حينما هزم الفرس جزيرة مالطا وهي مستعمرة إغريقية جنوب إيطاليا ، في نهاية القرن السادس قبل الميلاد طور فيلسوف اسمه برمنديوس توجها جذريا متشككا، حيث تساءل: كيف لنا أن نعرف أن الأسلوب الذي نحلل به الكون له أية علاقة بالحقيقة ذاتها؟!

أكانت القوانين والظواهر التي نعتقد أنها تفسر فقط أوجه العالم القليلة التي باستطاعتنا رؤيتها؟

وأصبح برمنديوس مقتنعا بأنه على العقل البشري لكي يصل إلى الحقيقة الارتقاء فوق الحكمة التقليدية والآراء غير الثابتة .

كما رأى أن فكرة التغير مجرد عرف، فالحقيقة تتكون من كينونة موحدة مفردة وأزلية وربما يظهر لنا أن المخلوقات تأتي إلى الحياة وتموت لكن الحقيقة الصادقة لا تتأثر بالزمن . وفي العام (570 -500)ق.م أخذ العالم فيثاغورث العلم في اتجاه مختلف، وكان قد ولد وتعلم في جزيرة ساموس على ساحل بحر إيجيه (البحر الأبيض المتوسط) حيث أشتهر بزهده وبصيرته الروحانية درس في بلاد الرافدين ومصر قبل أن ينتقل إلى إيطاليا وأسس جماعة دينية مكرسة لعبادة أبوللو وربات الفنون آلهة الجبال .

ولم تكن دراسة الرياضيات والفلك والهندسة والموسيقى وسائل لتفحص العالم الفيزيقي بل كانت أيضا تدريبات روحانية .

وباستثناء نظريته عن المثلث قائم الزاوية فلا نعرف الكثير عن  شخصية فيثاغورث نفسه .

وفي أثناء عشرينيات القرن الرابع قبل الميلاد  بدأ فيلسوف جديد يجذب دائرة من المريدين المكرسين في أثينا .

كان سقراط (469-399 ق.م) ابنًا لقاطع حجارة، وكان ذا هيئة غير جذابة كما كان له  تأثير كبير على مجموعة شبان من  نبلاء أسر المدينة، وكان بإمكانه التحدث لأي شخص بطلاقة، غنيًا كان أم فقيرًا. .

وفي الحقيقة،فقد كان بحاجة إلى تلك  المحادثات كي ينجز مهمته .

وكان سقراط عازما على تقويض الأفكار  التي صدقها الناس بالبديهة،  كما كان عازماُ على تفحص المعنى الحقيقي للفضيلة لكنه كان يطرح الأسئلة الصائبة في الزمان الخطأ  حيث كان الناس في ذلك الزمن بحاجة إلى اليقين لا إلى النقد اللاذع.

وفي عام 399 ق.م حكم على سقراط بالموت بتهمة إفساد الصبية ورفضه الاعتراف بآلهة الدولة .

ولم يوثق سقراط أيًا من تعاليمه كتابة ولهذا كان علينا الاعتماد على الحوارات التي ألفها تلميذه أفلاطون (427-347ق.م)، هذا  لأن سقراط كان  يرى أن من يقرءون كثيرا يظنون أنهم يعرفون كل شيء ولكنهم في الحقيقة لا يعرفون  شيئاَ  لأنهم لم  يتثبتوا منه ويعرفوه عن ظهر قلب.  واعتقد أن الألفاظ المكتوبة تماثل الأشكال المرسومة والتي تبدو حية ولكن إذا وجهت أسئلة ظلت صامتة ، فبدون  تبادل الأحاديث الذي يتسبب فيه اللقاء البشري تظل المعرفة التي سينقلها النص المكتوب جامدة خاملة .

أما بالنسبة لأتباعه فقد غدا سقراط تجسيدا لحالة الجمال القدسي اللا متناهي ، ورمزا للحكمة التي كانت حياته كلها  تتجه نحوها .

ومنذ  ذلك الحين، ظلت جميع مدارس الفلسفة الإغريقية تجل وتقدر حكيمها المؤسس بصفته تجسيدا مقدسا لفكرة متسامية طبيعية للبشرية  ولكن الوصول إليها يكاد يكون من المستحيل بمكان.

وكان الإغريق دائما يرون الآلهة بصفتها حلولا للمقدس يكمن في هيئة بشرية .

وترك إعدام سقراط أثرا لا يمحى  في نفس أفلاطون الذي أحبط لدرجة جعلته ينبذ حلمه في منصب سياسي لنفسه وسافر إلى شرق المتوسط حيث تعرف على الروحانية الفيثاغورية لدى عودته إلى أثينا وأنشأ مدرسة للفلسفة والرياضيات في بستان على مشارف أثينا أطلق عليه اسم بطله أكاديمس وصارت تعرف بالأكاديمية. ولم تكن الأكاديمية تمثل قسما للفلسفة في الجامعات الغربية الحديثة، بل كانت جمعية دينية، وكان الجميع يحضرون التضحية اليومية للآلهة التي كان يؤديها أحد الطلبة الذين لم يأتوا فقط ليستمعوا إلى أفكار أفلاطون بل أيضا ليتعلموا كيف يسيرون حياتهم .

كان أفلاطون ينظر إلى الفلسفة على أنها  تدريب من أجل الموت وزعم أن تلك أيضا كانت غاية سقراط (هؤلاء الذين يمارسون الفلسفة بالأسلوب الصحيح يتدربون على الاحتضار  ولا يخشون الموت ويهابونه كأي شخص آخر) حيث أنه في لحظة الموت تتحرر الروح من الجسد، ومن ثم فقد كان على مريدي أفلاطون وأتباعه أن يعيشوا هذا الانفصال كل يوم ويهتمون بسلوكهم وكأنما كل لحظة يعيشونها هي آخر لحظات حياتهم .

وفي أعماله المتأخرة اتخذ فكر أفلاطون الديني شكلا ملموسا أكثر وبذلك مهد الطريق للاهتمام الديني بالكون الفيزيقي الذي أصبح فيما بعد سمة لكثير من الفكر الديني الغربي .

وبتدع أفلاطون أسطورة خلق جديدة قدم فيها العالم على  أنه قد تم تشكيله بواسطة صانع مقدس وذلك الصانع خالد وبه من الخير الشيء الكثير، إلا أنه لم تكن لديه القوة الكاملة ولم  يكن الرب الأعلى وإنما كان ثمة إله أعلى لا يمكن معرفته .

ولم يكن هذا خلقا من العدم فقد عمل الحرفي الإله على مادة سابقة الوجود وكان عليه  صنع خلقه على الأشكال الخالدة العلوية، فالنظام الكوني كيان حي له عقل منطقي وروح يمكن تبينهما في نسبة الرياضيات والدوران المنتظم للأجسام السماوية، تشاركها  النجوم في قداسة الأشكال الخالدة. أما الأرض  فتدخل ضمن الآلهة الرئيسية وكذلك عقل كل شخص بشري فهو شرارة مقدسة وإذا تمت رعايته كما يجب فبإمكانه الارتقاء بنا عاليا بعيدا عن الأرض وباتجاه ما يماثلنا في السماء. وهذه العقيدة لأفلاطون على وضع أسس العقيدة الغربية المهمة القائلة بأن البشر يعيشون في عالم عقلاني تماما وأن التفحص العلمي للنظام الكوني هو مبحث روحاني .

وأتى أرسطو (384-322 ق .م ) تلميذ أفلاطون العبقري بالعقلانية الفلسفية إلى أرض الواقع. وكان اهتمامه بالبيولوجيا أكثر من اهتمامه بالرياضيات،  ومن ثم أثارت عملية التحلل والنمو التي أقلقت أفلاطون فضوله ورأى فيها مفتاح فهم الحياة. قضى أرسطو عدة سنوات في آسيا الصغرى قام فيها بتشريح الحيوانات والنباتات ودوَن ملاحظاته تفصيليا . ونجد أن كتابات أرسطو كثيرا ما يشوبها عدم الاتساق والتناقض ولكن هدفه لم يكن الإتيان بنظام فلسفي مترابط منطقيا والأحرى أنه هدف إلى وضع أسلوب علمي للتقصي والبحث .

واعتقد أرسطو أن الكون خالد. ومن ثم فلم يكن  الإله هو الخالق أو العلة الأولى للكينونة بل كان المحرك الذي لا يتحرك، والذي أطلق حركة النظام الكوني. وكان لعلم الكون الأرسطي أن يحدد أفكار الغرب عن الكون حتى القرن السادس عشر، حيث كانت الأرض مركز الكون وتدور الأجسام السماوية حولها كل في قبته السماوية .

ورأى أرسطو أن الثيولوجيا أو الخطاب حول الله هو الفلسفة الأولى لأنه كان يدور حول أسلوب الكينونة الأسمى لكن إله أرسطو  لم يكن مجسدأ  ولم يكن له أي سمات من سمات  إله الإسرائيليين  أو إله الفرس .

الفرس

وعلى الجانب  الآخر نجد أن الحضارة الفارسية رغم ما تعرضت له من تشويه من قبل الرومان بعد أن سحقتهم إلا أن الحقيقة غير  ذلك. فلم يكن الفرس من البرابرة  بل كانت لهم أساليب مختلفة في فكرهم  الذي بنوا عليه أساسًا اجتماعيًا نشأت عليه حضارتهم وبالفعل تركوا لنا  آثارًا تؤكد كل هذا. والكتابات التي وجدت وتعود إلى العصر الفارسي  تؤكد أنهم كانوا يمتلكون  عقولًا مستنيرة وإلا ما كانوا  يستطيعون  العيش في تلك الفترة الزمنية الطويلة فما قاموا به من اكتشافات تؤهلهم لمواجهة قوى تضاهى قوتهم في عصرهم يدل إلى أي مدى كانت هذه الحضارة حضارة حقيقية شأنها شان الحضارة الرومانية .

وكانت الحضارة الفارسية تشتهر بديانة….

“يتبع”



Share To: