لطالما شعرت أن في كل ذات بشرية منّا مصباحا ما، لكنني طوال الوقت كنت أتساءل أين هو، أهو في العقل أم في القلب أم هو في الجسد كلّه، أم هو الروح، أم النفس؟ هذا المصباح هو نصيب كل منّا من نورٍ كونيّ يشملنا جميعا نحن البشر وهو موزّع بيننا توزيعًا عادلًا، لكن التفاوت يكمن في ذلك “النور الأسمى” وأظنّه والله أعلم في تشبيهٍ تقريبيّ، كنور الشمس إذ تصدر عنها أشعّتها لكل من يتعرّض لها – ولله المثل الأعلى – لكن هذا المصباح – الذي فينا – عَظُمَ أم كان ضئيلًا، يمكن أن يزداد نوره كلما استمدّ من ذاك “النور الأسمى” قبسًا إثر قبس، وهنا يمكن أن يكون التفاوت.
ومن خلال فهمي لآيات سورة النور سأحاول شرح وجهة نظري بما يتوافق وما جاء في كتب التفسير ولكن وفق خاطرة خطرت لي منذ سنوات وقمت بنشرها آنذاك. وعندما اطّلعت على التفاسير بعد نشرها للتحقق من سلامة ما توصّلت إليه ازداد اقتناعي بصحة خاطرتي تلك.
بداية أتمنى على من يهتمّ لهذا الموضوع أن يقرأ هذه السورة كاملة ثم نبدأ معًا في معالجة ما ورد على خاطري من أفكار، راجية من الله تعالى العون والتوفيق، والنجاح والفلاح.
سورة النور
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) سورة النور
عندما ندقّق في آيات سورة النّور كلّها ثمّ ننظر إليها بعد ذلك نظرة عامة شاملة نجدها كما وصفها الله سبحانه في أول آية من آياتها بأنها – “سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” – وأنّها – أيضًا – كما قال الله فيها: “وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ”آية (٣٤) فهي آيات بيّنات وهي آيات مُبَيِّنات. الأولى بمعنى واضحة المعنى صريحة، والثانية بمعنى واضحة الأحكام مُحدِّدَة لها بكل دقّة.
وهذا الذي ذكرنا يعني أنّها واجبة التطبيق كما جاءت في أحكامها وحدودها، أوامرها ونواهيها. أي تطبيق الحدود، وهي هنا حدود فاحشة الزنا صيانة للمجتمع من اختلاط الأنساب وفوضى العلاقات، وحدود قذف المحصنات صيانة للأعراض، وردعًا عن المساس بها، وما لهذا كله من أثر على بنية المجتمع وتماسكه.
هي إذًا واجبة التطبيق – كما هي – في كل ما جاء فيها من أحكام، وهذه الأحكام التي هي واضحة وصريحة لا لبس فيها لا يجوز تجاوزها لأنها منّزلة من عند الله وليست قوانين أو أعراف تواضع الناس عليها وأقرّوها فيما بينهم.
وهي كذلك سورة حدّد لنا فيها سبحانه أسس منهج العفة والطهارة، طهارة الباطن التي تتساوق مع طهارة الظاهر، ليكون المسلم مؤمنا حقا تجتمع له طهارة النفس والجسد، وعفة المشاعر كما عفة اللسان سواء بسواء. بل إن فُحش اللسان عقوبته أشدّ عند الله من فعل الفاحشة ذاتها، فقذف المحصنات إفك، وهو أقبح الكذب وأفْحشه، قال تعالى: “إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ” آية (١٥).
وهذا تأكيد على مدى أهميّة أن تجتمع للإنسان طهارة البدن ونقاء السريرة وعفة اللسان إلى عفة الفرج ليكون هذا الإنسان مسلمًا مؤمنًا.
إنّ هذه السورة كما فرض الله سبحانه فيها الحدود الزاجرة لمن يرتكب فحش القول والفعل الفاحش، بيّن لنا أيضًا المنهج الذي يؤدي إلى تلك العفة وإلى ذلك النقاء وتلك الطهارة، كما حدد عقوبة التهاون في الالتزام بالمنهج وفي أسسه وفي آليّات تنفيذه، بحيث لا يختلط الأمر في أدق تفاصيله على ذهن عاقل. فكل ما جاءت به الآيات واضح صريح بيّن.
وهذا يعني أنّ الله سبحانه قد وضع لنا المنهج كاملا بدءا من عقوبة الفاحشة مرورا بما قد يؤدي إليها، موضّحا أسس الوقاية منها لمنع حدوثها. وبهذا تجتمع سبل الوقاية إلى النهي والزجر، فإن لم ينفع هذا ولا ذاك مع النفس الأمّارة بالسوء كانت العقوبة وكان التشهير في الدنيا، ورُدّ المذنب بعد ذلك إلى الله ربَّه. فالمَنهج منهج ربّاني وهو دستور واجب التنفيذ بحذافيره ، قانون ، تشريع، سمّه ما شئت، لكننا لا نملك إلا الطاعة ولا يمكننا إلا تنفيذ بنود هذه القوانين الربانية كما تنزلت.
وهنا نبدأ من حيث بدأ سبحانه، نبدأ بالعقوبات وأوّلها عقوبة الزنا، ولن نتعرّض للعقوبة ذاتها فهذا من شأن ولي الأمر وفقهاء الأمة، لكن علينا أن نقرّ بوجوب تنفيذها إذ أنّها فُرضت من لدن عليم خبير حكيم هو مَنْ خلق، وهو أدرى بخلقه وما يتوجب فعله.
ومقابل شِدّة هذه العقوبة ومدى تأثيرها العميق في النفس البشرية المُعَاقبة أو المُشاهِدة للعقوبة أو المنفّذة لها، علينا أن ندرك مدى أثر الفاحشة ذاتها على المجتمع عامة وعلى الأسرة وأفرادها خاصة. وعلينا أن ندرك أيضًا مدى صعوبة تحقيق الشروط التي توجب إقامة الحدّ والتي بغيابها تصبح العقوبة مستحيلة التنفيذ.
إنهم أربعة من الشهود الذين يُجمعون على أنّهم رأوا فعل الزنا بكل وضوح دون مواربة، رؤية لا يُداخلها وهم مهما تضاءل هذا التوهم، ولا يُداخلها ظن، بل هو فعل تمّ حدوثه، فعل تمّ التأكدّ منه رؤية بالعيْن المجرّدة، وهي هنا أعين الشهود جميعهم فردًا فردًا. عندها فقط تُقبل الشهادة كي لا يدّعي من يشاء على من يشاء بما يشاء. وكي لا يصبح الحديث في الفاحشة أمرًا مستساغًا لا حرج فيه.
كما يتحتّم تنفيذ العقوبة في حالة اعتراف مرتكب الفاحشة صراحة، فهذا الاعتراف لن يكون إلا صادقا، ولن يكون إلا خشيّة لله وخوفًا منه تعالى وطلبًا للتطهر من الذّنب لصُعوبة الاعتراف “بالزنا” في مجتمع يرفضه ويعاقب عليه، وصعوبة قَبول مثل هذه العقوبة على النفس لأثَرها الشديد على سمعته وسمعة أسرته. كما تصبح العقوبة واجبة كذلك في حالة الملاعنة بين الزوجين إن اعترف الجاني بفعل الزنا. هي إذًا ثلاث حالات فقط توجب الرجم أو الجلد. شهادة أربعة شهود، أو الملاعنة مع اعتراف المذنب، أو اعتراف المذنب طلبًا للتطهر.
وكما أن هناك عقوبة للزاني فهناك في المقابل عقوبة لمن يرسل الإدّعاءات في حق الناس إرسالًا دون أن يتقيّد في هذا الأمر بما أوجبه الله تعالى في محكم كتابه البيّن الآياتِ من شروط.
فإن كان الفعل الفاحش أشده فحشا هو الزنا، فإنّ القول الفاحش أشدّه فحشا هو الإفك، “والإفْك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وهو البهتان الذي لا تشعر به حتى يفْجأك”. والمراد به هنا الافتراء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خاصة أو الافتراء على أية امرأة محصّنة أو رَجُل.
وإن كان حكم عقوبة الزنا يمكن أن يدرأ، إلّا أن حكم عقوبة الافتراء لا بدّ من تنفيذه في كل الأحوال. بِدءًا من الجلد مرورًا بالتشهير وانتهاءً بعدم قبول شهادة المفتري فيما بعد في أية مسألة توجِب شهادة الشهود.
فسبحان الله الذي جعل “الإشهار” واجبًا في الزواج وفي حدّ الزنا وفي حدّ الافتراء لما لهذه الأمور الإجتماعيّة من حساسيّة تًمَسّ سمعة الأسرة وسمعة أفرادها ولما لها من أهميّة في ترسيخ الأسس التي يُقام عليها بناء المجتمع ككل، فكما أن في الزواج الصحيح إشهار فكذلك في عقوبة الزنا إشهار، الأوّل صيانة للحقوق، والثاني صيانة للأعراض.
قصة الأفك
أمّا قصة “الإفك” فهي ذلك البهتان الذي فوجئت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فكان درسًا للمجتمع الإسلامي تؤخذ منه العبر على مدى العصور. أوّل تلك الدروس موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الحدث ذاته ومن المُفتري وممن أشاع القصة ومن زوجه صلى الله عليه وسلم. وثانيها رد فعل المُفترَى عليها رضي الله عنها. وثالثها رد فعل المؤمنين.
ملخّص القصة وبكل بساطة أن عائشة – رضي الله عنها – ذهبت لقضاء حاجتها بعيدًا عن معسكر الجيش في إحدى غزوات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم عائدون إلى المدينة. وفي طريق عودتها أحست بفقدان عقدٍ لها فرجعت تبحث عنه. في ذلك الوقت لم يشعر بغيابها أي من الجنود، فحملوا هودجها على واحد من الجِمال وساروا به. عادت السيدة عائشة فلم تجد أحدًا منهم فلبثت في مكانها على أمل أن يفطنوا لغيابها ويعودوا إليها باحثين عنها. في تلك الأثناء مر بها الصحابيّ “صفوان بن المعطل السلميّ”، فعرفها ودون أن يتحدّث إليها ولو بكلمة واحدة أناخ راحلته وركبتها عائشة، وقاد الناقة، وسارا هكذا علانية حتى وصلا.
وما كانت هذه القصة البسيطة البريئة في أصل حدوثها لتتحول عن حقيقتها على الألسنة لولا العداوة التي كان يكنّها “عبد الله بن أُبيّ” رأس النفاق للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ووقوع البعض تحت تأثيره عن غير وعي منهم وإن كانوا مؤمنين مثل “حسّان بن ثابت” و”مسطح بن أثاثة” و”حمنة بنت جحش” وغيرهم إذ بدأوا بإشاعة القصة بين الناس عن غير علم أو درايةٍ بخبث “رأس النفاق” ، وكان الأجدر بهم أن لا يتناقلوا هذا الإفك – البيّن الكذب، الواضح البهتان – فيما بينهم اعتمادًا على طهارة ونقاء أنفسهم هم أوّلًا وقبل أي شيء، فالمؤمن لا يظن بأخيه المؤمن إلّا ما يجده في نفسه من إيمان يعصمه من ارتكاب الفواحش. إنه ظن الخير بأخيه لا الشكّ فيه، وهذا ما حدث بالفعل عند صادقي الإيمان ممن لم يمسّ الشك نفوسهم، كالصّحابيّ أبي أيوب الأنصاري وزوجه رضي الله عنهما إذ لم يصدّقا القصة وقالا: “هذا إفك مبين”. قالا ذلك وهما على يقين من طهارة وعفّة أم المؤمنين كما هما متيقنين من طهارة أنفسهم.
لقد كان على المؤمنين أن لا يشيعوا الخبر ففي إشاعة مثل هذه الأخبار وتناقلها فيما بينهم – سواء تناولت عائشه أم أنها تناولت غيرها من النساء – إن هو إلّا إشاعة للفاحشة وقد حُرّم ذلك على المؤمنين، نفهم هذا من خلال قوله تعالى: “وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) سورة النور
لقد كان أساس قصة “الإفك” هذه مرور العفيفَيْن وحدهما معًا أمام رأس النفاق عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف لا ينتهز – الخبيث – هذه الفرصة، وكيف لا يقوم بمحاولته الدنيئة للتشهير ببيت النبوّة: زوج النبيّ وشخصه صلى الله عليه وسلم، لينال منه ومن شرفه وسمعته! وقد اتّسم موقف بيت النبوّة زوجا وزوجة بالحكمة والصبر إنتظارًا للقول الفصل من رب العالمين ببراءة “عائشة” في آيات بيّنات. تبدأ بقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ”. (11) وتُختم بقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
لم يتهجّم الحبيب محمد على “رأس النفاق” ولم يأمر بقتله أو نفيه، ولم ينتقم منه، ولم يتلفظ بأية ألفاظ نابية ردًّا عليه، بل انتظر حكم الله فيه صابرًا محتسبًا صلى الله عليه وسلم. وكل ما فعله أن استشار أقرب الناس إليه، “علي بن أبي طالب” و”أسامة بن زيد”، ثم قام واستعذر من “عبد الله بن سلول” قائلًا: “يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلّا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلّا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي”. وعندما وجد الرسول أن الأمر سيسبب فتنة بين المسلمين واقتتالًا فيما بينهم، هدأ صلى الله عليه وسلّم وهدّأهم.
كما أسلمت الصدّيقة عائشة – رضي الله عنها – أمرها لله كذلك وما قالت إلّا: “الله أعلم أني بريئة وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي .. “. إنه الإيمان بالله وإنها الثقة به وبعدله وحكمته تعالى، وإنّها الثقة بالنفس الطاهرة البريئة من الإثم الذي حاولوا إلصاقه بها.
ثمّ إنّ في هذه الآية التالية تحذير من الله عظيم لكل من تسوّل له نفسه التقوّل بالسوء والفحشاء على المحصنات الغافلات فكيف بأم المؤمنين! إذ يقول تعالى: “.. وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ”. وفي الحديث الشريف: “إن الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ يهوي بها في النار أبعد مّما بين السماء والأرض لا يلقي لها بالًا”.
سبحانك ربي ما أعظم تأديبك لعبادك المؤمنين إن أطاعوك فازوا في الدنيا والآخرة وإن عصوا باءوا بغضَبك وبالخزيّ والخسران المبين.
وأي خزي وخسران أشدّ مّما ينتظره مَنْ يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يتقول على هذا وعلى تلك دون رادع من ضمير. ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن قوله: “لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ; فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ” . رواه الترمذي.
إنه منهج الله الذي التزمه بيت النبوة. منهج من أدّى الأمانة ونصح الأمة، إنّها عفّة لسان من هو طيّب السيرة والسريرة. إنّه منهج من قال فيه ربه: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”. هو منهج من خاطبه سبحانه بقوله: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ”. بمعنى أنّك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه، منهج الله.
لنا فيك يا حبيب الله وحبيبنا أسوة حسنة، صلى الله عليك وعلى آل بيتك الأطهار الطيّيبين.
منهج الوقاية وآليّات التعفف في ديننا الحنيف ج – ١
إنه منهج ربانيّ، منهج من خَلَقَ ويعلم ما توسوس به النفس لصاحبها، منهج مُحْكَم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. منهج من وضع في خلقه غرائز تعين على البقاء – بل هي أهمّ أسباب البقاء – وهو أدرى بمدى قوّتها وسيطرتها النافذة على الإنسان روحيّا وجسديّا، تلك الغرائز التي لا قِبَلَ للإنسان بمقاومتها مهما امتلك من العزم والعقلانيّة والتحكم بالذات، فهي فوق كل هذا، لأنها ما وُجدت إلّا لتكون كذلك وإلّا لفَنِيَ الخلق وانتفت عمارة الأرض ولم تعد المخلوقات تَخْلِف بعضها بعضًا، لذا جاء النور من لدن النور ليضيء لنا ما خفي عنّا من أجل أن نلتزمه عاملين به، غير مفرّطين فيه.
وهذا الدين الحنيف ما جاء إلّا ليرتقي بالإنسان وينظّم دقائق حياته بمدَّه بكل ما يمكّنه من التصرف السليم بما وُهب من غرائز ونوازع تعينه على الحياة السويّة السليمة، إذ أنه يتضمن منظومة من القيم التي لن يتم تطبيقها إلا ضمن فعاليّات اجتماعيّة في مجتمع بشري فيه ما فيه من استقامة على الحق أو انحراف عنه فالإنسان ابن مجتمعه وابن عادات هذا المجتمع وتقاليده، لا ينسلخ عنه إلا أن يكون مبدعًا يأتي بالجديد الصالح الطيّب، أو مبتدِعًا يأتي بما يُهلك ويدمّر ويخرّب. هو إذًا ابن بيئته ككل، لا يعيش وحده وإن عاش تجربته الخاصة الفريدة بمفرده، بمعنى أنه يعيش بشريته ويعانيها، وهذه المعاناة تخصّه وحده وإن تشارك مع الآخرين في آنيّة الزمان والمكان، والسنن والقوانين والأحداث الواقعية – الموضوعيّة – وسبل التعامل والتعاون التي يشترك فيها الجميع ليس على مستوى المجتمع الواحد بل على مستوى العالم كله، أي على مستوى كينونة الإنسان.
وهذا الدين – الإسلامي – تَنزّل على شخص من البشر، في مجتمع بشريّ – هو المجتمع العربيّ الذي نُعت بالجاهليّة – المجتمع الذي ساد فيه الكثير من مكارم الأخلاق، كما كثُر فيه ما يقابلها من أمراض النفوس والعادات الذميمة، فكان لدى أفراده جوانب مضيئة في حياتهم وأخرى شديدة الظلمة، نذكر منها هنا ما يهم حديثنا هذا فقط إنه – الزنا – فقد انتشر فيهم الزنا الصريح عند رجالهم وفي إمائهم وبعض حرائرهم، كما ساد الزنا المقنّع في أسرهم. لذا فإن الانتقال من مجتمع هذه صفاته إلى مجتمع يوجب العفة والطهارة كان يستوجب أوامر ونواهي وحدود لمن لا ينتهي. فكانت البداية في البيعة ثم تطبيق الحدود، انتقالا تدريجيّا كي لا يُحدث صدمات تخلّ بتوازن هذا المجتمع في فترة التحوّل الجذريّة.
ولذا كانت البيعة، بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفراد مجتمعه من النساء والرجال كافة:
فعن عبادة بن الصامت أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال وحوله عصابة من أصحابه: “بَايِعُونِي عَلَى أَن لَا تُشرِكُوا بِاللَّهِ شَيئًا، وَلَا تَسرِقُوا، وَلَا تَزنُوا، وَلَا تَقتُلُوا أَولَادَكُم، وَلَا تَأتُوا بِبُهتَانٍ, تَفتَرُونَهُ بَينَ أَيدِيكُم وَأَرجُلِكُم، وَلَا تَعصُوا فِي مَعرُوفٍ,، فَمَن وَفَى مِنكُم فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيئًا فَعُوقِبَ فِي الدٌّنيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَن أَصَابَ مِن ذَلِكَ شَيئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِن شَاءَ عَفَا عَنهُ، وَإِن شَاءَ عَاقَبَهُ ” فَبَايَعنَاهُ عَلَى ذَلِك.
هكذا تسمى البيعة المذكورة في هذا الحديث، ليس ذلك لأنها مختصة بالنساء وحدهن، إنما لأنها ذكرت في الآية الكريمة، التي جاءت في عرض موضوع المهاجرات من النساء من مكة إلى المدينة: يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِذَا جَاءكَ المُؤمِنَاتُ يُبَايِعنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشرِكن بِاللَّهِ شَيئًا وَلَا يَسرِقنَ وَلَا يَزنِينَ وَلَا يَقتُلنَ أَولَادَهُنَّ وَلَا يَأتِين بِبُهتَانٍ, يَفتَرِينَهُ بَينَ أَيدِيهِنَّ وَأَرجُلِهِنَّ وَلَا يَعصِينَك فِي مَعرُوفٍ, فَبَايِعهُنَّ وَاستَغفِر لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{12} سورة الممتحنة.
لقد جاء هذا الدين لينظّم المجتمع ككل، وليطبّق شرائعه في واقع الناس فكان لابد من حادثة، من مناسبة تكون هي السبيل إلى تنفيذ التشريع من أوامر ونواهي وعقوبات، فكانت هذه المناسبة قدَر عائشة.. فهلك فيها من هلك، ونجا من نجا. وكان أكثرهم هلاكّا “رأس النفاق” ذلك الذي كان يمتلك مجموعة من الإماء يقوم بإجبارهنّ على البغاء للتكسّب من عملهن. فكيف وهذه حاله والنفاق قد استولى على نفسه والغل والحقد قد استحكم فيها، كيف لا يختلق هذا البهتان، وكيف لا يحاول توظيف ما رآه من مشهد “عائشة” وهي على الجمل الذي يقوده “صفوان” وهما يدخلان المدينة في عز الظهيرة، كيف لا يحاول ذلك من أجل تحقيق مآرب في نفسه شديدة الفساد! لكن هذا “الإفك” الذي اختلقه ما زاده إلّا إذلالا وتحقيرّا، وباء بغضب من الله شديد، وزاد العفيفة الطاهرة رفعة مقام إذ برأها الله بآيات تتلى إلى ما شاء سبحانه، مّما جعل التعرض لعرضها وشرفها كفر، إذ أن من يتّهمها ويقرّ “الإفك” – الذي تولّى “رأس النفاق” كِبَره – يكفر بتلك الآيات التي برأها الله فيها.
نعم كان لا بد من نقطة تبدأ عندها عملية علاج الآفة، بل العمل على اقتلاعها من هذا المجتمع الذي تحوّل من الجاهلية إلى الإسلام، وكي يكون العدل بتمامه وكماله قائما بينهم كان لابد من أوامر ونواهي حاسمة ذات فعالية مقابل تلك العقوبات الشديدة والتي تشّهر بمرتكب الفاحشة كما تشهّر بمن يتّهم الآخرين بإتيانها دون دليل صريح مؤكّد فجاء المنهج الرباني الذي يأمر كل فرد في المجتمع الإسلامي بغض البصر إذا ما بلغ الحلم.
منهج الوقاية وآليّات التعفف في ديننا الحنيف ج – ٢
أهمّ معالم هذا المنهج “غض البصر”
قال تعالى: “قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ..”.
وغض البصر له آليّات تنفيذ وشُروط واجبة التحقق منها:
أوّلًا: – الأمر بغض البصر أمرًا مباشرًا لكل من المرأة والرجل إذا ما بلغ كل منهما الحلم. ولا أقول هنا “الأنثى” ولا أقول “الذكر” لأن هذه الألفاظ يشترك فيها الحيوان الأعجم مع الإنسان الذي منحه الله العقل وخلق له من الأجهزة في جسده ما يستعين به على البيان، أو بالأحرى ما يستعين به على تعلّم النطق ليبين عمّا في نفسه.
هذا الكائن العاقل سواء كان رجلًا أو امرأة مأمور بغض البصر. وقد يستغرب البعض لما خُصّت هذه الحاسة بهذا الأمر من رب العالمين. وما ذلك إلّا لأنّ البصر أو الرؤية بالعين منفذ من وإلى باطن الإنسان، إلى أعماق نفسه كما التعبير بالكلام، فهو – أي النظر – نافذة إلى خفايا ذاته ومستودع أسراره التي إن تكتّم عليها لم يعلمها إلا الله وحده إن كان هذا الإنسان حاذقًا في التمويه أوالتمثيل أو أنه كان قادرًا على ضبط نفسه. وهذا يعني أنّ في النفس ما يمكن أن يبدو للمبصر جليّا واضحًا رغمًا عن الذات، وفيها ما لن يظهر إلا قصدًا، وفيها ما يكون في حكم الغيب.
وما سمّي التعبير تعبيرا إلّا لأن من يتفوّه بالعبارات إنّما هو يُقدّم هذه الذات واضحة جليّة أمام الآخرين إن أراد، أي يَعْبُر بهم إلى نفسه، وهو يطّلع على أسرار أنفسهم بالآليّة ذاتها إن قرأ أو سمع عباراتهم. ولهذا كان الكلام بيانًا وكان الإنسان مبينا. وكان بحكم من نظر فرأى، فإنها الرؤية بالعين كما العبور من وإلى الأنفس إذ تكشف عمّا في دخيلة الإنسان.
فالبصر إذًا سبيل من سُبُل معرفة الكثير من أسرار الأنفس، وقد يكون عند البعض كالمجهر الذي ينظر من خلاله إلى أعماق من يحدّق فيهم أثناء حديثه إليهم أوتعامله معهم. ولذا أصبح النظر سفير الأنفس والواسطة بينها يحمل الرسائل منها وإليها.
هذه الرسائل تخترق كل الحجب إلى حيث تكمن النوازع والمشاعر فتحرّكها فتنْشط الغرائز وإن كانت فاترة، فكيف إن كانت مشتعلة في الأنفس الفتيّة. ولذا كان الأمر بغض البصر والنهي عن التحديق أو إطالة النظر الذي يفعل فعله في الذات كما تفعل جذوة النار إن أُلقيت في كومة قش جافة كثيفة، يزيد اشتعالها كلما ازداد التحديق وتعمّق النظر، فكأنما هي الهواء الذي يمدّها بالأكسجين، فتحترق الدماء في الأوردة حقيقة لا مجازًا.
كل ما سبق كان عن غض البصر، بمعنى عدم تحديق الرجل أو المرأة النظر في عينيّ بعضهما البعض لأن هذا التحديق يوقظ إحساسها بأنوثتها كما يوقظ إحساسه بذكورته فتنتفي بينهما المسافات وتزول الحواجز وتستيقظ الشهوات، إلّا من رحم الله فاسترجع وذَكَرُه سبحانه.
ومن آليّات غض البصر ثانيًا: “الاستئذان” من الآخرين في الدخول عليهم في المساحات المخصصة لهم، أيّا ما سُمّيت هذه المساحات، بيوتًا، حدائقًا، مكاتبًا، والآن مساحات على الإنترنت، مثل الماسنجر والواتساب وغيرها من وسائل التواصل الإجتماعي.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
ومن آليّات غض البصر ثالثًا: عدم تتبع عورات الناس وقد سبق لنا أن أوردنا حديث الرسول في هذا الشأن. ونزيد هنا الآية الكريمة:” الآية: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]؟
ذلك بمعنى، لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم ،فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله، فلا تَرْمِ أحدا بما ليس لك به علم. ذلك لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادّعاء سماع ما لم يسمعه، ورؤية ما لم يره. وهذا بمعنى البهت. مّما يؤدي إلى أن ترمي الناس بالباطل وتشهد عليهم بغير الحق.
ومن آليّات غض البصر وما يعين عليه رابعَا: إشباع الغريزة الجنسيّة بالطرق المشروعة أو التعفف. فهذا يوصل إلى ذلك فتتحقق النتيجة المرجوّة. فإن كان غض البصر يؤدي إلى العفة فإن طلب العفة بوسائلها المشروعة يطفئ نيران الرغبة المضطرمة فلا تعود النفس راغبة في اللهاث وراء ما يُظنّ أنه يشبع هذه الرغبة أو يخفف سعيرها.
قال تعالى: “وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..”. ووسائل التعفف غير الزواج كثيرة ومنها الصيام والرياضة وإيجاد نشاطات توجّه الطاقة إلى ما ينبغي أن تتوجه إليه، وإن كان الزواج أولى أن يُعان عليه.
وما كان كل هذا إلّا من أجل أن تجتمع في ذات المؤمن طهارة الباطن مع طهارة الظاهر، والنفس مع الجسد.
آيات النور في القرآن الكريم
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) سورة النور
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٢٥٧﴾ سورة البقرة
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴿١٥﴾ سورة المائدة
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16) سورة المائدة
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴿٤٤﴾ سورة المائدة
وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٤٦﴾ سورة المائدة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿١﴾ سورة الأنعام
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٥٧﴾ سورة الأعراف
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿٣٢﴾ سورة التوبة
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿١٦﴾ سورة الرعد
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿٢٢﴾ سورة الزمر
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿٦٩﴾ سورة الزمر
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٢٢﴾ سورة الأنعام
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٥﴾ سورة يونس
وْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴿٤٠﴾ سورة النور
وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿٥٢﴾ سورة الشورى
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٢﴾
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿١٣﴾ سورة الحديد
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴿٢٠﴾ سورة لقمان
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴿٤٦﴾ سورة الأحزاب
فالنتدبّر هذه الآيات الكريمة
تدبّر الآيات التي وردت لفظة “النور” فيها – ١ –
عندما قمت بتدبّر الآيات التي وردت مفردة “النور” فيها في القرآن الكريم – حتى تلك الآيات الكونيّة – وجدت أنها جميعها تتحدث عن النور وما يقابله من ظلمة. الهدى وما يقابله من الضلال. الإيمان وما يقابله من الكفر والشرك. السمع والبصر وما يقابلهما من صمم وعمى، العلم وما يقابله من جهل. الضياء والنور وما يقابلهما من ظلام. العدل وما يقابله من ظلم.
وقد كان منهجي في تدبّر تلك الآيات أن قرأت السورة كاملة، تلك التي وردت في آية من آياتها لفظة “النور” موضع التدبّر. قرأتُ السورة كاملة من أجل أن أستوعب معنى هذه اللفظة من خلال سياق السورة ككل، وقد دُهشت إذ تبيّن لي بالدليل الواضح والصريح أن هذه اللفظة – النور – تعني الهدى، هدى الله لخلقه أجمعين، كل خلق الله.
والهدى هنا يتمثّل في عدة معانٍ: فالهدى أو النور بالنسبة إلى المخلوقات العاقلة التي منحها الله القدرة على التصرف والاختيار – الحريّة – يختلف عن الهدى أو النور بالنسبة إلى الجمادات أو المخلوقات التي لا خيار لها.
ولنبدأ بمفهوم النور وهي منسوبة إلى أعظم ما وُصفت به في الكون المرئي من قِبَلِنا نحن البشر. تلك الأشياء الماديّة التي لا وعي ذاتي لها لتتصرّف بذاتها أو بالأشياء من حولها. فمثلا الآية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) سورة الأنعام
عندما نقرأ هذه السورة يتبّن لنا أنها جاءت لتوضّح مدى جهل أولئك الذين يكفرون بالله، أو يشركون به، يعدلون بينه وبين ما يعبدون من دونه رغم ما في هذا الكون من دلالات وآيات بيّنات على وحدانيّته تعالى، ورغم ما جاءهم أو ما سمعوا به ورأوا من دلالات في الأرض تدلّ على هلاك غيرهم ممن كفروا بالله وبرسلِه، ومدى تعنّتهم في ذلك.
وكما في الآيات:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) سورة يونس
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) سورة نوح
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا (61) سورة الفرقان
ثم قال تعالى عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46) سورة الأحزاب
الآيات السابقة أتت جميعها ضمن سور من القرآن تدعو إلى الدين القويم، الذي يحمل كتابه الهدى. بمعنى أنّ القران يتضمّن الهدى الذي يهدي للإيمان بالله وتوحيده ويتضمّن أدلة كونيّة على عظمة الخالق ووحدانيّته. ومن تلك الأدلة أو الآيات الدالة على ذلك خلقه سبحانه للشمس والقمر الظاهرين للعيان واللّذين ينتفع بنورِهما الإنسان كما ينتفع بهما في حسابات تقويم الزمن.
ومقابل هذا نلاحظ أنّ الله سبحانه قد وصف رسوله إلى البشريّة بالأوصاف ذاتها التي وصف بها الشمس والقمر معًا، فهو – صلى الله عليه وسلم – سراجًا كما الشمس، ومنيرًا كما القمر. يحمل في ذاته النور الذي خُلق به أصالةً كما يحمل النور الذي تنزّل عليه وحيّا.
فتلك الآيات الكونيّة التي تتحدّث عن الشمس والقمر هي مصادر النور الماديّة التي خلقها سبحانه لينتفع الخلق بها ليست بأعظم من محمد والقرآن الذي تنزّلت عليه آياته. فلماذا وصف الله تعالى الشمس والقمر بهذه الصفات، ولِمَا جمع لمحمد النبيّ – صلى الله عليه وسلم – الصفتين معا، وما هي أوجه الشبه ؟
نعود مرة أخرى إلى قوله تعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) سورة الأنعام
هذا الحمد وَجَبَ على الناس بمعنيين، بمعنى شكره تعالى على نعمة “البصر والتبصّر” وهو هنا بمعنى النور الذي نرى به ونعقل، وعلى نعمة الهداية، وهي هنا بمعنى الإيمان بما جاءت به الأنبياء والرسل.
إنهما نعمة “الهدى” بالبصر والبصيرة معًا من خلال “النظر” نافذة الإنسان على العالم من حوله – الرؤيا – والتبصّر أي التعقل ليكون الإدراك وسائر مراحله وصولًا إلى “الحكمة” حيث يعترف العاقل البصير بهذه الوحدانيّة لله، عندها يمكن له أن يتقبّل “الهدى” الذي يتنزّل على الأنبياء، فتكتمل تلك الحكمة بالعمل بما يمليه عليه هذا التنزيل، أي يجمع بين النورين، الحِسّي والمعنوي، وحيازة هاتين النعمتين تستوجب شكر الله لأنهما يفضيان إلى النور كلّه، فتتحقق في شخص كل إنسان آية النور.
فمن يتدبّر فيما يرى من المخلوقات يدرك أن الخالق واحد لا شريك له، فكيف يحدث أن يساوي من يساوي بين الخالق وأيٍ من مخلوقاته؟!
حقيقة أن هذا لا يحدث إلا لسببين، إمّا بسبب الهوى وإمّا بسبب اختلاط الأمور في حال عدم التبصّر وفق منهجيّة سليمة.
لذا يحقّ لنا أن نتساءل: كيف يتأتى للإنسان أن يحصل على هذا النور الذي يؤدي به إلى الهدى دون أن يقع في الخلط الذي يؤدي به إلى أن يعدل بين الخالق ومخلوقٍ من مخلوقاته سواء كان هذا المخلوق ماديّا أو كان معنويًا، أو بمعنى آخر كيف للإنسان أن يصل إلى حالة الحمد التي بدأت بها أولى آيات سورة الأنعام؟
يقول تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174) سورة النساء
:”إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ .. “(44)، “وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ”(46)، “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ” (15) الآيات من سورة المائدة
“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” (5) سورة إبراهيم
“وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) سورة فاطر
“وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (52) سورة الشورى
“أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (22) سورة الزمر
الآيات السابقة جميعها تؤكد أنّ ما جاء به الأنبياء والرسل هو النور الذي تنزّل على الناس ليهتدوا به، فإن كان النور الحِسّي يؤدي إلى عمليّة الرؤية – البصر- ومن ثمَّ التبصّر فإن النور المعنوي الذي تنزّل على الأنبياء والرسل يؤدي إلى الإيمان بوحدانيّة الله، فيلتقي عندها نور البصيرة بنور تلك الرسالات فيكون التصديق. فمن يتفكّر في الآيات الكونيّة يصل إلى أن خالق هذا الكون المرئي والمشاهَد واحد. ومن يتفكّر في أدلّة كل رسالة على حدة في وقتها تفكّرا موضوعيّا محايدًا – دون أن ينازع عقله الهوى – يصدّق ذلك النبي. ذلك أن هذه الرسالات تتضمّن نصوصها دلائل وبراهين صدقها الحسيّة، فالتصديق أو التكذيب لا يكون دون تبصّر وتفكر وتعقل، يبدأ بالرؤية فالإدراك فالوصول إلى الإقتناع ومن ثمَّ تصديق ذلك الرسول أو النبيّ.
ذلك أنّ التبصّر يبدأ فعليّا بالبصر – النظر – المؤدي إلى التعقل من خلال الأدلّة الواردة في كل رسالة من الرسالات السماويّة، كما في أدلة صدق موسى عليه السلام من تحوّل العصا إلى ثعبان وانشقاق البحر، وأدلة صدق عيسى – عليه السلام – بدءا من آية خلقه عبورا بكلامه في المهد إلى إبراء الأعمى والأبرص وإحياء الموتى.. الخ، حتى مجيء محمد – صلى الله عليه وسلم ودليل صدقه القرآن الكريم ذاته.
جميع الأدلّة السابقة وإن كانت موجّهة إلى العقل إلّا أنها تبدأ بحاسة البصر حتى القرآن الكريم الذي يتضمّن في نصوصه أدلة صدقه التي يمكن للعقل أن يتدبّرها.
فما هو الرابط الذي يصل بين النور الحسي الذي تدركه حاسة البصر والنور المنزّل من خلال هذه الرسالات الإلهيّة، ما هي العلاقة بين نور البصر ونور البصيرة والإيمان، وكيف يتأتى للإنسان أن يجمع نور الهدى إلى نور التبصّر – التعقّل – بين النور الإلهي ونور العقل البشري؟
معارج النور
يقول تعالى: “وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) سورة فاطر
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ۚ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ (58) سورة غافر
لماذا وصف الله سبحانه من يكفر بالله ولا يؤمن بوحدانيّته تعالى بالأعمى الذي امتنعت عليه الرؤية فامتنع إدراكه لما يمكن أن يراه المبصر رغم وجود النور أمام كليهما. وما علاقة هذا بالعمل الصالح أو بعمل السيئات؟
السبب أن من يقتنع بصدق الدليل ويؤمن بصدق الرسول لن يكتمل إيمانه دون تنفيذ ما جاء في رسالة هذا الرسول من أوامر ونواهي وتشريعات وتطبيقها تطبيقا عمليا.
قال تعالى: “هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (9) الحديد
يايَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174) سورة النساء
من هنا يمكننا أن ندرك الصلة القائمة بين البصر – إدراك الموجودات – من خلال عمليّة الرؤية بالعين وتفسير الدماغ لما يراه الرائي – أي إدراكه له – هذه العمليّة التي لن تتم إلا بوجود النور الحّسّي ووجود العين وشبكة الأعصاب الموصولة بالدماغ. أي أن من ينظر فيرى يمكنه أن يستدلّ على أن هذا الذي يراه شجرة – مثلا – أو جبل أو بحر.. إلخ، ومن ثمّ يمكنه أن يستدلّ ممّا يرى كثيرا من النتائج.
هذه العمليّة بكل مراحلها وتفصيلاتها هي ما نطلق عليه لفظ “التعقّل”. ومن تأكد له بالدليل القاطع صدق الرسول وصدق رسالته – كما سبق أن وضحّنا – ولم يتّبع تعليماته ولم ينفّذها كما وردت فهو إذا بحكم الأعمى الذي لم يدرك ما نظر إليه لعدم قدرة عينه على الإحساس بالنور ومن ثمّ الإدراك من خلال هذه الحاسة. فالعمى إمّا أن يكون بسبب خلل في جهاز الرؤية وإمّا بسبب خلل في عملية الإدرك، أي في القدرة على تفسير ما يراه ، ولهذا كان لفظ “الأعمى” مناظرا للظلمات وسوء العمل، ولفظ “البصير” مناظرا للنور وعمل الصالحات.
وهذا يبين لنا مدى ارتباط هذه الحاسة بالإدراك والوعي وإن لم تكن هي الحاسة الوحيدة. فكثيرا ممن فقدوا حاسة البصر ذوي بصائر سليمة ومن الصالحين.
وهكذا يأتي ترتيب التصديق بالرسلات السماوية بداية من خلال الأدلة الحسية التي نتلمّسها لنرتقي إلى الادلة العقلية فنشهد شهادة استدلال على وحدانية الله، كما نستدل أيضًا على صدق أنبيائه ورسله من خلال الآيات البيّنات التي زوّدهم بها كما عصا موسى وكما القرآن الكريم، عندها يتوجّب علينا أن نتّبع ما ورد فيها من تعليمات وشرائع وأحكام . فإن فعلنا ذلك اكتملت لنا بنود الشهادة، شهادة أن لا إله آلا الله. واكتمل لنا النور وتحققت الآية .. آية النور فينا نحن البشر!
كما يتحقق فينا قوله تعالى: “يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”(12) سورة الحديد
وقوله سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (8) سورة التحريم
تدبّر آية النور ذاتها:
“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) سورة النور
عندما ننظر إلى هذه الآية من خلال ترتيبها في سورة النور نجد أنها جاءت في قلب السورة إذ توسّطت الآيات التي تضمّنت حدودًا وأحكامًا ومواعظ، وأوامر ونواهي، وهذه جميعها معايير وقيم. وهي جميعها واجبة التنفيذ، فقبلها مباشرة جاءت الآية:
“وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ”.
بمعنى، آيات مُبيِّنات للأحكام موضحة لما يُطلب منكم فعله أو تركه، ونتائج كل ذلك في حياة الأمم التي سبقتكم أفرادًا وجماعات.
واختتمت بقوله تعالى: “يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.
وبعدها جاءت الآيات:
“فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
ثمّ الآيات التي تتحدّث عن الظلمات، الظلمات التي نتجت عن عدم تفعيل تلك القيم والمعايير.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40). فهذه المعايير والقيم والأوامر والنواهي، والأحكام والحدود هي النور الذي يكشف لنا أي السبل يتوجّب علينا المضيّ فيها حتى نصل إلى مجتمع بل إلى حياة يعمّها الضياء والنور الذي ارتضاه الله لنا. وبعكس ذلك تحِلُّ الظلمات إذ يُفتقد النور.
بعد ذلك جاءت الآيات التي تقدّم دلالات على قدرة الله سبحانه، لتؤكّد لنا أنّ هذه الآيات منزّلة من لدن حكيم خبير وهو أعلم بما يُصلح الحياة ويزيدها ثراءً ويضبط إيقاعها، ثمّ الآية: “لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) فهي ذاتها دلالات ومعالم تبين لنا السبل التي علينا الإلتزام بها كما وردت في كتاب الله، ثم تأتي الآيات:
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52).. إلى بقيّة السورة من أوامر ونواهي.
لنقم الآن بكتابة الآية كما يلي:
“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ
نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”.
نلاحظ أن آية النور جاءت في أولى عباراتها لتقرر أنّ: “الله نور السماوات والأرض”، بمعنى نور السماوات والأرض كلها. أي من جميع الجهات والجوانب، الباطن والظاهر، نور الكون كله ممّا نرى وممّا لا نرى، ممّا قد ندرك وممّا لا يمكننا إدراكه، ممّا نعلم ومما هو في علم الغيب.
“مثل نوره كمشكاة فيها مصباح “، ” المصباح في زجاجة”، ” الزجاجة كأنها كوكب دري.. ”
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: تُرى هل هذا التشبيه الوارد هنا بعد تقرير تلك الحقيقة – من أن الله نور السماوات والأرض – هو لنور الله العام الشامل التام الكامل الذي لا تَحدّه حدود أم هو مَثَلٌ يضربه الله لنورٍ من لدنه تعالى خصّ به كائن من مخلوقاته، فمن هو هذا الكائن؟
من المنطقي أن يكون الإنسان هو الكائن المقصود في هذه الآية بعد تقرير حقيقة أن الله سبحانه “نور السماوات والأرض”. وأن الإنسان هو الذي خصّه سبحانه بنور شبّهه الله بالمشكاة، فهذا القرآن الذي وردت فيه هذه الآية إنّما تنزّل على إنسان من الناس كي يدعوهم إلى اتباع ما جاء فيه من أوامر ونواهي. يقول تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128) سورة التوبة
فهو رسول من ذات جنس البشر، إنسان.
فما هي المِشكاة إذًا، وما هو المصباح، وما هي الزجاجة، وما هي الزيتونة، وما هو الوقود ومن أين يُستمدّ؟
أقول وبعد هذا التدبّر والتأمل في هذه الآية وفي جميع الآيات التي سبقتها والتي تلتها، وفي موقعها من السورة والتي جاءت في القلب منها – وأرجو أن أكون قد أصبت وصح ما توصّلت إليه – أنّ المثل الذي ضربه الله هنا “كمشكاة” هي جسم الإنسان، أَيُّ إنسان، والمصباح هو النفس، نفس الإنسان التي يحيا بها وإن توفّيَ غادرت البدن فتحوّل هذا البدن من جسم إلى جسد لا حياة فيه، إذا فالنفس هي المصباح الذي يتوقّد بما يمده به الجسم من وقود قُدّر له. ومن خلال ذلك الوقود تستمر شعلة الحياة وما تُنتج من نور. هذا المصباح – النفس – يحتاج إلى أجهزة ماديّة ليصدر عنه النور، وهذه الأجهزة هي كل ما يؤدي إلى تعقّل الإنسان ووعيه لما يدور حوله وما يحدث في ذاته من أحاسيس ومشاعر وما يتولّد من أفكار. فالنور هنا بمعنى الإدراك والوعي والفهم والقدرة على الاستدلال والاستنتاج وكافة العمليّات التي نطلق عليها التدبّر أو النظر أو التبصّر أو التفكّر.. الخ، أو بمعنى أعمّ وأشمل “التعقّل”.
إذًا كل ما يتضمّنه الجسم البشري من أجهزة هي أدوات لهذه النفس – المصباح – كي تقوم بوظيفتها كاملة تامة وأهمها الدماغ وشبكة الأعصاب والقلب الذي يمدّ الجسم كله بالوقود اللازم لكافة العمليّات الحيويّة.
إنّ كلّ ما خُلق لهذا الإنسان من أجهزة يتمّ فيها تحويل الطاقة إلى نور، أي إلى تعقّل ووعي، هو ما ينتج عن هذه العمليّات الفكريّة التي تنتج عن جهاز الإنسان المعرفي الذي يعقل به ويعي. أي “الدماغ والأعصاب والحواس وما تحتويه الخلايا من شيفرات”. ولذا أطلق القرآن الكريم عليها عدة ألفاظ منها: “القلب واللّب، والحجر، والنُّهى، والفؤاد”، وجعل سبحانه لفظة “يعقلون” شاملة جميع ما سبق من عمليّات. أمّا الأسماء التي تم ذكرها فلكل مسمّى منها معنى في كتاب الله – القرآن – فالقلب – مثلا – هو الذي يتصدّر جسم الإنسان وهو الجزء الذي يمدّ الدماغ بالوقود، وهو أكثر أجزاء الجسم حساسيّة لجهاز الإنسان المعرفي ولكل ما يحدث فيه وله، من أحاسيس ومشاعر. والقلب أكثر أجزاء الجسم قدرة على شحن الجسم بالطاقة الحيويّة، أي أنّه أكثر الأجزاء تأثيرًا وتأثرًا وتفاعلا، إن توقّف توقّف بعده كل ما في الإنسان من أجهزة، وإن تعب، تعب الجسم كلّه. وإن أصابه الخلل ضعفت العمليّات الحيويّة كلها. كما أنّ ارتباط أعضاء الجسم به يماثل ارتباطها بالدماغ وربما أشدّ. واللّب خالص الشيء وخياره، والنُّهى صاحب الأمر والنهي. فجميع الأسماء التي وردت إنما جاءت لتبيّن وظائف هذا المصباح – النفس – من حيث القدرة على التعقل والوعي والإمساك بزمام الذات أمرًا لها لفعل ما سويًّا أونهيها عن فعل غير سوي.
ولكن هذا المصباح – النفس- يحتاج إلى زجاجة تحفظ نوره من التشتت، وتزيد هذا الضياء قوة. هذه الزجاجة هي المعايير والقيم التي يمكن للعقلاء الوصول إليها من خلال خبراتهم الحياتيّة، لكنها في هذه الحالة لن تكون كاملة تامة دقيقة تهدي إلى صراط مستقيم، ولذا تنزّلت على الأنبياء والرسل وحيًا، فهي النور المعنوي التام والكامل الذي وصلنا من الله، عبر رسالاته السماوية، وآخرها الرسالة التي تنزّلت على “محمد” صلى الله عليه وسلم.
وكلا النورين هبة من الله، الأول يكون نور ربانيّ لكن سبل تحصيله ماديّ خلقت أدواته فينا، والنور الآخر هو نور الهداية عبر الدين. ودين الله منذ آدم هو “الإسلام” ولا دين سواه وإن اختلفت الدعوات والشرائع.
فالمِصباح هو الشعلة، شعلة الحياة التي وهبها الله للإنسان. وهي النفس المتوقّدة، التي تستمدّ وقودها من الحي القيوم واهب الحياة لمخلوقاته، والشجرة المباركة هي حيوية الحياة، التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، بقدرة خالقها.
فالإنسان خُلق وهو مزوّد بهذا المصباح، قادر على التفكّر والتعقّل وتدبر معاشه في دنياه. يمكنه أن يصل ببصيرة ذاتيّة – من هبة الله له – في هذه الدنيا – أي أجهزته التي تعينه على التفكّر أن يصل إلى الحكمة، والحكمة هنا بمعنى الصواب والعمل به بجهد ذاتي. لكن تمام هذا لا يكون إلا من خلال المعايير التي تنزّلت وحيًا على الأنبياء والرسل – الزجاجة – التي تزيد قوة الإضاءة وتحفظه من أن ينطفأ أو يتشتت، وبهذا نفهم معنى قوله تعالى: “نور على نور..”. نور خُلقَ في الكائن البشري، ونور تنزّل عبر الرسالات.
وبهذا نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم إذ صح عنه أنه قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فالأخلاق كانت ولازالت موجودة منذ خُلق آدم لكن تمامها كان من خلال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يمكننا فهم قوله تعالى عن “محمد” صلى الله عليه وسلّم بأنّه: سراجا منيرا. فهو سراج بذاته لأنه إنسان اكتملت فيه إنسانيّته كونه يحمل في ذاته هذا المصباح الكامل التام الذي خلقه الله سبحانه فيه وأكمل له هذا النور إذ يقول تعالى في كتابه واصفا رسوله محمد: “وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) سورة القلم. وعندما سُئِلَتْ عائِشةُ – رضي الله عنها – عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَتْ: كان خُلُقُه القُرآنَ.
ومنيرا لأنه يحمل رسالة ربه إلى البشرية بكل ما فيها من معايير وقيم وإرشادات وتشريعات وأحكام وحدود.. الخ.
وبذا نكون قد أجبنا عن أول سؤال طرحناه في بداية هذا التأمل في هذه الآية والذي يخص المصباح الذي يستشعر كل إنسان وجوده في ذاته.
وبهذا يمكن للإنسان أن يجمع بين النور الذي خُلق له، والنور الذي تنزّل على الأنبياء والرسل ليتحقق فيه قوله تعالى نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.
والمشيئة هنا هي لله سبحانه بقدرته تعالى ورضاه وعطائه، وللإنسان باجتهاده في الطلب حتى الوصول إلى هذا النور، والأخذ به والعمل بمقتضاه.
أمّا الحمد الذي يتوجّب علينا لله فيكون من خلال التزامنا بما فرضه الله علينا لتظهر هذه النعم في حياتنا فننعم برضا الله وإحسانه.
و”الـحَمْدُ للـهِ الَّذِي بِنِعْمَتهِ تَتِمُّ الصَّالِـحَاتُ”.
Post A Comment: