هل رأيت ملكًا في الشارع بعين باسمة؟ نعم، وشعر مشعث، ابتسامة حنونة وصوت جفّ من حرّ الأرصفة. هل رأيت ملكًا لم يتجاوز ربيعه العاشر من العمر يركض في الأزقّة معفر الوجه ، يلتقط الرزق من على نوافذ العربات المسرعة، محفوفة خطواته مع كل إشارة حمراء، فراشة رمادية اللون غابت ألوانها تحت هذا الرداء الممزّق، ملك الاسم، ملك الهوية ، بنت النيل، الهواية مدفونة بين أنقاض العربات وحفر الشوارع، المهنة الأنامل الممتدّة والابتسامة الرقيقة لاستدرار شفقة المارة، واستعطاف السائقين، حلوة يا ملك ، في مهبّ الريح ترخي جدائل الفقر، تمدّ اليد، تنقر نافذتي، يذهب بي قلبي وأنا أرى هذه الطفولة المسروقة، الطفولة المرمية في الشوارع تحت رحمة المارة تنتظر حسنة من المتكرمين، أين أمك؟ اختنقت كلماتها وهي تجيب بلكنة غلب عليها اليأس: هناك، من أنت؟ أنا وعيت على هذا العالم، وجدتني أركض في الشوارع.
هل لي أن أرى منزلك؟
أنت تعبرين منزلي الآن
كيف هذا؟
هنا أقيم، هذه الأرصفة بلاط قصري، والسرير في غرفة نومي، وأشاحت بنظرها إلى البعيد خلف الشجيرات اليتيمة في زاوية الشارع، هناك الحمام والمطبخ.
وعادت إلى الحرّ شديد، أعتذر، فالمكيّف الطبيعيّ معطّل في فترة الصيف، والجفاف مؤذٍ، أعتذر.
أرى السرير دون غطاء ودون وسادة، أيها الملك.
تضحك، لا ترين هذه وسادة وتضم الذراع إلى صدرها، أنام ويدي تسند رأسي، أما عن الغطاء ابتسمت قائلة: أنا أملك أغلى غطاء يمكن أن يخطر ببالك.
أدرت رأسي لأرى أين الغطاء الذي تحدّثت عنه، وكنت أتوقّع أوراق الشجر أو الجرائد البالية التي تحمل صور الساسة والرؤساء والمشاهير من أهل الفنّ، والثروات التي أتخمت خزائن البنوك، ولكن لم أر أيًّا منها على الرصيف.
عدت إليها وعيناها ما زالتا معلّقتين في وجهي.
أين اللحاف؟ لا أرى شيئا.
أشارت بإصبعها الصغيرة التي تحمل خارطة العالم، ربما خطوط ولوحات خليط من العرق والماء وغبار الشوارع.
آسفة، ولكن أين؟ كرّرت السؤال.
قالت: يا سيدتي لحافي مطرّز بنجمات السماء، والشهب تلفّ أطرافه، لأدفأ في أيام البرد، وأحيانًا يكون نقيًّا وصافيًا ولونه أزرق، وأحيانا أخرى يتكوّن من القطن الأبيض النقيّ المنثور في السماء، غطاؤه يا سيدتي هو وجه السماء.
رفعت أبصاري وفي شفاهي ألف سؤال وسؤال، وفي حلقي غصّة، وفي عيني دمعة ودهشة، وفي صدري ألم. أين العدل؟
من هو؟
أردت أن أسألها، لكنّها كانت قد اختفت بين العربات التي تذرع الطريق، وعلت أصوات أبواقها على أصوات الإنسان. لم أر سوى خصلات شعرها الأشعث الذي لوّحته شمس الطرقات. يقفز بالهواء صارخًا: ردّوا لي طفولتي.






Share To: