كان في سالف الزمان ملك يُدعى الملك "حَرب"، كان هذا الملك يقدِّر قيمة العمل، ذلك أنه لم يتسنَّم سُدة حكم البلاد وراثةً عن أبيه، ولا كابراً عن كابر.
وإنما نشأ هذا الملك فقيراً في أسرة رقيقة الحال، إلا أنه كان عصامياً طموحاً فاجتهد في العلم والسعي والعمل، ثم التحق بالخدمة الملَكية حتى صار قائداً عظيماً من قادة الجيش.
أسند ملك البلاد إلى القائد "حرب" إمرة الجيش، فصار أميراً للجيوش، ثم ما لبث الملك أن تُوفي ولم يكن له ذرية تخلفه في حكم البلاد.
أشارت زوجة الملك بعد وفاته إلى الملأ بأن أجدر من يقود البلاد بعد نجاحه في قيادة الجيوش هو الأمير "حرب"، فرضي الملأ بما أومأت إليه زوجة الملك السابق، وصار القائد "حرب" ملكاً للبلاد وزوجاً للمليكة.
تُوفيت زوجة الملك "حرب" بعد سنوات قليلة، فتزوج الملك بغيرها، ثم أنجب ولداً أسماه "سهل"، كبر "سهل" وصار غلاماً، ثم فتى، ثم أضحى شاباً.
لاحظ الملك "حرب" أن "سهل" يجنح إلى الدعة ويميل إلى الترف؛ فخشي عليه أن تُترفه النعمة، وتُطغيه الإمارة، فعهد به إلى بعض العلماء فأدبوه وعلموه، ثم دفع به إلى كبار أصحاب المهن والحِرف ليجيد حرفة توافقه على أن يمارسها إلى حدّ الإتقان والبراعة.
أصدر الملك أوامره إلى أصحاب المهن أن يدربوا الأمير "سهل" تدريباً مُكثّفاً في كل مهنة من المهن مدة شهرٍ، وأن يعاملوه معاملة الأجراء والعمال لا معاملة النبلاء والأمراء، حتى يختار الأمير المهنة التي يفضلها ليتخصص فيها ويبرع.
فكان الأمير "سهل" يختلف كل شهر متردداً إلى صاحب مهنة جديدة ليتدرب على الحرفة ويتقنها، إلا أن أصحاب المهن كانوا يعاملون "سهل" معاملة خاصة، فكانوا يخشون عليه آثار المهن ومَغَبَّة معالجة الحرف، فصاروا يُجلسونه مُكرَّماً مُعززاً على أريكة تحت الظل بعيداً عن لفحات الشمس ليشاهدهم وهم يعملون.
ومع نهاية كل شهر، كان الملك يلتقي "سهل" ليسأله عن الحرفة التي تعلمها وتدرب عليها وأتقنها، وكم تقاضى عليها خلال شهر، ثم يخرج الأمير "سهل" ما تحصَّل عليه من أجر ويعطيه لأبيه الملك، فإذا بالملك يُمسك أجر ما عمل "سهل" ثم فجأةً أثناء حواره مع ولده يُلقي بالأجر من الشُّرفة، دون أدنى تأثر من "سهل" أو اعتراض أو حزن!
ظلت الحال على هذا المنوال شهوراً حتى ضاق "سهل" بما يصنعه أبوه الملك، فأدرك أن الملك ربما يفعل ذلك معه لأن عيوناً تخبره بأن "سهل" لا يتعلم ولا يتدرب كسائر العمال والأجراء؛ فقرر "سهل" أن يتعلم ويتدرب من غده المهنة الجديدة كما يتلقاها ويكابدها السُّوقة والدهماء من أبناء الرعية الفقراء.
كانت المهنة الجديدة التي أراد الأمير "سهل" أن يتعلمها هي مهنة البناء والتشييد، فشرع "سهل" في تعلمها من معلمه، بدءاً من تصنيع الَّلبِن وإعداد الحِجارة، ومروراً بفن حملها بكميات ومهارة، وانتهاءً بطرائق التخطيط للبناء قبل الشروع في التشييد، إضافة إلى اتقان الطريقة المثلى لصفّ ورصّ الحجارة متماسكة متشابكة في سرعة ودقة.
كما لاحظ "سهل" من معلمه أنه لا بد أن يحتاط حين يبني ويشيد، فيجعل واجهة البنيان خيراً من داخله، وأن يقدِّر في البناء أماكن الأبواب والنوافذ والشرفات، وألا يُعلي جداراً إلى نهايته في الارتفاع خلال يوم واحد.
بل عليه أن يترك وقتاً كافياً لأنصاف الجُدُر لتجف جيداً، على أن يكمل بناءها في اليوم التالي فبذلك ينهض الجدار قوياً متيناً ولا يكون عُرضة للتداعي والانهيار.
ثم أخيراً تعلم "سهل" كيفية عمل سقوف المنازل والبيوت، مستخدماً جذوع وجريد وسعف النخيل، وخشب وأغصان وفروع الأشجار، وذلك بعد تدربه على طلاء القار وعزل المياه عن الحوائط والأساسات والجُدُر، كما برعت مهارته في حفر وصنع الكُنُف والمراحيض لخدمة البيوت والمنازل والدُّور.
وفي قصر الملك:
الملك حرب: أهلاً بـ "سهل" أمير البلاد، وخليفتي على رعيتي والعباد.
الأمير سهل: أبي، فدتك نفسي وروحي ومن الناس المُهَج، يا خير من حَكَمَ بالعدل ومَلَكَ وأَمَر.
الملك حرب: كيف حالك.. وما أخبار حرفتك وعملك.. وأين راتبك وأجرك؟
الأمير سهل: عملتُ بنَّاءً فما توانيت ولا تراخيت.. ولا إلى الظل توليت وأويت.
الملك حرب: أرى ذلك على قسماتك وأسمالك.. فأرني أتحسس عضديك ويديك.
الأمير سهل: يدي قد كلَّت وكفي دَمِيت، ثم تشققت، وبعد أيامٍ خشنت ويبست.
الملك حرب: وكم كان أجر شهرك الذي فيه تعبتَ وجهدت؟
الأمير سهل: هذا أجري كله.. ثلاثمائة درهم جمعتها وصررتها لك.
الملك حرب (ممسكاً بصُرة الدراهم): ما لي أراها دافئة.. ثم همَّ الملك متصنِّعاً إلقاءها كسابقاتها.
الأمير سهل (منفعلاً): لا.. أبتي فضلاً لا تفعل، بذلتُ فيها من جبيني العرق.. وبعض الدماء سالت من يدي.
وكم خلال الشهر أبي عانيت، عملتُ مع لفح الحر، ووهج القيظ، وبلظى الشمس وسياطها اكتويت.
الملك حرب (محتضناً سهل): الآنَ صرتَ جديراً بولاية عهدي.. وقميناً بالحُكم والمُلك والعَرش.
Post A Comment: