في جلسة سمر صيفية على أحد شواطئ الإسكندرية، جلس الوالدان مع ولديهما: "عدنان"، و"لينة" يتحدثون ويتسامرون.
كان الأب كل ليلة يفتتح موضوعةً للحوار حيناً، وكانت الأم تستثير في ولديها ما يُعرف بالعصف الذهني حيناً آخر..
الأب: لاحظتْ أُمكما أن "عدنان" يُحاكيني مِشية وصوتاً، وأسلوباً وطريقة، كما قد لاحظتُ أن "لينة" تشابه أُمكما في الاستجابات والانفعالات، والبسمات والضحكات.
الأم (متهللةً): ليس غريباً ما تحكيه، هذا جزء من الفطرة وأثر التنشئة اللصيقة؛ ما يُفضي إلى التأثُّر بأحبّ الناس وأقربهم، أليس الشاعر يقول:
بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيُّ فِي الْكَرَمْ ... وَمَنْ يُشَابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمَ
عدنان: أبي، إن هذا يحدث معي سجيةً دون تصنُّع مني أو تكلُّف، ثم هل هناك من هو أفضل منك كي أحاكيه أو أتأثر به؟
لينة: أمي؛ كيف لا أتأثر بك وأنتِ تملئين عليَّ حياتي، فقد يغيب أبي عني لساعاتٍ أو أيام طِوال لعملٍ وسفرٍ ونحوهما، فأجدك تظلينني ليلَ نهار، ولا يبعدني عنك إلا مدْرسة ومدارسة، أو قيلولة ونوم، بل إنك تشاركيني مخدعي أيضاً حين أكون مؤرَّقة، أو متعبة، أو مريضة.
الأب: هذا حسنٌ، إنما أردتُ أن أشير إلى أن الإسراف في التقليد يمحو شخصية المقلد، فيتماهى فيمن يحاكيه، فيصير شخصاً غريباً لا هو صار مثل أُسوته وقُدوته الذي يحبه ويُقلِّده ويحاكيه، ولا هو احتفظ لنفسه بمعالم شخصيته متفرداً، سمتاً وروحاً، فكراً واعتقاداً، سلوكاً وعملاً.
الأم: بهذا الإيضاح من أبيكما يتبين لنا أن المرفوض هو الغُلو في المحاكاة والإسراف في التقليد؛ لأنهما يؤديان إلى مسخٍ يشوب شخصية المقلِّد (المُحاكِي) يحجبه عن جمال التفرد وجلال الاستقلال.
عدنان: فهمتُ يا أبتي، فكم علمتَنا كثيراً أن الفطرة والتلقائية أشرق وأنصع في الإنسان من التكلُّف والتصنُّع والتقليد والمحاكاة.
وقد صدع القرآن الكريم بنفي التكلف والتصنُّع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [سورة ص، الآية: 86].
لينة: أنا معكم تماماً.. بل هناك عيب آخر يشين التقليد وهو قِصر عُمُره ونَفَسِه، فمن يقلد كبار المبدعين على المستوى الفني، أو الرياضي، أو حتى على مستوى الديني قد يلتمع قليلاً، ثم سرعان ما تنطفئ أنواره؛ لأنها في الحقيقة ليست أنواره هو بل هي أَثارة ومَسْحَة من بهاءِ مَن يقلِّده ويحاكيه.
والمقلِّد بهذا يضع نفسه في منزلة بين المنزلتين، لا هو المبدع الفني أو الرياضي الأصيل، أو الشيخ القارئ، أو الخطيب الداعية، ولا هو شخصية جديدة مبدعة مستقلة لافتة أو جذابة.
الأب: أحسنتم جميعاً، يُضاف إلى هذا أن المقلد يُعلن بتقليده عن بضاعته المزجاة في الإبداع والعلم والفقه، فلو كان المقلِّد مليئاً فناً، ومتضلعاً أدباً، ومُفعماً علماً وفقهاً، وثقافة وأصالة وحضوراً؛ لفاض كل ذلك وانساب رقراقاً من جوانبه وتفجَّر من حناياه، ولما احتاج إلى أن يقلِّد غيره.
الأم: كما أن التقليد غالباً يُعنى فيه صاحبُه بالشكل لا بالروح، وبالألفاظ والأصوات دون المعاني، وبالقالَب دون المحتوى والمضمون.
عدنان: نعم.. ذلك لأن المحاكاة تكون غالباً لظواهر الأشياء، أما الجوهر فهو غيب مكنون، لا يستطيع المقلِّد تناوشه من مكان قريب ولا تناوله حتى من بعيد.
لينة: حقاً.. وبهذا يكون من الأفضل طرح التقليد، اللهم إلا ما كان عفْو الخاطر من التأثُّر غير الراصد، ولا المتتبع ولا المستفزّ أحياناً!
الأب: وبذلك يمثل التقليد قشرة سطحية إذا ما تعرضت لأدنى اختبار أو احتكاك، أو لِعلَّة عارضة من مفاجأة، أو خوف، أو مرض، سرعان ما تزول هذه القشرة ليظهر مِن خلفها الجوهر على حقيقته المجردة المتواضعة.
الأم: زوجي الحبيب، بالمثال يتضح المقال: وإنا لنطمع في مزيد شرحٍ وبيان.
الأب: قد أدركنا الوقتُ.. لكنْ سريعاً.. كانت هناك أسرة تقتني ببغاءَ، وكانت هذه الببغاء مُولعة بتقليد الأصوات مِن حولها، وصارت بارعة في ذلك حتى قلَّدت أصوات مَن بالمنزل جميعاً.
وذات يوم، في غفلة من الأسرة، تسلل ثعبانٌ من نافذة تطل على حديقة المنزل، وما إن رأى الثعبانُ الببغاءَ حتى انقضَّ على القفص الذي يضمها يريد ابتلاعها، فصرخت الببغاءُ مرعوبة مستغيثة.. صرخت بصوتها الحقيقي الأصيل في وقتٍ ضلَّ عنها التقليد ولم تُغْنِ عنها المحاكاة من الهلاك شيئاً!
عدنان ولينة (معاً): فهمنا ووعينا يا أطيب والدين وأحسنهما.. لا للتقليد بعد اليوم؛ فإن كُنا لا محالة فاعلين فهو التأثُّر الذي يحفظ علينا شخصيتنا وكِياننا وذاتنا!



Share To: