القاعة صامتة، الإضاءة خفيفة تجعل الشخصية واضحة الملامح.
موسيقى خافتة لــ "علاّ" تتوزّع صمت القاعة، تتناقص كلما اقتربت الشّخصية من الخشبة.
باب حديدي جزأيه من أعمدة متراصّة طوليا إلى الثلثين والثلث الباقي مغطى بالحديد، مربوطة فيه سلسلة حديدية يتدلى منها قفل صغير، على يمينه مساحة يحدها باب صغير تتراكم فيها إلى الأعلى القمامة المُتَرامي فائضها على أطراف الرّصيف وعلى اليسار تصطف المسمكات.
رفيق متوسّط القامة، ليس بالطويل ولا القصير، مدوّر الوجه، لحية خفيفة دقيقة التفاصيل، بحيث يبدو كما لو كان فنّانا، عاقفا شاربيه نحو الأعلى، كما بيكاسو..
يرتدي عباءة صيفية، يضع على رأسه قبعة افرنجية تقيه حرارة الشمس، يلوي على رقبته شاشا أزرقا يتدلى على صدره إلى بداية البطن، يلبس نعلين صحراويين. في الحقيقة كان يحب دائما أن يقال له أنت من رقبتك إلى أم رأسك غربي (قاوري)، ومن رقبتك إلى رجليك عربي ..
يمشي من بداية القاعة متّجها نحو الخشبة..
في أول دخوله وبعد أن يخطو ثلاث خطوات يسمع صوتا من القاعة:
قيل بأنّ الكون نشأ من انفجار عظيم..
يمسك خطواته قليلا مستديرا في القاعة..
صوت آخر يرد عليه: هل قرأت "البداية والنّهاية".
صوت ثالث تخالط نبرته حيرة وتعجّب: ما دخل التاريخ والتراث في النازا؟ !
يطلق خطواته متمهّلا، يتمتم بين شفتيه همسا لا يكاد يسمعه سواه قصيدة المرحوم الطاهر السعيدي:
بسم الله بديت نكذب الكذوب خاوي لا غير ... والصح ما نقولو ما ني مولاه أيا حضّار !! (بسم الله ابتدأت الكذب الفرغ ,,,,,, الصدق لا أقوله ولست صاحبه يا مولاي)
يتقدّم شيئا فشيئا في القاعة. يسمع صوتا آخر:
قيل بأنّ الإنسان صعد إلى القمر..
يتمتم هامسا بكلمات لا يكاد يسمعها غيره من أغنية لعبد الحليم:
نبتدي منين الحكاية؟
في آخر خطوتين قبل صعود درجات الخشبة يصدح صوت ثالث:
قيل أن الصحراء كانت بحارا قبل أن تصير قفارا..
يتأنّى لثانيتين أو ثلاث يلتفت فيهما إلى القاعة، يبتسم ثم يمسح بيده على رأسه، ويصعد هامسا بكلمات أغنية قديمة:
باسم الله بدينا وعلي النبي صلّينا..
يستوي واقفا على الخشبة أمام المدخل المكوّن من باب حديدي شمله الصّدأ تدلّت منه سلسلة موصولة بقفل صغير.. تنبعث من خلفه أصوات الباعة يروّجون للخضار وعلى يمينه أصوات تروّج للسردين..
طازج مازال يتحرّك..
حوت وهران الباهية..
سردينا مالحة وبنينة..
يتذمّر من طاولات الحوانيت التي زاحمت المارّة على الرّصيف، والشّمس في بداية موسم الصّيف تنبسط بضوئها الساخن على الصناديق فتنبعث رائحة كريهة فيها شيء من ملوحة البحر البائتة التي تصل عبر المسجّل وليس المباشر، ثم يهمس بداخله:
لم أر في حياتي أسواق الحوت تفتح على الشارع مباشرة. لم في أوربا يتحكمون في مثل هذه الرائحة النتنة للحوت؟ آه إنّهم لا يشترون بالأرطال الزائدة كما عندنا.. سمكتين أو ثلاثة تكفي.. الشواء والهواء الطلق هو ما يجمعهم.. وليس الحشر في المطبخ ورؤوس الأسماك ما زالت في كيس البلاستيك تنتظر من يرميها في القمامة.. أن نفسد على الآخرين شمّهم ليس بالأمر الكبير. مازاله بائع الأسماك جارنا يوقف شاحنته المبرّدة لتبيت أمام نافذتي.
يتّجه نحو طاولة، تفصله عنها مياه راكدة يميل لونها إلى البنّي، نتنة تزكم الشم، يحاول الضّغط على أنفه لكن يتذكر أنّه بالسوق فيسدل يده مرّة أخرى. يرفع رجله محاولا ألا تلمس الماء النّتن وفي نفس الوقت يرفع كمّ سرواله إلى الأعلى، يخطو قافزا إلى الطاولة فاقدا اتزانه. يرتمي مادّا يديه نحو حافة الطاولة كي لا يقع، عندما يستقيم وضعه ينظر إلى البائع مبتسما ويداه تحاولان تعديل صندوق على الطاولة كان قد اهتزّ. ينظر في الصناديق المتراصة فوق الطاولة، يحاول أن يلمس بعض السمك فيها، يحرك السبابة إلى الإبهام ماسحا لزوجة علقت بهما، يرفع رأسه في البائع:
كم ثمن السمك؟
أي سمك تعني، لَبْلو(الأزرق)، البوقا، الكروفيت..؟
أراد أن يمازح البائع، فوسّع من فمه واستعرض بسمة كانت مخفية خلف انزعاجه من الزّحام والماء الرّاكد ونتانة السّمك الميت:
في عمقه تكلم هامسا بينه وبين نفسه: "حوت ميّت صارت له ليلة وهو محمول إلى مدينتنا دون أن نحسب كم من الوقت بقيه على قيد الشاطئ قبل أن يشحن إلينا، ثم يقول طازج ويعدّد الأنواع.. ".
لم يعلّموني أن البحر متعدّد، هناك ماء مالح واحد يعيش فيه نوع واحد من الأحياء اسمه حوت، أنا لا أعرف سوى الحوت، أذكر أنّنا كل اثنين كنّا نتسابق إلى المنزل قدوما من المدرسة حيث اعتادت أمّي تحضير طبق الحوت في ذلك اليوم، وكلّما تذكرته أجد رائحته وكأنّني لم آكله سوى اللحظة. لم أعرف سوى الحوت.
ضحك كي يوحي للبائع بأنّه يمزح. انفجر البائع في وجهه ضاحكا، فاهتز جسده ونظر إليه في غرابة منكمشةٌ خطوط وجهه، ثم سرعان ما أطلق وجهه وعادت إليه ابتسامة مفتعلة:
قال البائع متهكما:
ما كان عليكم أن تعرفوا حتى الحوت لأنّه ليس لديكم بحر.
ما عندناش بحر لكن نحوز شبيهه.. ألم تسمع بجرف التربة والحوت الذي فيه.. ربّما أنت ضعيف في الجغرافيا واقتصاد الحوت..
يقهقه جامعا قهقهته بيده التي يضعها على فمه الواسع..
يضحك معه هذه المرّة البائع، ولا يريد أن يخسر ما بجيبه من دنانير، فيخاطبه بلطف:
كم، كيلو أو اثنان؟
كيلو فقط إلى أن نصبح عارفين بالبحر وحينذاك نشتري بالصندوق.
وقبل أن تمتد يد البائع إلى الصندوق:
من فضلك اختر لي الأسماك ذات العيون الصافية التي ليس بها حمرة.
سوف لن أنتقي لك سوى العيون الصّحراوية التي ترى في البعيد كــ "زرقاء اليمامة" مثلما يقولون في الأدب.
آه.. لا.. اختر لي فقط زرقاء الموج، الزرقاء حبيبتي..
ينفجر كلاهما بالضحك..
Post A Comment: