لاحت له الحديقة مزدحمة بالأشجار أكثر مما كان يتصور . في حين هيمن عليها القصر العالي بسطوته ورهبته ، و عتمة جدرانه . فبقي علاوي الحوم محتاراً . من أين يبدأ ؟
ردد مع نفسه :
ـ إن عليّ أن أعمل بسرعة .
تلمّس الرمانات ، فبدت له إحداها رقيقة القشرة و ممتلئة . راودته الرغبة أن يتناول واحدة لكنه استثنى :
ـ إن عليّ أن لا أفرط بالوقت .
ثابر بقطف الثمار بسرعة و دون صوت ، و هو يلتصق بالشجيرة ، و يتحدث مع نفسه .
ـ آخ .... إنجرحت .. اشواكها مؤذية . ان عليّ أن أحْذر من أذاها .  سأضع الكيس جانباً . و عليّ أن اقطف الرمان ، و أجمعه بشليلي . ثم أضعه بالكيس . هذه رمانة كبيرة . سأخبئها لأمي فْطَيمة . عمرها كله لم تذق طعم الرمان :
ـ كانت فْطَيمه تتصوره شبيه بالبطيخ ، هههههه بنت الجحش .أنا ذات يوم إلتقطت قشره و أكلته . كان لاذع الحرارة وفيه حموضة .
اقتطفها ، لكن الغصن تحطم و أصدر صوتاً عالياً ، فردد بخوف :
ـ خراء بعينك علاوي الحوم و عين امك . يالها من عرضة عرضتك يا اماه . ربما هناك من ينصت و أنا أفعل هذا . خراء بصفحة موتاك فْطيمه . حتى بهذه حظك نائم بالسباخ .
تحرك بهدوء حتى لا يصدر صوتاً مرة أخرى . و راح يتحدث مع نفسه :
ـ تريث يا ابن فطيمة الحوم .. تريث . قليلاً من التروي يا مطي . وعبئ الرمان في الكيس . كان عليك أن لا تترك صوت الأغصان يعلو و أنت تمر فيما بينها .
إلاّ انه شاهد أشجار الطرنج .
ـ عليك يا ابن فطيمة الحوم أن تتحرك سريعاً باتجاه الطرنج .
و امتدت ذراعاه نحو علو الشجرة و اقتطف الثمار ، رغم الجروح التي حدثت من اشواكها .
ـ مِن أين لي أن أعرف إن للطرنج أشواكاً . من أين لي أن أدرك ؟ أدركه من فم أبي فطيمة الخايس ؟ هيّا أيها الحوم .. أن عليك أن تضع الثمار في الكيس و تعود لتتوغل أكثر . يجب أن تكون كالحوم قادراً على اختطاف صيدك و تحلق بعيداً ، والآن عليك أن تتنقل بدون صوت ، و أن تمارس قطف الثمار و ان تحذر ممن يتربصون .
عثر متدحرجاً داخل ساقية التي أخفتها الأدغال و انمطل داخل المياه الراكدة و الطين ، و فقد جزء من الطرنجات ، فردد مع نفسه :
ـ عمى بعينك . إي و الله . كيف لم تشاهدها ؟
كان يرصد الباب الخلفي للقصر ، وكأنه قد أصدر صريراً لينفتح ، فخارت قواه ، و ترنَّح كأنه على أبواب أن يسقط ثانية .
ـ ما هذا ؟ أهو صرير الباب أم من داخل القصر أم من سطحه ؟ ألأفضل أن أعود للأشجار الكثيفة و القريبة من الساقية .لكي أفرِّغ ما في شليلي في الكيس . و يجب أن أحذر السقوط في ساقية . يبدو أن هنا الكثير من السواقي .كيف سمحت لنفسك بهذا يا ابن الخائبة ؟ ان الكيس يكاد أن يصعب عليّ تمريره من فجوة الساقية . المهم : إن عليّ أن لا أقلق كثيراً ، فلو كان هناك خطر لأطلقوا صفيرهم .
غير أنه فجأة لاحظ ـ من خلال اغصان شجيرات الرمان ـ إن رأساً ارتفع من خلف السياج و راح يتحرى في البستان . زحف مسرعاً ليلوذ تحت كثافة الشجيرات و قلبه يضطرب .
ـ إشتوت روح والد فطيمه.. ربما هذا ابن الشيخ يراقب من خارج السياج . قد يكون سمع بصوت الغصن الذي تحطم . و بكى بصمت .
كرر الرأس تحرّيه من فوق السياج مرة ثانية و اختفى سريعاً .
ـ راح ألّزِمْ ، اللعنه على أبيك فطيمه ، لمن خلفتني ؟ راح الّزِمْ .. ما الذي خدعني ؟ لمَ لمْ يأتِ أحدهما بدلاً عني ؟
اختفى عميقاً و سحب الكيس بهدوء خلفه ، و غطّاه بالأغصان المتدلية . و مكث على هذه الحال .
فجأة .. سمع حفيفاً ، أدرك من بعد انها لوقع أقدام بين الأشجار تركض باتجاهه سريعاً .
توقفت قدمان تكادان أن تمسّا رُكْبتيه ، و كادت عباءة امرأة أن تلامس وجهه .
كانت فتاة تتكلم راجية بصوت منخفض .
ـ ( مدير ) أنا خائفة .
سمع أيضاً صوت ( مدير ) إبن الشيخ يهمس للفتاة :
ـ لا تخافي . انا معك . هيّا ، اخلعي فوطتك واعطني قبلة هناك .
خلعت الفوطة و ردت عليه مترجيةً و هو يحتضنها :
ـ و تعطيني رمان؟
همس ابن فطيمه الحوم مع نفسه و هو يبكي بصمت :
ـ هاذي جمّاره بنت نوشه .
قالت جماره :
ـ فقط اعطني هذه المتدلية .
قال لها (مدير) هامساً :
ـ ليس الآن . سأعطيك كل الرمان فيما بعد . ألآن ينبغي أن نحذر من زوجة أبي . فأكيد لو التقتكِ و أنت تغادرين .. ستفتشك .
ـ ضعها في جيبك . فهي لا تفتشك .
ـ ...
كان يحتضنها و يقبلها عدة مرات ، و يمرر اصابعه إلى صدرها ، و يبسبس معها :
ـ ما هذا الصدر ؟ ما هذه الرائحة الطيبة ؟
ـ قرنفل .
ـ و ما هاتين الرمانتين المكتنزتين ؟ دعيني أشمّهما.
قالت :
ـ اعطني الرمانة المتدلية .
ـ جمّاره .. دعينا نجلس تحت هذه الشجرة التي خلفك قليلاً و نتمتع . هيا إجلسي .

يتبع



Share To: