيبة القلب ، وحُسن النوايا لن تكون ملاذاً من مواجهة العقاب .
لقد كانت المحاكمة في ذلك المشهد المسرحي منطقية إلى الحدّ الذي تجاوز رؤية الحضور المليئة بالتعاطف مع أنطونيو المعروف بينهم بالنزاهة والصدق والكرم والشهامة ، فقد كان نص الصك حادّاً جليّاً إلى الدرجة التي لم تدع مجالاً لإنقاذ أنطونيو من حقد وكراهية التاجر شيلوك ؛ الذي لم يكن يرى سوى رغبته بالانتقام تتحقق في ذلك الموقف ، وهكذا فإنّ المسرحية تختزل كثيراً من المشاعر الإنسانية التي لم تتبدل ، وربما يمكن القول أنها أصبحت أكثر وضوحاً في عصر المادية وثقافة الأرقام ، ففي الوقت الذي تتعجب فيه من قوّة رابط الصداقة الذي جمع أنطونيو ببسانيو ؛ إلى الدرجة التي كاد الأول يخسر فيها حياته في سبيل تحقيق أسباب السعادة لصديقه ، وتتعجب أكثر من حرص الثاني على افتداء صديقه والدفاع عنه بكل ما أوتي من قوّة ، في حالة تبادل فيها الطرفان قيمة الصداقة وكلّ ما يجب أن تحمله من معاني الإيثار والتضحية والمساندة ، إلّا أنك بالمقابل تتعجب من كمّ الكراهية والحقد التي وصلت بالتاجر الجشع إلى حدّ اختيار خسارة المال المُضاعف ، مقابل الانتقام بطريقة حيوانية من أنطونيو ، وكأنّ ذات الكراهية هي ما تدفع الإنسان إلى كلّ ما يقترف من أفعال تتجاوز في بشاعتها حتى أعراف الغاب في كلّ زمان ومكان ، وليس القتل أبشع تلك الأفعال ، وإنما هو استبعاد الرحمة من قائمة المشاعر الإنسانية ، وإقصاء كلّ ما يمتّ للجمال والسلام بصلة مع تلك القيمة ما هو أشدّ بشاعة ، وبالعودة إلى الوراء في تسلسل الأحداث ، فإن مشاعر الكراهية والتعصب التي كان أنطونيو يُبديها للتاجر نظير جشعه وتعصبه هو الآخر ، هي ما جعلت الرغبة في الانتقام تدور في دائرة مغلقة ، الأمر ذاته الذي يتكرر في هذا الزمان ، فكلّ يوجه أصابع الاتهام للآخر ، والكلّ مُصرّ على أنّ الحق إلى جانبه ، وهكذا لا زالت البشرية في شتى أصقاع الأرض تدور في دائرة ملتهبة من الكراهية والتعصب ورفض الآخر ، وما جري البشرية داخل الدائرة المغلقة سوى بحث عن الانتقام تحت وقع مسوّغات لا تتوقف .
وبين الرحمة والعدل تقع الإنسانية في مأزق شديد الضيق ، تماماً كالذي وقع فيه القاضي في مشهد المحاكمة ، فالتاجر يطلب العدل الذي لن يتحقق إلّا بتنفيذ شرط الصك ، والذي سيؤدي إلى مقتل الشهم أنطونيو ، لكنّ الجميع كان يُطالب بالرحمة مقابل أي ثمن ، ولا زال هذا الصراع حيّاً بين الرحمة والعدل حتى اللحظة ، فالخيط بينهما رفيع جداً ، لكنه قويّ ومتين ، ولا زالت حقيقة الصراعات البشرية تُثبت أنّ العدل لن يتحقق في الأرض ، فهو قيمة ذات حدين أحدهما على الظالم وربما على المظلوم ، فرُب امرئ لم يظلم آخر في موقف ما ، لذا فإنّ الرحمة تكاد تكون القيمة الأكثر واقعية في العلاقات ، وهي تجرّ بصحبتها التسامح والحُبّ والرضا ، ويالمقدار السعادة التي يمكن أن تتحقق بالرحمة وأخواتها ، لكنني أكاد أسمع ذات صيحات التاجر الجشع وهو يُلّوح بسكينه أمام القاضي مطالباً بالعدل ، فكلّ البشر على امتداد الكوكب يطالبون بالعدل ، ومنهم من يطالب به مبطنّاً برغبة الانتقام ، حتى أكثر الظالمين ظُلماً يطالب بالعدل ، كيف لا وكلٌ يُشكّل الحقيقة على الشكل الذي يتناسب وغاياته ، غير آبه برؤية الآخر للعدل وحقه في التمني والعيش كما ينبغي للبشر أن تعيش ، إذاً فقد اختلط الأمر على البشر ، وها هم اليوم يختبؤون خلف أبواب واهمة من العدل الذي حققه كل منهم بيديه ، معلنين انتصارهم باسم الحق ، الحق الذي يتنكر بأقنعة مزيفة تُخفي خلفها بشاعة ما وصل إليه البشر من ضياع لإنسانيتهم ، تماماً كذلك التاجر الذي مَقَتَه الجميع لشدة قسوته وهو كامل القناعة بأنه يُحقّ الحق ، فكم من شيلوك في هذا الزمان !!!.
و يا ليت الحياة تسير وفق الرؤية المسرحية لشكسبير في تاجر البندقية ، فقد نجا أنطونيو بذكاء زوجة صديقه التي أنقذته متخفية في شكل المحامي الحذق ، وكأن الحق كان لا يمكن أن يظهر إلّا من وراء قناع ، ولمَ لا فشكسبير لم ينظر إلى المرأة وكأنها على هامش الأحداث ، بل إنه منحها دوراً محورياً في أحداث القصة ، فأبرزها مزدانة بالعفة والفطنة والعلم ونُبل الأخلاق ، فهي وإن تمكنت من الجمع بين هذه الخصال تكون المرأة التي لا يُداس لها طرف ، فيلمع نجمها وتلفت العقول إليها ، و يا ليت للحق أنصار يُدافعون عنه وفق منطق يعدل كفة الميزان ، دون أن يُخلّ بحقوق أحد ، و يا ليت الخير ينتصر دائماً كما في الروايات والمسرحيات ، ففي زماننا تقف القيم في كواليس المسرح لينتقي أصحابها ما شاؤوا من أزياء وإكسسوارات ، وعلى خشبة المسرح لا يكاد الجمهور يُميز حقيقة هذه القيم ، فتراهم مشوشي الذهن وقد ضاعت الحقيقة بين الألوان وبريق أدوات الزينة .
لم تكن " تاجر البندقية " سوى رحلة أبحرتُ فيها مع نفسي ، وقد تقاذفت الأمواج قاربي المتواضع عبر شطآن بعيدة ، فلا زلتُ مأخوذاً بطبيعة النفس البشرية ، وسحرها الذي خبا شعاعه تحت أنقاض من الحطام ، فلم يعد الإنسان ذلك المخلوق الذي ميزه الخالق بالإرادة و العقل ، وجعله الأحقّ بعمارة الأرض ، فضاع حينما أضاع الهدف من وجوده ، وانطفأت إنسانيته حين استسلم لمشاعر الكراهية والحقد ، فبات يعيش في عزلة وسط حشد واسع من الجموع الغفيرة ، ولن يجد سبيله للعودة من تلك العزلة ، إلّا في اللحظة التي يُقرر فيها أن يكون صادقاً مع نفسه دون إكسسوارات .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: