" في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت
الصمت مرير ...
لا شيء سوى رجع التكبير
حتى حفّار القبر ثوى لم يبق نصير"
وهكذا فإن قصيدة نازك الملائكة تعود إلى الذاكرة ، لتثير فينا الأسى والإنفعال على وقع صدمة أعقبت صدمات بالأمس القريب المليء بالثورات والحروب ... وأخيرا الوباء ، فها هو فيروس كورونا المستجد بحجمه الدقيق يتنقل من بلد إلى آخر موديا بحياة الآلآف ، فالضحايا في كل مكان ، ولا يزال المجتمع الإنساني يبحث عن سبيل للخلاص ، واضعا البشرية بأسرها أمام تحدي محاصرة الوباء والقضاء عليه .
إن تاريخ الإنسانية مع الأوبئة حافل بالتجارب المتشحة بالسواد ، ولطالما كان للعديد من الأوبئة تداعيات كبيرة على المجتمع البشري لم تتوقف عند قتل نسب كبيرة من سكان العالم ، فطاعون جستنيانما الذي تفشى في القرن السادس قبل الميلاد قتل ما يقرب من نصف سكان العالم آنذاك ، ليوقف الأنشطة التجارية و يضعف الإمبراطورية البيزنطية ، مفسحا المجال أمام العديد من الدول لاستعادة أراضيها ، ولم تقف آثار وباء الطاعون الذي تفشى في الفترة ما بين 1347 – 1351 على مقتل 25 مليون شخص تقريبا ، بل إنه ساهم في تراجع النظام الإقطاعي القائم على استعباد الفلاحين ، كما أدى موت الكثيرين إلى خلق المزيد من فرص عمل جديدة ، ورفع المستوى المعيشي للناجين من براثن الوباء ، وإيقاف الحروب فترة من الزمن .
واليوم لم يعد تحدي السفر حول العالم في ثمانين يوما ذو قيمة في ظل قدرة البشر على التنقل السريع ، فالمسافات بين المجتمعات لم تكن يوما قصيرة كما هي اليوم ، الأمر الذي جعل انتشار الكوفيد - 19 عالمي النطاق ، وبالرغم من أن قراءة المشهد لن تتضح إلاّ في أعقاب الخروج من هذه الأزمة ، إلاّ أنه يمكن رصد بعض القراءات الأولية لردود الفعل التي أعقبت صدمة تحوّل الفيروس إلى جائحة عالمية فتّاكة .
من المؤكد أن الفيروس يشكل تحديا للمنظومة الصحية في جميع دول العالم ، فالجيش الأبيض يقف خلف متاريس الخطوط الأمامية مع العدو القاتل في حرب تعجز فيها الأسلحة الأوتوماتيكية ووسائل الإبادة الشاملة عن التصدي لهذا الوباء ، فالمستشفيات باتت غرف عمليات لمواجهة جيش من الفيروسات ، وكوادر الأطباء والتمريض وفنيي المختبرات هم الجنود الحقيقيون في هذه الحرب ، وفي الخلف فإن الفيروس ينال من كافة جوانب الحياة النفسية و الإجتماعية والإقتصادية ، فما قامت به الدول من فرض للحجر الصحي والإقامة المنزلية وحظر التجول ، شكل خطوة استباقية لا مفر منها لتفويت الفرصة على الفيروس لتوسيع نطاق انتشاره ، الأمر الذي لا يعني الإستسلام لهذا الإجراء ، وإنما ضرورة التعامل وفق مفاتيح فاعلة لإدارة الأزمة بكافة تفاصيلها .
أصبح القلق والحذر يسكنان البشر ، إذ أن الحياة اليومية ومجريات روتينها المعتاد قيد الشلل الجزئي ، وهو ما يشكل خطرا لا يقل فداحة عن خطر الفيروس ، فالفرد يقف عاجزا عن القيام بمتطلبات دوره الإجتماعي ، لكن المجتمع أوجد الحلول التي تمكنه من الحفاظ على الحد الآمن من متطلبات الحياة بإدارة مباشرة من الدولة التي تصدرت لإدارة الأزمة .
من الواضح أنّ ملامح ثقافة جديدة بدأت بالظهور، فالتباعد الإجتماعي المكاني أصبح عنوان المرحلة ، ضاربا بالعولمة عرض الحائط ، فالحفاظ على مسافة أمان بين الأفراد بات أمرا ملزما ، ما شكل تحديا لكافة مرافق الحياة ، فكان لا بد من إيجاد وسائل آمنة تكفل سير الحياة الطبيعية للأفراد ، فها هم الطلبة يباشرون دروسهم عبر منصة الكترونية لتصبح مسؤولية التحضير والدرس استحقاقا ذاتيا ، كما أصبح التسوق يتم عبر تطبيقات الهواتف الذكية ، إضافة إلى أن معظم الأعمال الوظيفية أصبحت تدار بشكل مرئي عن بعد ، هذا وقد أصبح مشهد الطابور المنظم ضمن مسافة تحفظ سلامة الفرد مكرسا أمام المخابز ومحال البقالة وحتى أمام البنوك ومحلات الصرافة ، في رسالة مضمونها السلامة الشخصية وسلامة الآخرين ، كما أن الأزمة نجحت في فرض بنى ثقافية تحدت الكثير من العادات الإجتماعية والسلوكية مثل الإكتفاء بإفشاء السلام دون المصافحة أو التقبيل ، واختصار الكثير من كلف المناسبات الإجتماعية ، إضافة إلى التوجه الطوعي نحو عادات غذائية أكثر صحة سواء كان ذلك بهدف تعزيز مناعة الجسم ، أو بدافع الترشيد في الإستهلاك في ظل حظر التجول ، ما سيساهم في ترسيخ أنماط استهلاكية أكثر واقعية ، ولا شك ان الأزمة ساعدت في تغييب الصورة المزعجة للإزدحام المروري ، لإقتصار عمليات التسوق على السير مشيا على الأقدام ، الأمر الذي أوجد فرصة لمواجهة الواقع على شكل ممارسات من شأنها أن تدعم صحة الفرد وتغيّر في نمط تفاعله مع معطيات الحياة اليومية ، ولا يخفى أن ظروف إدارة الأزمة أوجدت فرصة لظهور أنماط اتصال على مستوى الأسرة ومحيط السكن ستساعد في إعادة اكتشاف العلاقات الإجتماعية عن قرب بعيدا عن مشاغل العمل وضغوطات الحياة ، كما أكدت الأزمة على أهمية كبار السن وقيمتهم في المجتمع ، الأمر الذي تجلى في الحرص الجمعي على صحتهم من خلال الإلتزام بإرشادات الوقاية كونهم الفئة الأكثر عرضة للخطر ، لقد ولّد الفيروس روح تضامن اجتماعية من رحم الأزمة ، فلم تكتف الحكومة بإصدار التشريعات القانونية والإدارية فقط للحد من انتشار الفيروس ، بل إنها فتحت الباب أمام المبادرات التطوعية لتجعل من الأفراد شركاء في إدارة الأزمة ، في صورة أخرجت مفهوم الجسد الواحد إلى السطح ، ما بيّن أن التباعد الإجتماعي وثّق العلاقات ولم يضعفها .
إن ما شهدناه في بداية الأزمة من بعض الممارسات السلبية ، لم يكن سوى انعكاس لغياب بعض القيم عند فئة محدودة من الأفراد ممن جعل من الأزمة ميدانا للتلاعب بعقول الأفراد عبر الترويج لشائعات كان من شأنها أن تغذي حجم المشكلة ، أو قيام البعض الآخر باحتكار السلع والتلاعب بأسعارها متسلقا الأزمة غير آبه بالقوانين ، أو ممن حرص على خرق فكرة الحجر المنزلي دون مبالاة بخطورة الوضع ، ما جعل السلوك الجمعي لهذه الفئات يشكل عائقا أمام جهود أجهزة الدولة شاغلا إياها عن بؤرة الأزمة ، ويمكن القول أن بعض السلوكيات كالتهافت على السلع والتذمر من إجراءات الحجر ربما رافقت إسقاط الجانب السيكولوجي من قائمة التدابير الإحترازية في بداية الأمر ، فشعور بعض الأفراد باحتمال فقدان الحاجات الأساسية ، دفع بهم إلى اتباع أساليب كان يمكن أن تؤدي بالجهد المبذول من قبل الحكومة إلى منحنى خطير ، وهو ما يؤكد على ضرورة إيلاء مثل هذا النوع من الأزمات اهتماما أكبر ، إذ ينبغي وضع سيناريوهات تدريبية لكافة مؤسسات المجتمع بهدف رفع مستوى الجاهزية ومراعاة كافة التفاصيل التي من شأنها المساعدة في ضبط السلوكيات الجمعية ، فالأمن النفسي يشكل القاعدة الأساسية التي تستند إليها استجابة الأفراد ، وذلك عبر السيطرة على مصادر المعلومات ، والعناية بالطريقة التي يتم من خلالها إيصال المعلومة ، وترتيب أولويات تنفيذ القرارات الحكومية .
من المؤكد أن كورونا سيترك تبعات نفسية واجتماعية واقتصادية تتطلب ثقافة جمعية لا تقل التزاما وقوة عما هو الحال الآن ، فلا بد من رفع درجة وعي المواطن بكونه رديف أساسي في المعركة وذلك من خلال مستوى وعيه وضبطه المجتمعي ، فالحس بالمسؤولية المدنية سيعزز المناعة الإجتماعية والضبط الداخلي للأفراد ، إضافة إلى تعميق الإلتزام بالأوامر الحكومية المقرونة بالقوانين والتشريعات عبر بناء جسر من المرونة النفسية التي تزيد من مستوى الثقة والمسؤولية المجتمعية .
لا زال الكوفيد - 19 يتلاعب بأوراق المجتمع الإنساني ، مذكرا بأن غرور التفوق التكنولوجي ما زال بعيدا عن الواقع ، ويبقى لعامل الوقت والجهد المبذول في حماية الحياة الكلمة الأخيرة ، فلا بد من وجود إدارة عالمية لمخاطر الأمراض المعدية ، بهدف بناء استراتيجية ومقاربة دولية ، فالكورونا ربما تكون جرس إنذار للعالم لكي يعقّم أولوياته و يعتني أكثر ببعضه البعض بعيدا عن الجهل والجشع والظلم والعنف ، " فإذا ما كان علي أن أضع يوما كتابا في الأخلاق فسيكون في مائة صفحة ، تسع وتسعون منها خالية ، وفي الصفحة الأخيرة سأكتب أنني أقر بنوع وحيد من الواجب الأخلاقي : أن نحب " عبارة ابتعد من خلالها الروائي البير كامو عن المفهوم الرومانسي للحب ليمتد إلى تلك العلاقة من الشغف الإيجابي تجاه الأبناء والأصدقاء والمجتمع والإنسانية .
Post A Comment: