وفي ساعة الانعزال الذاتي مع الروح ، رأيتها تتمايل أمامي وكأنها سنبلة محملة على ظهرها لؤلؤات ونجوم تُضئ ما بين المشرق والمغرب ، سعيدة بقدر الحمل الثقيل على أكتافها الملساء ، ذو النور الإلهي الناصع ، مددت يدي إليها لعلي استمد من ذلك النور ولكنها تراجعت بسرعة وبدأت تختفي رويداً رويدا ، اعتذرت لها بهمس شديد ونغمة مختلطة بالحسرة والاستسلام ، نظرت إلى عيناي الغارقتين في الأسى ، والمصبوغات بصبغة الشرود والتفكير ثم تراجعت حتى دنت مني ومالت ثم قعدت بجانبي والنور يكاد يسبب لي العمى.
- من أنتِ بحق هذا الجمال ؟ قلت لها بهمس بالغ ، وعلامات الحزن تسكن ملامح وجهي الممتلئ بندوب هذه الحياة التعيسه.
- ثمني الحياة ومهري عزة النفس وعدم الرضوخ والانحناء أمام المتكبرين في الأرض ، لن تستطيع معرفتي وأنت تشاهدني في أحلامك فقط ، يجب أن يفعل الناس المستحيل من أجل الحصول عليّ ، التضحية في سبيلي هي الأساس الذي يمكن بواسطته إيجادي.
قطعت حديثها والمفاجأة تغمرني كأنها برد الشتاء.
- في نظرات عينيكِ الساحرتين تنبعث الإرادة الإلهية المميزة ، والتي يمكن للإنسان أن يعيش عيش الإنسانية بواسطة تلك الإرادة ، بعيداً عن الألغاز أيها الجميلة النقية كقطرة ماء ، تخيلي يا سعادتي بأن جمالكِ الملائكي وشعوركِ الذي يسلب عواطف الإنسان كفيل بأن يجعلنا نقدم ارواحنا رخيصة في سبيلكِ ، تالله لقد جعلتينا أغوص في أعماق التفكير لعلي أتذكرك ولكنني لم أجد شيئاً من الذكريات يدلني عليك إلا إحساس مرهف يختلج جوانحي ويقول لي بأنكِ خلاصة الجمال والنفس التي لا تخاف لؤمة لائم. وما كل هذا النور الذي تحملوه على كتفكِ الطاهر ؟
- هذا النور هو الأرواح التي ناضلت من اجلي ، وكافحت في سبيل طريقي الممتد إلى السماء ، وقدمت أغلى ما تملك وهو الدم ، لقد تحولت دماء الأرواح إلى نور أحمله معي أينما أذهب ، لن أضعه إلا على ذلك المكان الذي سألت منه الدماء ، واختلطت بتراب الأرض وتجذرت ونبتت بهذا النور العظيم ، هولاء هم الذين رفضوا الانصياع لأوامر الباطل في زمن أظلم فيه وجه الحق ولم يتركوه مظلم بل حاولوا إيجاد ثغرة للنور لتبدد الظلام وتنشر الود والسلام ، هولاء هم الفئة التي تركت كل ما تملك من متاع الدنيا ، لأنهم عرفوا بأن كل تلك الممتلكات لا تفيدهم بشئ مادامهم لا يتنفسون نفسي ، وينامون وهم آمنين مطمئنين ، أني شيء غير محسوس باليد ولكن ملموس بالشعور ، منازلي السجون ، نعم السجون منازلي ، ولكن للبعض فقط ، لأولئك الذين قالوا "لا" في زمن كثرت فيه "نعم" من أجل الحفاظ على النفس والتقرب والحصول على المناصب ، لعلك عرفت من أني الآن أيها الباحث عني ؟
- عرفت من أنتِ مع اليقين والإيمان والتسليم أيها الثمينة ؟ عرفت أنكِ تلك الأنثى التي لا يحصل عليك إلا القلة من الناس ، القلة التي آمنت بك كالإيمان بالله ، وبحثت عنك كالسعادة لأنكِ السعادة ، وشعرت بكِ كالحب لأنكِ الحب ، وادمنتكِ كالخمر لأنكِ نادرة وغالية الثمن ، يسافرون الناس إليكِ من كل حدب وصوب علهم يلتقون بكِ كالطبيبة النادرة لتداوي علة الذل المسكون في أحشائهم أيها النبيلة ، يا وجه الرب وفطرته ، يا انشودة الطيور السابحة في الهواء تغرد بإسمكِ فرحة مبشوشة ، عائمة في محيطكِ العريض للبعض والقبر للبعض الآخر. لماذا يكرهكِ البعض أيها الفاتنة ؟ وأنتِ بهذا الجمال والوصف والسحر ؟
- البعض يقولون بأني أفسد حياتهم لأنهم يمتلكون مصالح من عبودية الناس ، والبعض الآخر يخاف من أصحاب المصالح أن يلحقوا به أذى إذا تكلم عني أو صارح أحدهم بأنه يحبني ؟ والبعض الآخر لو أمطرت السماء بألف من مثلي لوجدتهم يختبون من قطراتي لأن فطرتهم فطرت على الانحناء ، وفكرتهم أنشئت منشأ الخوف والخضوع والرجاء للمخلوق العاجز وتناست الخالق القادر ، والبعض يصنعون من الآخرين آلهة ويسبحون بحمدهم لكي يحصلون على قوت يومهم ، هولاء نسوا بأن هناك رزاق لو بحثوا عني جيداً حتى لو كلفهم ذلك حياتهم الرخيصة أمام المستبدين.
- إن صوتك لحياة أيها الشريفة العذبة ، آه لو يعلم العبيد ما أجملك ؟ وما أجمل الشعور والإحساس النابع من أغوار الأرواح عند لقياك ؟ أحسست بأني وجدت ذاتي فيك ، وجدت نفسي مختبئة تحت جفنيك ، أنتِ ظالتي ووجهتي ودربي الكبير ، هدفي الوحيد هو الحصول عليك ولا أريد شيئاً آخر ، لم أجد للطعام طعم إلا بجانبكِ ، ولم ترتوي نفسي من الماء إلا عندما وجدتكِ ، آه كم أنتِ غالية وجميلة ، والله لو أظل كل طوال عمري مفارق للديار ، وبعيد عن الأهل والجار ، ومغترب في هذه البلاد لن أحزن إلا قليلاً ، لأنني وجدتكِ هنا ، ساحزن على أمي ولكن ساعرفكِ عنها قريباً أيها الحرية الجميلة.
في نفسي عالم يختزل صوركِ النورانيه ، يحتفظ بكِ وسط أفكاري التواقة إليكِ ، محاربون من أقرب الناس إلينا ، يحذزنا الجميع منك ايها الحرية التي يتكور فيها معاني العيش الكريم الحياة خالية من الركوع للبشر ، لماذا اختفأت من أمامي عندما مددت يدي إليكِ ؟
- أنت لم تحب بعد ، لم يلامس قلبك خيوط القمر ، لم يحصل على الدفئ من أشعة الشمس في لحظات الصباح الأولى ، أني تناسق بين الحب والسلام ، وامتداد بين الجمال والكرامه ، وجسر بين العزة والشرف ، ووصلة بين الاعتزاز بالنفس والثورة ، هناك في قلبك شعاع ضئيل إذا تغلبت عن واقعك سوف يصبح نوراً عظيم ، وستجدني حينذاك أمامك. المحبين أحرار ، تغلبوا عن واقعهم الأليم ، وانطلقوا في رحاب الحرية يتنفسون بعضهم بعضا ، حتى لو كان الواقع المحيط بهم مكتظ بالكراهية والعبودية ، إلا أنهم يشعرون شعور الاحرار عندما ينظرون إلى بعضهم البعض ، وعندما أقول لك المحبين فإني لا أعني بالضبط الرجل والمرأة ، وقد يكون الرجل ومعتقدات المجتمع ، وهنا علاقة عكسية ، وقد يكون الرجل وسلاحه في ساحة الوغى ،وهنا علاقة طردية ، وقد يكون الرجل والمرأة وهنا علاقة حميمية.
- أحببت أنا أيها الحرية الجميلة , أحببت ولكن بصمت ، خوفاً من القيود التي افرضها الواقع علينا نحن المحبين ، نعم أحببت ولكن حبي تحول إلى عذاب يكوي القلب ، وهذه خاتمة الذل وعدم الإنتصار ونصر.
نعم أحببت ولكن حبي تحول إلى عذاب يكوي القلب ، وهذه خاتمة الذل وعدم الإنتصار ونصرة الحب والرغبة التي تريد لها أن تعيش ، يطلقون على المحبين بلفظ الشماتة ، ويطلقون على الأعداء بلفظ الأبطال ، مجتمع يفكر بالمقلوب ، صحيح ما قلتِ يا حريتي ، ولكن عندما رأيت المجتمع يكشر أنيابه نحوي بدأت أقبل فكرة التخلي ، وهذا أول سبب من أسباب هروبكِ.
- صحيح أيها الباحث عن الحقيقه ، ماذا لو كنت انتصرت لحبك ؟ العمر هو العمر ، سواء تقدم أو تأخر ، لحظة الغروب مقدرة بالثانية والوقت المحدد ، ولحظة الصعود إلى السماء مكتوبة في اللوح المحفوظ ، لذلك لا تخف ، قاتل بشراسة كل من يحاول أن يجعلك عبد ، سواء لمعتقدات المجتمع، أو للأعراف القبلية ، أو للأفكار المقدسة ، او للطغاة المستبدين.
- كيف انتصر يا وجه العيش دون قيود ، نحن مكبلين بقيود وهمية اُقلفت على كواحلنا ونحن في المهد ، تخيلي بأني خلقت إلى الذل ، هكذا فجأة صدحت بالبكاء لأننا تفاجأت بالواقع ، كنت في بطن أمي أتخيل واقع مميز ،كنت أدفع عجلة الزمن من أجل الخروج ولكنني تمنيت أن أعود عندما شاهدت تلك السلاسل تطوق أعناق الرجال ، وتغلق أفواههم في أشد المواقف حاجة إلى كلمة حق تعيد للمظلوم حقه ، دمعت عيناي حزناً وأنا عاجز عن الحركة في صغري ، حتى الظلام يخافون منه أيها النور العظيم ، ينظرون إلى من يحاول فرضك وكأنه شوكة في حلق المجتمع ، فاسد يريد التخريب ، وظالم يريد الترهيب ، ولكن أخبريني أيها الحرية ،اذا كشفتِ عن جمالك ربما يهرولون الناس بعدكِ ، ويقدمون كل شيء ثمين من أجل الحصول عليكِ ، هي تجربة ، أكشفِ عن وجهك حتى يستعيد العباد ذواتهم ؟
- أنظر إلى ذاتك أنت أيها الجرئ ، لم أكشف عن وجهي لك إلا لأنك سهرت الليالي وعيناك مبيضات من الحزن تريد أن تحصل على نوري ، واجهت صعوبات الواقع وتحديات الحقبة الزمنية المحيطة بك ، سأدلي لك بسر مهم : إنني أسكن كل نفس بشرية ، اختلط بالدم ، امتزج بالشعور ، ولكنني أمتلك ميزة الاختفاء إذا لم يحين ظهوري في شخصية الفرد ، أساعد كل من يحاول إيجادي ، ابدا بالظهور رويداً رويدا بقدر أعماله وسلوكه واجتهاده في البحث عني ، يؤسفني كثيراً أيها الفائز أنني اختفأت في الشخصية الإسلامية التي هي بالاصل من تملكني ، إذا كان الإنسان يعبد الله بجوانحه ويخلص له في السراء والضراء ، في الشدة والرخاء ، فقد حاز حب الله ، ومن حاز حب الله ، وجدني أمامه ، لأن عباد الله الصالحين لا يخشون مصائب الدنيا التي ستتنزل عليهم ، لأنهم متصلين بالله ، هذه هي الحقيقة ، الخوف المسيطر عليهم مجرد أوهام باطلة ، وباهته ، إذا تم نفض هذا الوهم سوف يعرفون معنى الصلة الوثيقة بين الله والحريه.
- كم يا لكِ من أنثى ذو سطوة جبارة أيها الحرية ، من أجل هولاء العيون ، وجد الآلاف أنفسهم في غيابات الجب والصراعات وأنا في مقدمتهم ، ومن أجل الحصول عليك سالت دماء الملايين ، وأنا أول من فقد أعز الرفاق ، اي شيء مثلك يبذل البشر هذا الحجم المرعب من التضحيات.
ذهبتِ ، نعم ذهبتِ ، اختفتِ ، أين اختفأتِ أيتها الجميلة ؟.
ونادت من وراء حجاب قائلة : احب من أجل أن يلامس قلبك شعوري الكبير ، وتصبح طريقك مضيئة ، احب حتى أحبك يا حبيب ، إنني ساكنة فيك ، أنت في الطريق الصحيح ، لا تتراجع ، أكمل طريقك بإيمان تام بأنك وجه الحقيقة وصوتها.
Post A Comment: