بنو الإنسان يقتل بعضهم بعضًا، قصة قابيل وهابيل في بداية البشرية تعيد نفسها من جديد. وفي جانب آخر، نجد الانحدار ينتشر في جماعات متعددة، وبلدان ودول مختلفة. وهذا نتاج طبيعي لعدم وجود الهوية الفكرية، تلك الشعوب التي تقاتلت وأفنى بعضها بعضاً، هل تقاتلت من أجل هدف أسمى أم من أجل مطامع شخصية دنيوية ؟ هنا يكمن الفرق فالهدف من الحرب هو أساس قيامها، وليس الحرب بذاتها. لأن الحروب لا مفر منها، وسوف تحدث شئنا أم أبينا.
ولكن ماذا بعد الحرب ؟ هل هناك حضارة أم هناك دمار وخراب ؟ هذا لا يحدده سوى الهدف الذي قامت من أجله الحرب.
« أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) »
(الحج 39-40)
إن قرار الحرب هو أهم وأعظم وأصعب قرار قد يتخذ في المجتمع أو الدولة بمفهومها الحديث. لذلك لا ينبغي أبداً أن يكون هذا القرار بيد فرد أو جماعة داخل هذا المجتمع. والدليل على ذلك، أنه عندما أمر المولى -عز وجل- الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالقتال، لم يأمره وهو بين أهله في مكة المكرمة، وإنما أمره بعدما أُخرج منها، وبعدما هاجر إلى المدينة المنورة. بعدما تكونت وتشكلت نواة الدولة الإسلامية، التي وضع بذرتها في المدينة المنورة وصارت أول دولة في المفهوم العلمي للمجتمعات الحديثة. وبعدما أصبح للإسلام شوكة يهابها أعدائه، وصار للمستضعفين من المسلمين ركن يرتكنون إليه ويهاجرون إليه ويذكرون فيه اسم الله عز وجل. لم يكن المولى -عز وجل- بحكمته وقدرته وعظمته ليأمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالقتال وهو في أهله، لئلا يكون فساداً في الأرض وتكون سنةً من بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم-. فلو أمر المولى -عز وجل- رسوله عليه السلام بالقتال وهو بين أهله، لكان ذلك شراً وفسادًا في الأرض، ومعاذ الله -سبحانه وتعالى- أن يأمر بالفساد في الأرض، وإنما يريد -جل جلاله- الخير للعالمين. لذلك، لا يحق أبداً لجماعة أن تقاتل جماعة أخرى في نفس المجتمع بحجة أنهم كفار، في حين أنهم أهلهم وخاصتهم ويعيشون بينهم. ولهذا يجب أن نتحرى الدقة في النقل عن كلام المولى -عز وجل- وأن نتثبت ونتدبر، ونتفقه في كتاب الله وآياته. هناك فرق كبير بين الجهاد في سبيل الله، والقتال في سبيل الله. فالجهاد هنا لا يعني القتال فحسب، وإنما يعني الجهاد بالكلمة، والجهاد بالرأي، وبنشر كلمة الله، ودعوة الناس إلى الخير والموعظة الحسنة ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) ، ( إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ).
هناك أوجه كثيرة للجهاد في سبيل الله. وعندما يذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم “القتل” فإنه يعني القتال والقتل في سبيله. لهذا نجد أن جميع الآيات التي تحدثت عن القتل بشكل مباشر وواضح في كتاب الله؛ آيات مدنيّة، أي نزلت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- ولم تكن آيات مكية.
ولكن من الذي يتخذ القرار بالحرب ؟! ومتى يتخذ هذا القرار وكيف يتخذه ؟!
لا تكون الحرب لفرد واحد، وإنما يشارك فيها مجتمع بأكمله، لذا ليس من حق شخص بمفرده اتخاذ مثل هذا القرار. ويجب أولًا أن يكون المجتمع كله مكتمل الايمان، ثم بعد ذلك نحارب الفساد في الأرض. فلا يمكن أن نحارب الفساد في الأرض ما لم نحاربه في أنفسنا أولًا. ثم بعد ذلك نحاربه في المجتمع الذي نعيش فيه، فنقيم كلمة الله فينا قبل أن نقيمها في الآخرين. ومثلنا في ذلك ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما بدأ بأهل بيته وأقرب الناس إليه، بعدما نزل عليه الوحي بأن ينشر كلمة الإسلام في الأرض. فدعا أهله سراً الى الإسلام، واستمر في الدعوة سراً إلى أن جاءه الأمر السماوي بأن يدعو الناس كافة، ويجهر بدعوته، دون أن يُأمر بأن يقيم الدعوة بالقوة، وبقتال الناس في سبيل نشرها حيث قال تعالى : « إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ » وفي آية أخرى: « إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ » وفي موضع آخر : « ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ». ولهذا أنا أستنكر على أي مجموعة أو جماعة أو فرد أن ينشر القتل بدعوى أنه يجاهد في سبيل الله. فهو بذلك يفتئت على الله، ويقول ما ليس في الدين بغير علم حقيقي، ويحسب أنه على علم. ولهذا لابد من الرجوع إلى العلماء وأولي الأمر « فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ».
كما أننا نتساءل، كيف لجماعة تعيش في مجتمع، أن تكفر مجتمعًا آخر ؟ قال تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا »
وقال صلى الله عليه وسلم : ( قد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ). كيف نعيش في مجتمع مسلم، ونرفع السلاح في وجه بعضٍ منه، بحجة أنهم كافرون ؟ حتى وإن افترضنا أنهم لا يقيمون حدود الله، وأثبتنا صدق رؤيتنا في ذلك، فقد يكون ذلك اختلافًا في الرأي دون وجود دليل قاطع عليه. وإن كان ولابد فهم فاسقون وليسوا بكفرة، ولم تنزل آية تأمرنا بقتال أهلنا من المسلمين الفاسقين وإخراجهم من أرضهم. فلو أننا فعلنا ذلك لكنا مثل اليهود الذين أمرهم الله -عز وجل- ألا يقاتلوا أنفسهم وأهليهم وألا يخرجوا فريقًا منهم من ديارهم بدعوى الفسق أو ارتكاب الإثم. قال تعالى : «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿ 84 ﴾ ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ 85 ) ».
(البقرة 84 – 85)
هذا هو قضاء الله وعدله، وهذا هو وعده لمن ادعى على الله بغير علم وعصى الله، وأمر بما لم يأمر به الله في كتابه، وادعى على الله بغير علم باطلاً.
ولكي يتغير المجتمع، لابد من تغيير المفاهيم التي نتعامل بها الآن مع بعضنا البعض كأفراد أو مجتمعات، ولكي نحرز تقدمًا ونصنع فارقًا جوهريًا في الحياة، على المرء أن يتعامل مع الناس من منطلق أنه يعامل الله أولًا قبل أن يعامل الفرد. وهناك ثلاث خطوات أساسية لابد أن نسير عليها كخطة لتغيير الأفراد والمجتمع ككل :
الهدف : أن نصنع هدفًا يشعر به كل فرد، وأن يصب هذا الهدف في مصلحة المجتمع ككل. وسنوضح هذا فيما بعد في صفحات هذا الكتاب، ولكنه بإيجاز يتمحور حول توحيد هموم الفرد والمجتمع؛ لكي يشعر الفرد بقيمته في المجتمع ويتمكّن المجتمع من توظيف قدرات هذا الفرد بناء على قدرات كلٍ منا وإمكاناته.
المشاركة : مبدأ المشاركة لجميع الأفراد داخل المجتمع، والإحساس بالاندماج داخل المجتمع؛ بمعنى أن الجميع إخوة، يسعون لتحقيق هدف مشترك، وذلك بالتنافس الشريف الذي تسود فيه روح المحبة، دون أن يشعر كل فرد أن الآخرين أعداء يضمرون له الضغينة .
الإيمان بالهدف : لا معنى للهدف ولا سبيل لمشاركة أفراد المجتمع في تحقيقه إلا بالإيمان بهذا الهدف والاقتناع به، فبدونه لن يكون هناك الدافع للسعي لتحقيقه.
السؤال البديهي الذي يطرأ على ذهن القارئ هو: ما هو الهدف الأمثل الذي علينا أن نصنعه ؟ وما السبيل لتحقيقه ؟ وكيف يمكننا أن نضمن إيمان الأفراد بهذا الهدف كي نصل إلى المشاركة المطلوبة ؟
هذا الهدف هو كلمة لا إله إلا الله، كلمة التوحيد التي تلم شتات أمتنا.
وكلمة التوحيد هي بداية الطريق الذي لن نتمكن من السير فيه إلا بمنهاج سيدنا محمد رسول الله
لهذا فإن لا إله إلا الله محمد رسول الله هي الهدف والمنهاج والطريق. هذا هو مفتاح الكتاب الذي سنبحر فيه لنفهم بقية الأفكار ونعرف كيفية تحقيق الهدف وكيفية التماس الطريق للوصول إليه .
من المهم أن نشخص المرض كي نحدد العوارض، والتي منها يمكننا تحديد السبب والطريق إلى اكتشاف الحل.
وأنا أنظر إلى البشرية بنظرة أخوية لكل من يعيش على هذه الأرض من لدن آدم عليه السلام أبو البشر. فالناس كانوا أمة واحدة وجعلهم الله قبائل ليتعارفوا، فما الذي جعلهم يتحاربون ويتقاتلون ؟! وعلى أي شيء يتقاتلون ؟! وما جدوى تلك الحروب؟! ومن المحرض عليها ومن المستفيد؟!
Post A Comment: