شاءت إرادة الله أن يتقلب الإنسان بين السراء والضراء والشدة والرخاء والخوف والرجاء والفرج والكرب والحزن والفرح والعافية والمرض ،قال تعالي:(لقد خلقنا الإنسان في كبد) أي يكابد في هذه الحياة ،وقال تعالي( يأيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه)
ومن حكمة الله تعالى أن جعل بعد العسر يسرا وبعد الخوف أمنا وبعد الشدة رخاء وبعد الكرب يأتي الفرج ،واذا رأيت الحبل يشد فاعلم أنه سينقطع ،واذا رأيت الصحراء تمتد.وتمتد فاعلم أن وراءها خضراء وارفة الظلال.
ومن لطائف الكتاب العزير أنه دعا لصناعة التفاؤل وزراعة الأمل في النفوس، وقلوب أصابها الجفاف،ولقد حكي القرآن الكريم نماذج من حياة الأنباء وكيف صنعوا التفاؤل ونشروا السعادة،فبث الطمأنينة والسكينة في النفوس وقت القلق منهج الأنبياء.
قال يوسف لأخيه : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) "
وقال شعيب لموسى : (لا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
وقال رسولنا لأبي بكر : ( لا تحزن إن الله معنا)
ولابد من بث روح البشرى والتفاؤل في قلوب الناس ،فالله عز وجل فرجه قريب (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد)
لله في كل طرفه عين ألف ألف فرج ،إنه ربي، فرجه في لمحة البصر، غوثه في لفتة النظر.
مابين طرفة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلي حال
وبكل تأكيد هذا البلاد سحابة صيف ستنقشع قريبا.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال : " لن يغلب عسر يسرين " .
وقال ابن مسعود : (والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في حجر ، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ولن يغلب عسر يسرين ).
وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم ، وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - : أما بعد ، فإنهم مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة ، يجعل الله بعده فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه : (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)
وقيل لعُمرَ رضي الله عنه: اشتدَّ القحْطُ وقَنَطَ الناسُ، فقال: الآن يُمْطَرون. وأخذ ذلك من هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)،
والإنسانَ لا يأتيه الفَرَجُ، ولا تُدركُه النجاةُ، إلا بعد إخفاقِ أملهِ في كلِّ ما كان يتوجِّه نحوه ، وعند انغلاقِ مطالبِهِ، وعَجْزِ حيلتِه، وتَنَاهِي ضَرِّهِ ومحنتِه، ليكونَ ذلك باعثًا له على صَرْفِ رجائِهِ أبدًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وقد لهج صلاح الدين الأيوبي لما ادلهم الخطب وأظلمت الدنيا واستسلم لله رب العالمين قائلاً (اللهم إنه قد انقطعت الأسباب الأرضية ولم يبق إلا الإخلاد لذاتك العلية)
إذا الحادثات بلغن المدي* وكادت تذوب لهن المهج
وحل الوباء وعم البلاء * فعند التناهي يكون الفرج
[١٤/٦ ٢:٥٧ م] د.: التفاؤل ينبوع السعادة
دكتور عادل المراغي/ أكاديمي وأديب مصري
إن المتفائل يري أشجار الحديقة تتراقص طربا ،والمتشائم يراها تتآمر وتشتعل عليه نارا ،المتفائل يري في كل بلية عطية وهدية. والمتشائم يري في كل عطية بلية.
فلو رآها تقي ظنها عدنا
ولو رآها شقي ظنها سقرا
دائماً ما أدندن بهذه العبارات في كل واد وفي كل ناد لأن التفاؤل يحيي النفوس الميتة كما تحيا الأرض الميتة بوابل السماء. فهو روح الروح وقلب القلب وعين العين.
والرجاء في الله خير مأمول وهو عندنا عقيدة تلتف عليها حنايا القلب، كلما هممنا باليأس وهمَّ بنا جاءنا البرهان {لا تقنطوا من رحمة الله}
( ولا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ )
(وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ )
فكان كغيث بدر يُذهب عنا وساوس الشيطان وتثبُتَ به الأقدام.
الأمل عندنا بنيناه على سنن ربانية تقضي بأنْ يعقب العسرَ يسرٌ، فكل يوم هو في شأن، والأيام دُول، وبين عشية وضحاها تقوم حضارات وتندثر أخرى.
من قلب الخندق وفي ظل زلزلة القلوب وتربص الأعداء وسطوة البرد والجوع والخوف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر بالفتح المبين.
وكل الحادثات وإن تناهت
فموصول بها الفرج القريب.
وصناعة الأمل تعتمد على سجلات التاريخ، والتاريخ علمنا أننا أمة تمرض ولا تموت، وما نراه اليوم قارعة الدهر لا يضاهي في شدته المحن والأزمات التي ألمَّت بنا على مر القرون، وفي كل مرة تخرج الأمة منها أشد قوة، فالضربة التي لا تقصم الظهر تقويه.
ولقد كان التفاؤل من دأب نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتدل أحاديث كثيرة على أنه صلى الله عليه وسلم ـ كان يغتنم كل مؤشر يتيح شيئاً من التفاؤل حتى يشرحه لأصحابه .
إن أعظم ما في التفاؤل أنه يشير دائماً إلى وجود فرصة لعمل شيء أفضل وأجود ، وإذا تأملنا في أحوال المتفائلين ، فإننا نجد أنهم ينقسمون أيضاً إلى فريقين: فريق يتحدث عن التفاؤل ، ويطرب لسماع كل ما يشير إليه ، وفريق يصنع التفاؤل ، أي يسهم في تقدم الحياة العامة وازدهار معاني النبل والفضيلة ، وكما أننا نجد في صناعة الأشياء من يصنع الإبر والكؤوس والأقلام …. ويصنع السفن والطائرات كذلك تجد الأبطال العظام الذين يبثون روح التفاؤل في جيل بأكمله ، وتجد من يساعد ولده على أن يكون متفائلاً ،ونحن اليوم في حاجة إلى الرواد الكبار الذين يجعلون من الإنجازات الملموسة منابع ثَرَّة للشعور بأننا في خير وإلى خير، كما أننا في حاجة أيضاً إلى من ينشر روح التفاؤل من خلال أصغر الأعمال الإيجابية ، حيث لا يأتي بالأمل إلا العمل . أما المتفرجون على ما يرون والذين يفرحون بانتصارات لم يخوضوا معاركها ، فإن عليهم أن يعيدوا حساباتهم ، لعلهم يعثرون على وسيلة تنقلهم من دائرة البطالة إلى دائرة الفعل.
تقول الحكمة: «لا تنظر إلى نصف الكوب الفارغ وانظر إلى نصف الكوب الممتلئ»، لكن المتشائم سيؤكد أن الكوب جف فيه الماء، لا عليك يا قَنُوط، فقطرات الندى كفيلة بملئه، فقط حرِّك قدميك تجاه الأغصان في البكور، وهذا هو الأمل الذي نعنيه ، أمل يدفع للحركة لا للسكون.
صناعة الأمل مسؤولية فردية واجتماعية، تستوجب أن تكون أسلوب حياة، من دون التعلل بضغط الواقع وعجز الثقات وسدور الأمين وعزم المريب.
ليت حياتنا كعدسات الكاميرا، تقع على همسات ضاحكة على أسرّة المرض، على أنغام التفاؤل تجري على فم بائع الألبان، على تلك التجاعيد التي بعثرتها بسمة عجوز احدودب ظهرها وهي تبدأ صباحها بـ«بسم الله».
اليأس سيقتلنا مرات ومرات والواقع كما هو، فلنجرب أن نعيش على أمل يروي حياتنا، يهيئ الأنفس للعمل، فلنترك أنوفنا تشتم رائحة الغد الأفضل، على طريقة يعقوب، إذ وجد في القميص ريحَ يوسف، فلم ينقطع منه أمل اللقاء (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً)
( طرق لصناعة التفاؤل)
هناك أساليب وطرق لصناعة التفاؤل منها:
أولا: أن تكون طريقة تفكيرك إيجابية ،فكن دائما مفكرا بطريقة إيجابية وقاوم الأفكار السلبية بأفكار إيجابية وسليمة. صاحب التفكير التفاؤلي بعيد عن الاكتئاب والتوتر والعدوانية, هو قادر على تحويل المواقف أياً كانت الى مواقف إيجابية, فمثلا: لوضاع منه مفتاح البيت يقول لنفسه: لعله خير, فقد أجده في مكان آخر أو يجعله يتصل بأهله فيطمئن عليهم ويجده عندهم .
ثانيا: مارس القراءة التفاؤلية، وهي في اعتقادي من أهم الاساليب لصناعة التفاؤل وذلك من خلال الابتعاد وبالمطلق عن كل الأخبار المقروءة السلبية، والتي تدعوا الى التشاؤم وقراءة فقط الكتب أو الافكار أو حتى التعليقات الإيجابية فهي تشعرك بالتفاؤل وتجعل عقلك اللاواعي مركزا عليها.
ثالثا: كن مع أصدقاء يمارسون التفاؤل فالصاحب ساحب والطيور علي أشكالها تقع وأخلاق المتشائمين تعدي،كما قال بعض العلماء (إذا صاحبت في الدنيا فصاحب الطيبين فإنهم إذا غبت عنهم (فقدوك) وإذا غفلت(نبهوك)
وإذا دعوا لأنفسهم(لم ينسوك)
هم كالنجوم إذا ضلت سفينتك في بحر الحياة (أرشدوك)
وغدا تحت عرش الرحمن(ينتظروك )
ألا يكفيك أنهم في الله" (أحبوك).
ولله در ابن عطاء الله السكندري حيث قال: ( أعلم أن المجانسة تكون بالمجالسة ،إن جلست مع المسرور سُرِرت ،وإن رافقت الغافلين غفلت ،وإن جلست مع الذاكرين ذكرت ،وإن صاحبت النائمين نمت ،وإن صاحبت أموات الدين يمت دينك في قلبك (أمواتٌ غَيرُ أَحيَاء).
فلذلك قيل لمريم ( واركعِي مع الراكعِين )
فالأصدقاء لهم أثر كبير على الشخص، فقد أثبتت كافة الدراسات التي تعنى بالموضوع أن للأصدقاء أثر كبير في تفكير الشخص إيجابيا أو سلبياً،فالأصدقاء هم أصحاب التأثير الأكبر على الإنسان فليكن لديك أصدقاء متفائلين وإيجابيين وكما جاء في الحديث الشريف " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخَالِل" ومعناه انتقُوا واختاروا من تتخذونَه خليلًا أي صَديقًا، من كان ينفعُكم لدينِكم فعليكُم بِمصادقتِه ومَن لا ينفعُكم في دينِكم بل يضرُّكم فابتعدوا عنهُ، أي لا تصادقوهُ . الإنسانُ يَهلك من طريقِ الأصدقاءِ الأشرارِ. والصديق الحقيق هو الذي يساعدك على صناعة جو التفاؤل في كل الأمور والمساند لك في الحياة رغم كثرة الصعاب فهو دوما متفائل معك ويشعرك بالتفاؤل
والتفاؤل هو أقصر الطرق للشعور بالسعادة، فمن أسباب السعادة أن تملك عينا تري الأجمل وقلبا يغفر الأسوء وعقلا يفكر في الأفضل وروحا يحدوها الأمل وهمة يصحبها العمل.
[١٥/٦ ٣:١٦ م] د.: ينابيع السعادة وصناعة الأمل
دكتور عادل المراغي/ أكاديمي وأديب مصري
إن القرآن الكريم زاخر بمقومات صناعة الأمل والتفاؤل،ونحن في أمس الحاجة إلى الرجوع إلى الله واستلهام هذه المعاني السامية ونشرها في هذا الوقت العصيب من تاريخ الإنسانية. وقت نزول البلاء وحلول الداء وقلة الرجاء،وتكالب الأعداء،وقت الهزائم النفسية العاصفة القاصفة،
ومن الآيات التي تبث الأمن والسكينة والطمأنينة في النفوس، قول الله تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي تسكن وتستأنس بجلال الله فتطمئن، ومن ثم يزول قلقها واضطرابها.
ومن العجيب أن هذه الآية الكريمة قد وردت في سورة الرعد، والرعد مخيف مقلق ، لكن الآية جاءت لتبث الأمل والطمأنينة في قلوب الذاكرين.
وجاءت الآية بعدها تفتح آفاقا عراضا من الأمل بل تفتح الباب علي مصراعيه
قال تعالي:(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ)ومعني أفلم ييأس أي (أفلم يعلم) في لغة النخع كما قال ابن عباس
ومن اللافت للنظر أن هذه الآيات جاءت بعد سورة يوسف ،تلكم السورة التي نصبت ميزان التفاؤل ورفعت لواء الأمل.
فمن التفاؤل أن نتوقعُ الشفاءِ عند المرض، والنجاح عند الفشل، والنصر عند الهزيمة، والفرج عند الكرب، وانقشاع الغمة عند المصائب والنوازل ،والاجتماع بعد الفرقة ،والحرية بعد السجن والبراءة بعد الاتهام .
قَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما
يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا
ومن صفات المؤمن المقبل على ربه المرتبط بمشيئته، أن يكون شعاره ودثاره:
لا تخف من أي شيء روعك..
كن مع اللهِ يكن ربى معك،
وإذا نابك كربٌ فاصطبر ...
وادعو مولاك وجفف أدمُعك،
ما لنا إلا إلهٌ واحدٌ ...
فاسأل الكون وقل مَن أبدعك، واسأل الحمل جنينا في الحشى .
مَن رعاك الآن مَن ذا أشبعك، واسأل البدر مضيئا في الدجى
باعثا أنواره ما أروعك،
واسأل الشطآن عن أمواجها
واسأل البحر أتدري منبعك،
واسأل الصبح تجلى مسفرا... بعد ليل حالك من أطلعك
واسأل سل رسول الله قل يا مصطفى ...
يا شفيع الخلق من قد شفعك
إنه ربي إله واحد ...
كن مع الله يكن ربى معك
والأمل يمثل استشراف الإنسان للمستقبل في قضاياه كلّها، إنْ في عمره أو حاجاته أو حركته أو أهدافه أو تطلعاته كلّها؛ لأنّ الإنسان لو تجمَّد في دائرة اللحظة التي يعيش فيها والظروف التي تحيط به، لانقضى عمره في لحظته؛ لأنّه يتصوّر أنّ هذه اللحظة هي عمره كلّه، عندما لا يكون له أملٌ في الامتداد ،ولو انعدم الأمل لمات الناس موتا معنويا،لأن التفاؤل والأمل هو الحادي الذي يحدو الركب بل ويحدو الأرواح إلي بلاد الأفراح
قال الطغرائي:
أعلّل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ
[١٦/٦ ١:٢٩ ص] د.: تحطيم اليأس
دكتور عادل المراغي /أكاديمي وأديب مصري
إذا هبت رياح اليأس تحولت الحياة إلي صحراء قاحلة ذبلت فيها النباتات وأصابتها السنون العجاف وتحول فيها الربيع إلي خريف تتساقط فيه الأوراق،واذا هبت ريح التشاؤم واليأس خلفت وراءها أعجاز نخل منقعر واقتلعت النفوس وحطمت الآمال واجتثت الطموحات،وإذا نزل غيث الأمل سالت أودية بقدرها واهتزت القلوب وربت،وإذا سرت روح اليأس في الجسد أهلكته وراح يجر أثقالا مع أثقاله لسان حال أحدهم يقول : ليس لي حظ في التجارة،ولوأنني تاجرت في الأحذية لولد الناس بدون أرجل!؟
فالمتشائم يخاف من كل شيء،وفيه يقول الشاعر:
لقد خِفتُ حتى لو تمرُّ حمامة
لقلتُ: عدوٌّ أو طليعةُ معشر
فإن قيلَ: خيرٌ قلتُ : هذي خديعةٌ
وإن قيلَ: شرٌّ قلتُ: حقٌّ فشمّرِ
وقد عد ابن حجر اليأس من رحمته – تعالى – من الكبائر، مستدلًّا بقوله – سبحانه - : ( إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ )
قال محمد بن كعب: الكبائر ثلاث: (أن تأمن مكر الله، وأن تقنط من رحمة الله ، وأن تيأس من روح الله)
فقد نهى يعقوب عليه السلام أولاده عن اليأس فقال :
(ولا تيأسوا من روح) والمراد لا تقنطوا من رحمة الله وبألفاظ أخرى لا تفقدوا الأمل فى نفع الله لكم إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، والمراد إنه لا يقنط من رحمة الله إلا الناس المكذبين بحكم الله، فصفة الكافر هو فقدانه الأمل فى نفع الله.
وقد جاء حديث القرآن مفصلاً عن القنوط واليأس في سورة الروم قال تعالي: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)
وجاء بعدها الحديث عن المطر وأحياء الأرض وقنوط الإنسان قال تعالي في سورة الروم: (وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِۦ لَمُبْلِسِينَ )
وقد فرق العلماء بين اليأس والقنوط فهما يعنيان فقدان الأمل بصور متفاوته ،ففي القنوط نجد أن الأمر يمكن أن يحصل بعد طول انتظار أما في اليأس فنرى أن الأمر لن يتحقق فهو ميئوس منه ،قال الله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)
فنجد أن الناس قد قنطوا من نزول الغيث وبلغت القلوب الحناجر وساءت الظنون وادلهم الخطب ،و لكن الله تعالى أنزل الغيث ونشر رحمته.
وقد جاء القنوط علي لسان الملائكة لسيدنا إبراهيم عليه السلام حينما بشروه باسحاق
( قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ )
ومن خلال الآيات الكريمة نجد أن اليأس أشد من القنوط لذا جعل الله اليأس أخا للكفر وجعل القنوط أخا للضلال.
واليأس والقنوط: سَـدّ لباب التفاؤل والأمل، وتوَقعٌ للخيبة والفشل، واستبعادٌ للفرَج بعد الشدة، واليُسْر بعد العُسْر.. وتغييبٌ للرّجاء في رَحمة الله وعفوه وغفرانه.
واليائسُ القنوط: من ضاقت نفسُه من كثرة الذنوب، وتوالي الهموم، فلا يتوقعُ الخيرَ ولا يرجو الفرَج.
اليأسُ والقنوط: كبيرة من كبائر الذنوب -كما ذكرت آنفاً-، وصفة من صفات أهل الكفر والضلال؛ فلا ييأسُ من رحمة الله إلا القوم الذين حادُوا عن الطريق وضلوا عن السبيل، وتركوا الرجاء في الله، لعدم علمهم بربهم، ولجهلهم بكمال فضله وعظيم كرَمه
ولا تظنن بربِّك ظنَّ سوءٍ
فإنَّ الله أولى بالجميلِ
واليأس والقنوط؛ داء ابتلي به كثير من الناس، لأسباب كثيرة، ودواعي عديدة.
فمن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة جهله بالله تعالى، وعدم معرفته بسَعَة رحمة الله وعظيم فضله وكرمه وإحسانه.
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، بسبب غلوّه وإفراطِه في الخوف من الله تعالى، حتى وقع في اليأس من رَوْحه، والقنوطِ من رحمته.. فحَدّ الخوْفِ ما حَجزك عن المعاصي. أما ما زاد على ذلك فهو غيرُ محتاج إليه، لأنه يُوقع صاحبه في اليأس والقنوط، وفيه سوءُ أدب مع رحمة الله التي سبقت غضبه سبحانه.
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة مصاحبته لليائسين والقانطين والمقنطين؛ فإنّ مصاحبة هؤلاء والإنصاتَ لهم، والاستسلامَ لكلامهم، والركونَ إلى أقوالهم باعِثٌ قوي على القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى.
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، بسبب قلة صبره وتحمّله واستعجاله للنتائج؛ فإنّ ضَعْفَ النفوس عن تحمّل البلاء والصبر عليه، واستعجالَ حصول الخير، باعث على اليأس والقنوط، لاسيما مع طول الزمن واشتداد البلاء على الإنسان.
ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة شدةِ تعلقِهِ بالدنيا والركونِ إليها والفرَحِ بأخذها؛ فهو يحزن ويتأسف على ما فاته منها من جاه وسلطان وأولاد ومال وعافية ،قال تعالي:(لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَسَّهُ الشَّرّ فَيَئُوسٌ قنُوطٌ ) ويقول عز وجل: (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرّ كانَ يَؤُوسا )
وأغلب ما يكون اليأس والقنوط بسبب الجهل بالله أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وخير الغافرين وأجود الأجودين فرجه في لمحة البصر (كل يوم هو في شأن)
فهو الجواد الكريم البر الرحيم .
مظاهرُ اليأس والقنوط:
لليأس والقنوط صور كثيرة، ومظاهرُ عديدة، كلها تبعث على الحزن والأسى، وتورث القلق والهمّ، وتفوّت على المرء مصالحَ دنياه وأخراه
ومِن أخطر مظاهر اليأسِ والقنوطِ: اليأسُ والقنوط من مغفرة الله ورحمته؛ حين يظنّ المرء أنه قد هلك وخاب وخسر، ويقطع على نفسه باب الرجاء، ويسدّ على نفسه باب الأمل في عفو الله والطمع في مغفرته ورحمته، فيترُك العمل، ويَخلد إلى الخمول والكسل، ويخوض مع الخائضين، ولا يسلك طريق التائبين.
ومن عيون الشعر في تحطيم اليأس ما ورد عن سيدنا علي رضي الله عنه:
إذا اشتملتْ على اليأس القلوبُ
وَضَاْقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيْبُ
و أوطنت المكارهُ واستقرت
وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الخُطُوْبُ
و لم ترَ لانكشاف الضرِّ وجهاً
و لا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاكَ على قنوطٍ منك غوثُ
يمنُّ به اللطيفُ المستجيبُ
و كلُّ الحادثاتِ اذا تناهتْ
فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرْيَبُ
[١٦/٦ ١١:٤٣ م] د.: من لطائف سورة يوسف ..صناعة التفاؤل
دكتور عادل المراغي/ أكاديمي وأديب مصري
من أكثر سور القران الكريم التي تدعو الي التفاؤل وتشن غارة علي اليأس سورة يوسف وهي من السور المكية التي نزلت بعد عام الحزن تطييبا لخاطر النبي صلى الله عليه وسلم فكانت بمثابة حبات الندي التي تتساقط علي الوردة الظمأي،ومن لطائف وأسرار سورة يوسف أنها تجلب لقارئها الفرج والفرح والسرور والحبور،فما قرأها محزون ولا مكروب إلا فرج الله همه وحزنه كما قال عطاء بن ابي رباح،
ومن العجيب في سوره يوسف أن يعقوب عليه السلام تربى على تفاؤل جده الخليل عليه السلام،ورضع لبن التفاؤل من جدته سارة حينما جاءت الملائكه وبشرت ابراهيم عليه السلام وسارة ،قال تعالى على لسان الملائكه( قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين* قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) وقد زرع يعقوب التفاؤل في قلب ولده يوسف عليه السلام ،
ولك أن تتخيل أن يوسف عليه السلام ذهب في الدهر الأول وظل عشرين سنة في عداد الموتى والمفقودين ولكن يعقوب عليه السلام مازال يأمل في رحمه الله قال لبنيه ( اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)
ومن لطائف سوره يوسف أنها من اكثر السور التي تحدثت عن اليأس وهزيمته وعن البشرى و عن الفرج بعد الشده وعن اليسر بعد العسر ،فهذه السورة أكثر سورة وردت فيها كلمة (يأس) في القران الكريم قال تبارك وتعالى على لسان يعقوب عليه السلام (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) وقال جل شانه (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) وقال تعالى( فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا)
فسورة يوسف تقود إلى حسن الظن بالله و هو أفضل العبادات ، فأفضل العبادات القلبية انتظار الفرج لأنها تشتمل على الصبر والدعاء وحسن الظن بالله والرجاء والتوكل والإنابة، والإيمان نصفان(توكل وإنابة) قال تعالي (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )
وإذا دخل اليأس على القلوب بارت وإذا دخل على الهمم خارت وإذا دب الأمل في النفوس فارت ،
ومن لطائف سورة يوسف في صناعة التفاؤل وهزيمة اليأس أن سيدنا يعقوب عليه السلام كانت له ثلاث لاءات و هذه اللاءات الثلاث ( لا تياس) (لا تستعجل ) (لا تتنازل) وهذه الثلاث كفيلة بتحطيم أي أمة أو مجتمع .
وخلاصة سورة يوسف عليه السلام تتضمن ثلاث آيات الآية الأولى قوله تعالي (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )
الآية الثانية قوله تعالى:( إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الآية الثالثة قوله تبارك وتعالى( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
ومن لطائف سورة يوسف في صناعة الأمل أنها مليئة بالدموع والآهات والعبر والآيات( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ)
ومن لطائف في سورة يوسف أن لطف الله الذي يسري في أوصالها من أولها إلي آخرها، فأخرج الله يوسف من غياهب السجن عن طريق رؤيا منامية زار طيفها روع الملك وتسللت إليه في جنح الليل، ومن مواطن اللطف في هذه السورة أن الله أحوج القافلة في الصحراء إلى الماء ثم أحوج العزيز إلى الولد كي يشتريه ثم أحوج امرأة العزير إليه فأحبته وكادت له وسجنته، ثم أحوج الملك لتفسير الرؤيا بإخراج يوسف من السجن ،ثم أحوج العالم إلى الطعام ليصبح يوسف عزيز على مصر حتى يلتقي الجمع ويلتئم الشمل .
فإذا تولى الله أمرك هيأ لك الأسباب كما قال بعضهم( إن لله يدا تعمل في الخفاء فدعوها تعمل ولا تستعجلوها )
ومن لطائف سورة يوسف أنها بدأت بحلم واختتمت بتحقيق هذا الحلم (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
فقد تخرج المنحة من بطن المحنة و يخرج الخير من بطن الشر
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وتأمل كيف أن الحب قاد إلى البئر وأن البئر قادت إلى بيت العزيز وأن بيت العزيز قاد إلى السجن ،وأن السجن قاد إلى ملك مصر وأن ملك مصر قاد إلى اجتماع الشمل وتحقيق الحلم، فلربما كان العطاء منعا ،وربما كان المنع عطاء ،فلا تفرح بشيء حتى ترى عاقبته.
ولله در صفي الدين الحلي حيث جسد هذا المعني في قالب شعري بديع:
صفي الدين الحلي :
كن عن همومك معرضا
وكل الأمور إلى القضا
أبشر بخير عاجل
تنسى به ما قد مضى
فلرب أمر مسخط
لك في عواقبه رضا
ولربما اتسع المضيق
وربما ضاق الفضا
الله يفعل ما يشاء
فلا تكن متعرضا
الله عودك الجميل
فقس على ما قد مضى
ومن لطائف سورة يوسف أن كيد الرجال أبشع من كيد النساء
فقد ذكر القرآن الكريم أربعة أنواع من الكيد كيد الشيطان(إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) وكيد الرجال( يا بني لا تقصص رؤياك علي إخوتك فيكيدوا لك كيدا) وكيد النساء (إن كيدهن عظيم) وكيد الكافرين (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) وأبشع أنواع الكيد هو كيد الرجال على الرغم من عظم كيد النساء لأن كيد النساء يأتي من قبل الحب والغيرة وكيد أخوة يوسف جاء بسبب الكره والبغض والحقد والحسد ولما كادت امرأة العزيز ليوسف ألقته في السجن واكتفت!؟ ، بينما كاد له مخإخوته فهموا بقتله وألقوه في البئر وبيع كما تباع الشياه وألقي كما تلقي الأحجار، ولهذا السبب كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من كيد الرجال [اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال]رواه البخاري
ومن لطائف سورة يوسف أنه رغم كره أخوته وإلقائه في البئر وبيعه كبيع العبيد وهو سليل أنبياء ثم كيد أمرأة العزيز وألقاؤه في السجن مع اللصوص والمجرمين وهو الطاهر الكريم ابن الكريم ابن الكريم.
رغم كل هذه الصدمات النفسية العاصفة إلا أنه ظل متصلاً بخالقه راجيا في رحمته عظيم الثقة بالله، لم يتأثر ولم يتزعزع إيمانه بنصر الله له.
[١٨/٦ ١:٢٠ ص] د.: ينابيع البشرى في سورة الطلاق
الدكتور عادل المراغي/ أكاديمي وأديب مصري..
على الرغم من أن إسم السورة “الطلاق” يوحي بأنها سورة تشريعية ج نزلتاءت لتحديد المبادئ العامة للحياة الزوجية في حالة أن تكون قائمة وكذلك الآداب التي يجب أن يتبعها الزوجين في الخلاف وأخيرًا تشريع الطلاق في حالة استحالة العشرة، إلا أن هذه السورة تحمل مفاتيح الفرج والفرح وتفتح منافذ الرجاء وتزرع حدائق الأمل وتغرس أشجار التفاؤل ،وهذا الجانب قد يكون خفيا أو غير واضح لكثير من عوام الناس، وهذه السورة تحمل الكثير من أيات التفاؤل والتحفيز على التثبيت لذلك أسميها بسورة التفاؤل والأمل،بل و أطلق عليها سورة البشرى.
فعلى الرغم من قصرها إلا أنها حشدت عدداً من البُشْرَيَات لكل مغموم ومهموم ومكروب ومريض ومحزون ومسجون وفقير ومظلوم، تسوق البشرى لكل زواج فاشل أو مرض عضال أو صراع نفسي أو خسارة مالية أوجائحة عمت وطمت وعصفت وقصفت.
ولو أننا عشنا في أفياء هذه السورة وتفيأنا ظلالها
الوارفة،لوجدنا أنها تحمل ست طاقات وباقات من باقات الأمل ومن هذه الباقات والبُشْرَيات:
١-( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
وهنا يخبرنا الله عز وجل أنه مهما تشتد بك الشدائد وتتناولك الخطوب فلا تيأس ولا تحزن فأنت لا تدري ماذا يحمل لك الغد من أخبار قد تغير من هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه ، فأنت لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فقط اصبر واحتسب.
٢-- (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وهذه أرجى آية في كتاب الله عند جمهور المفسرين.
فقط إلزم تقوى الله في كل ما تفعل أو تقول وانتظر الفرج من بعد الضيق فالله وحده هو الذي يرزقك من حيث لا تحتسب، وهذه بشرى لكل مسلم ومسلمة تدعوهم للتفاؤل فالله الكريم يرزق من حيث لا تحتسب.
٣- (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ)
فالتوكل على الله هو غاية الاعتراف والتسليم بقدرته عز وجل على التصرف في كل شيء بما ينفعك ولا يضرك ، فالخالق سبحانه وتعالى هو مدبر الكون يعلم ما تخفي الأنفس وما تخفي الصدور، ويعلم ما هو صالح لك لذلك توكل على الله {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}فسبحانه جعل لكل شيء قدراً وجعل لكل قدر أجلاً وجعل لكل أجل كتاباً،يعلم ماكان وما يكون ومالم يكن لو كان كيف يكون ،يعلم دبيب النملة السوداء علي الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.
يا من يرى مَدَّ البعوض جناحها..
في ظلمة الليل البَهيم الأليَلِ
ويرى نياطَ عُرُوقِها في نحرها..
والمخَّ في تلك العظام النُحَّلِ
ويرى ويسمع كلَّ ما هو دون ذا..
في قَعْرِ بَحْرٍ زاخر أو جَنْدَل
ما إن يغادره فلا يخفي له
من خلقه مثقال حبة خردل
امنن علىَّ بنظرة أحيا بها
كانت قديما في الزمان الأول
٣-(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).
وهذه دعوة صريحة في السورة إلي من ضاقت به السبل وانقطعت به الحيل ، فالطلاق ليس مشكلة بل ربما يكون حلا أحياناً لمشكلة، وقد يكون الطلاق بداية الإنطلاق في حياة أسرة خيم عليها الهم وعصفت بها الأحزان وأصبحت حياتها يائسة بائسة.
٤- (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)
وهي دعوة مفتوحة لأصحاب الذنوب والمعاصي مهما بلغت عنان السماء فباب التوبة مفتوح على مصراعيه لا يغلق إلا في ساعة الإحتضار أو إذا طلعت الشمس من مغربها، فقط إتق الله وابتعد عن خطوات الشيطان يكفر عنك رب العزة جميع سيئاتك، وليس هذا فقط ولكنه يعظم أجرك أي يؤتك الأجر الوفير العظيم على توبتك.
٥-(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا)
فالله تعالى يحاسب العبد على ما يأتي من أفعال ويكلف كل نفس ما تطيق على قدر استطاعتها يقول الإمام الطبري (لا يكلف الله أحدًا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا ما أعطاه، إن كان ذا سعة فمن سعته، وإن كان مقدورًا عن رزقه فمما رزقه الله على قدر طاقته، لا يُكلف الفقير نفقة الغنيّ، ولا أحد من خلقه إلا فرضه الذي أوجبه عليه).
٦- (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)
إحدى البشارات التي تحملها السورة فالله يجعل بعد العسرِ والضيقِ اليسرَ والفرج، فهو الرحمن الرحيم بعباده اللطيف بهم الخبير بحالهم، كتب على نفسه الرحمة، فلا تحزن ولا تبتأس واجعل ثقتك في رب الأرباب ، فلا عسر إلا ويأتي بعده اليسر ولن يغلب عسر يسرين وهذا وعد الله ولن يخلف الله وعده.
فحينما يداهمنا الكرب ويهم بنا الهم ويدلهم الخطب ويتعاظم البلاء وينتشر الوباء ويشتد الظلام يكون فجر الفرج علي موعد كي يطارد الهموم علي رؤوس الجبال وبطون الأودية،
وهو يصرخ فيك بأعلي صوته (إياك أن تلقي الراية أو تستسلم) فها أنا ذا ولدت من أقاصي اليأس.
[١٨/٦ ٤:٤٤ م] د.: منهج النبي صلى الله عليه في صناعة التفاؤل
دكتور عادل المراغي/ أكاديمي وأديب مصري.
التفاؤل من الصفات الحميدة التي كان يُحبُّها نبيا صلى الله عليه وسلم، وهو من آثار حُسْنِ الظن بالله تعالى، والرجاءِ فيه، بتوقُّع الخير بما يسمعه من الكلم الطيب، ويُعتبر التفاؤل من الصفات الرئيسة لأي إنسان ينشد السعادة والنجاح، فلا حياة بدون أمل ولا سعادة بدون تفاؤل.
وللتفاؤل قيمة اجتماعية مميزة، إذْ يرغب الناس في صحبة المتفائل لأنه يبث الطاقة الإيجابية ويبعث علي السعادة، في الوقت الذي يَفِرُّون فيه من المتشائم لأنه محطم قاتل للنفوس ، كما أنهم يميلون إلى سماع الأخبار والأحاديث المتفائلة أكثر من المتشائمة؛ بل كثيراً ما يُوصي الناس بعضهم البعض بالتحلي بصفة التفاؤل، والابتعاد عن التفكير التشاؤمي، وتعظم الحاجة إلى التفاؤل في أوقات الأزمات والشدائد والابتلاءات والنكبات، فأوْقِدْ جذوةَ التفاؤل، وعِشْ في أملٍ وعمل، ودعاء وصبر، ترتجي بعضَ الخير، وتحذر من الشر.
ومعني التفاؤل هو توقُّع حصول الخير في المستقبل، وبضد ذلك المتشائم التي يتوقَّع حصول الشر.
ومن النصوص الدالة على مشروعية التفاؤل: قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ». قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية: «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ» رواه البخاري. وفي رواية: «وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ». قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» رواه البخاري.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما: (الفرق بين الفأل والطِّيَرة: أنَّ الفأل من طريق حُسْنِ الظنِّ بالله، والطِّيَرة لا تكون إلاَّ في السوء فلذلك كُرِهَت).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحبُّ أن يُستبشر بالخير، وكان ينهى قومَه عن كلمة (لو)؛ لأنها تفتح عمل الشيطان، فهي من أوسع أبواب التشاؤم، ويتَّضح ذلك في توجيهه صلى الله عليه وسلم: «اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» رواه مسلم.
وكان منهجه في التفاؤل يتجلَّى في تطبيقه لقول الله تعالى: ﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]؛ بل جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليأسَ من الكبائر؛ فلمَّا سأله رجل عن الكبائر؟ أجابه بقوله: «الشِّرْكُ بِالله، وَالإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله» حسن - رواه البزار.
إنَّ أعلى درجات التفاؤل هو التفاؤل في أوقات الأزمات، ولحظات الإنكسارات، وساعات الشدائد، فتَتَوَقَّع الخيرَ وأنت لا ترى إلاَّ الشر، والسعادةَ وأنت لا ترى إلاَّ الحُزن، وتَتَوقَّع الشفاءَ عند المرض، والنجاحَ عن الفشل، والنصرَ عند الهزيمة، وتتوقَّع تفريجَ الكروب ودَفْعَ المصائب عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يُولِّد مشاعر الرضا والثقة والأمل.
والتفاؤل له أسس يقوم عليها:
الأساس الأول: حُسن الظن بالله تعالى؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله بغير سبب مُحقَّق، والمسلمُ مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
وإنِّي لأدعو اللهَ حتى كأنّني
أرى بجميلِ الظنِّ ما الله فاعلُهْ..
أمُدُّ يدي في غير يأسٍ لعلّه
يجودُ على عاصٍ كمثلي يواصلُهْ..
والأساس الثاني: التوكل على الله تعالى: وهو من أسباب النجاح.
قال الشافعي ,رحمه الله:
تَوكلْتُ في رزقي عَلَى اللَّه خالقي..
وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكٌ
رازقي..
وما يكُ من رزقي فليسَ
يفوتني..
وَلَو كَانَ في قَاع البَحَارِ العَوامِقِ..
سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بفضلهِ..
ولو لم يكن مني اللسانُ بناطقِ..
ففي أي شيءٍ تذهبُ النفسُ حسرةً..
وَقَدْ قَسَمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلاَئِقِ..
والأساس الثالث: الصبر علي البلاء وعاقبة الصبر محمودة الأثر.
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يؤمله
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر.
ومن صفات المتفائل: أنه منبسط الأسارير، مشرق الوجه، واسع الصدر، مبتسم الثغر شعاره: الأمل، والنجاح، والسعادة، والانتصار، والارتقاء، والتعاون، والحب، والتوكل على الله تعالى، وحُسن الظن به.
وأعظم مصدرٍ للتفاؤل هو القرآن الكريم، الذي يمنحنا التفاؤل والفرح والسرور، ويعطينا الأمل: فمن أسرف على نفسه بالمعاصي ووقع في فخ الشيطان؛ فعليه أن يتدبَّر قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وسيشعر بالفرح والسرور، والبِشْر والحبور.
والذي خسر ماله؛ إذا قرأ الآيةَ الكريمة: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]، كيف سيكون أثرها عليه؟
وهذا الذي يدعو اللهَ تعالى، ولم يتحقَّق دعاؤه، إذا قرأ قولَه تعالى: ﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ فالخير قد يكون في الشر، والسعادة قد تكون في الشدة، والفرح قد يكون في الحُزن.
بل كل المصائب والشدائد إذا ما قُورنت برحمة الله وفضله هانت وتلاشت واضمحلت وزالت، قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157]. فتلك البشرى للمتفائلين الواثقين برحمة الله.
و الأنبياء - عليهم السلام - هم سادات المتفائلين، واقرؤوا - إنْ شئتم - قصصَ القرآن؛ لتروا التفاؤلَ بادياً في تعاملهم مع الأزمات والمحن، وقد ضرب يعقوب - عليه السلام - أروع الأمثلة في التفاؤل: فقد ادعى إخوة يوسف بأنَّ الذئب أكله، وابنه الآخَر اتُّهم بالسرقة وسُجِن، كما أخبروه، وعلى الرغم من مرور السنوات الطويلة إلاَّ أنه لم يفقد الأمل من رحمة الله تعالى، تأمَّلوا ماذا كان ردُّ فِعله؟ وبماذا أمر أبناءَه؟ قال لهم: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
والمتأمِّل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ يجدها مليئة بالتَّوكل على الله، وحُسنِ الظَّن به سبحانه - وهما أساسا التفاؤل، فلا عجب فهو إمام المتفائلين وسيدهم، ومن أوضح الأمثلة على ذلك:
لمَّا خرج صلى الله عليه وسلم لغزوة خيبر سمع كلمةً - من أحد أصحابه - فأعجبته، فقال: «أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ» صحيح - رواه أبو داود. أي: تفاءَلْنا من كلامك الحَسَن تيمُّناً به.
والتفاؤل سلوك ملازمٌ للنبي صلى عليه وسلم ومُتأصِّل فيه؛ حيث كان يتفاءل بالأسماء الحسنة؛ لِمَا لها من دلالة إيجابية على النفوس. ولما أتى المدينة كانوا يسمونها: (يثرب)، وهي كلمة ليست محمودة؛ فغيَّر اسمَها، وسمَّاها: (طابةَ)، أو سمَّاها:(المدينة)؛ وهذا هو عين التفاؤل.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما: «أَنَّ ابْنَةً لِعُمَرَ كَانَتْ يُقَالُ لَهَا: عَاصِيَةُ. فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: جَمِيلَةَ» رواه مسلم. فهذا الإسم هو المناسب لأنوثة هذه الفتاة.
وعن عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عن عَمِّهِ قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ» رواه البخاري ومسلم. فَعَل ذلك تفاؤلاً بتحوُّل حال الجَدْب إلى الخِصْب.
وفي (الحديبية) لمَّا جاء سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو يُفاوِض النبيَّ عن قريش، فتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، وقال: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ» رواه البخاري. فهذا تفاؤل مُسْتَوحى من المقام.
وتأمَّل حالَه صلى الله عليه وسلم وهو في (قَرْنِ الثَّعَالِبِ) يمشي مهموماً بعد أنْ طردَه بنو عبدِ يالِيلَ وآذوه ورجموه حتى أدموه، والملأ من قريش مصمِّمون على منع عودته إلى مكة، وقد جاءه مَلَك الجبال فقال: إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ، فأجابه صلى الله عليه وسلم - وكلُّه تفاؤل وأمل، وصبر، ورحمة، وبُعد نظر، واستشراف للمستقبل: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شيئاً» رواه البخاري ومسلم.
ومما يدل على تفاؤل النبي صلى الله عليه ما روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال:( بينَا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذْ أتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إلَيْهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: يا عَدِيُّ، هلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟ قُلتُ: لَمْ أرَهَا، وقدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ فإنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ لا تَخَافُ أحَدًا إلَّا اللَّهَ، - قُلتُ فِيما بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِي فأيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قدْ سَعَّرُوا البِلَادَ -، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلتُ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ؟ قَالَ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَن يَقْبَلُهُ منه فلا يَجِدُ أحَدًا يَقْبَلُهُ منه.....قال عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ لا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ، وكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ ولَئِنْ طَالَتْ بكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ ما قَالَ النبيُّ أبو القَاسِمِ: صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ)رواه البخاري.
ولكي يَصِلَ بنا التفاؤل إلى شاطئ السعادة والنجاح: لا بد وأن يقترن بالجدية وبالعمل الدؤوب، وبمزيد من السعي والفاعلية، وإلاَّ كان هذا التفاؤل مُجرَّد أمنياتٍ وأحلامٍ وضربٍ من الأوهام، فالإغراق في التفاؤل بدون عمل؛ يُعد هروباً من الواقع، وقراءةً خاطئة له.
ثمرات للتفاؤل
للتفاؤل فوائدُ وثمراث كثيرةٌ يانعة القطاف، لو علمناها لزال عنا كثير من الأحزان والهموم ولحطمنا التشاؤم، ومن أهم فوائد التفاؤل: أنه يجعلنا متوكِّلين على الله تعالى، ونُحْسِن الظن به سبحانه، ويبعث في نفوسنا الرجاء، ويقوِّي عزائمنا، ويُجدِّد فينا الأمل، ويدفعنا لتجاوز المِحَن، ويُعوِّدنا الإستفادة من المحنة لتنقلب إلى منحة، وتتحول المصيبة إلى غنيمة، ولا ننسى أنَّ التفاؤل شعبةٌ من شعب الإيمان، فالمؤمن يفرح بفضل ربه وبرحمته، ولو لم يفعل ذلك ويئس؛ فإن ذلك دليل علي ضعف الإيمان، ويمنحنا التفاؤل القدرةَ على مواجهة المواقف الصعبة، واتخاذ القرار المناسب، ويجعلنا أكثرَ مرونةً في علاقاتنا الاجتماعية، وأكثرَ قدرةً على التعايش مع الناس؛ لذا ترى الناسَ يُحبون المتفائلين ويخالطونهم، وينفرون من المتشائمين.
ومن الفوائد العظيمة للتفاؤل: أنه يمنحنا السعادة، سواء في البيت، أو العمل، أو بين الأصدقاء والأحبة؛ بل إن الدراسات العلمية المعاصرة تربط بين التفاؤل، وبين الصحة النفسية والعقلية والبدنية، ومن هنا كان التفاؤل من أعظم أسلحة الإنسان التي يتسلَّح بها من جميع الأمراض البدنية والأوبئة النفسية، والعقلية، والقلبية.
والمتفائلون سرعان ما يبرؤون من أمراضهم؛ مقارنةً بغيرهم من المتشائمين، ويقال: إنَّ التفاؤل مريح لعمل الدماغ: فالطاقة المبذولة من الدماغ -لحظة التفاؤل - خلال عشر ساعات؛ أقل بكثير من الطاقة المبذولة - لحظة التشاؤم - لمدة خمس دقائق.
فيجب أن نربي أنفسنا على التفاؤل في أصعب الظروف، وأقسى الأحوال، فهو منهج لا يستطيعه إلاَّ أفذاذ الرجال.
والمتفائلون هم الذين يصنعون التاريخ، ويسودون الأمم، ويقودون الأجيال.
أمَّا اليائسون والمتشائمون، فلن يستطيعوا أن يبنوا حياةً سوية، وسعادةً حقيقية في داخل ذواتهم، فكيف يصنعونها لغيرهم، أو يُبَشِّرون بها سواهم؟ وفاقد الشيء لا يعطيه.
فَلَا تَجْزَعْ وَإِنْ أُعْسِرْتَ يَوْمًا
فَقَدْ أَيْسَرْتَ فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ
وَلَا تَيْأَسْ فَإِنَّ الْيَأْسَ كُفْرٌ
لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِي عَنْ قَلِيلِ
وَلَا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سُوءٍ
فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
وإن العسر يتبعه يسار
وقول الله أصدق كل قيل.
[٢٠/٦ ١٠:٠٥ ص] د.: لا تتشاءموا بالشر فتجدوه
دكتور عادل المراغي/أكاديمي وأديب مصري
لا شك أن ظاهرة التشاؤم مرض إجتماعي عضال وداء قتال وهو دليل علي الإحباط واليأس ،وكان هذا المرض منتشراً عند العرب في الجاهلية،وكانت الفرس والعرب من أكثر الأمم تشاؤما، فجاء الإسلام فوكزه وقضي عليه، ونهي عن التلفظ بكلمة تحمل معني التشاؤم.
قال عكرمة:كنا جلوسا عند ابن عباس رضي الله عنه فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم:خير!فقال ابن عباس:لا خير ولا شر، ولنعم ما قال الشاعر لبيد:
لَعَمْرُكَ ما تَدري الضَّوَارِب بالحصَى
وَلا زاجِراتُ الطّيرِ ما اللّهُ صانِعُ
سَلُوهُنَّ إنْ كَذَّبتموني متى الفتى
يذوقُ المنايا أوْ متى الغيثُ واقِعُ
ومن أسوأ أنواع التشاؤم ما حدث من الوليد بن يزيد بن عبد الملك أنه فتح المصحف فخرج قوله تعالي : ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) ، فألقاه ورماه بالسهام وأنشد:
تهددني بجبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى قتل وعلق رأسه علي قصره ثم علي سور المدينة،وكان شؤمه عليه.
ومن الشواهد الملموسة أن البلاء محاط باللفظ والقدر موكل بالمنطق، فقد تتكلم بكلمة فيكتبها قلم القضاء في صحيفة قدرك، وكم رأينا من أناس سيق إليهم البلاء بما سبقت به ألسنتهم، وكم من كلمة بعثت جيوش التشاؤم وجنود اليأس،وكم من كلمة حملت ألوية النصر وأرسلت كتائب الأمل.
احذر لسانك أن تقول فتُبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
وقال آخر:
لا تنطقن بما كرهت فربما
عبث اللسان بحادث فيكون،
ولقد جاء التحذير من النطق بالسوء، أو أن يستفتح الإنسان على نفسه بِشَرٍّ، أو أن يتشاءم بأمر، ويطلق ذلك في مقاله ونطقه؛ حتى لا يُبتلى به، وأن يحسن انتقاء ألفاظه، ويختار الكلمات الحسنة الجميلة التي تدعو إلى التفاؤل وتنشر عبير الأمل والتي تحمل دلالات طيبة، وتحمل روح البشرى، فربما تكلم الإنسان بكلمة كتبها قلم القضاء عليه وكانت حتماً مقضيا.
ومما يدل على خطورة الكلمة في قضاء الإنسان وقدره ما روي عن امرأة فرعون أنها لما وجدت موسي عليه السلام في التابوت قالت لفرعون: ( قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) فرد فرعون: قرّة عين لك, أما لي فلا.
قال محمد بن قيس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ قَالَ فِرْعَوْنُ: قُرّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكِ, لَكَانَ لَهُمَا جَمِيعًا)أي لهدى الله فرعون وجعل موسى قرة عين له ،ولكنه اعترض فانطرد وأشقاه لسانه ،فلو سكت لهداه الله.
وفي هذا المعني روى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي أنه قال: “إِنِّي لأَجِدُ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِالشَّيْءِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ؛ إِلاَّ مَخَافَةَ أَنِ أُبْتَلَى بِهِ) .
من “الصمت وآداب اللسان”
فالحذر من عاقبة اللسان، و ربما نطق الإنسان بما يكون فيه بلاء ووباء، فإن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه في يوسف: ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ) [يوسف: 13]، جاؤوا إليه عِشاءً وقالوا: أكله الذئب، فابُتليَ من ناحية هذا القول، ولمَّا قال لهم في أخيهم بنيامين عند سفرهم إلى مصر: ( لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ )[يوسف: 66]، أُحيط بهم وغُلبوا عليه، ورجعوا إليه من غيره، ويوسف عليه السلام لما قال في محنة امرأة العزيز: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، سُجِن ولبِث في حبسه بضع سنين.
• وفي صحيح الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجلٍ يعُودُه، فقال: (لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله)، فقال: “كلا، بل حُمَّى تفور، على شيخٍ كبيرٍ، كيما تُزِيرَه القبورَ”، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فنعم إذًا).
وعند الطبراني وغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: (أمَّا إذا أبيتَ، فهي كما تقول، وقضاءُ الله كائن)، فأصبح الأعرابي ميتًا.
قال الشاعر:-
لا تمزحن بما كرهتَ فربما
ضرب المُزَاح عليك بالتحقيقِ..
•مفهوم التشاؤم•
لم يرد لفظ التشاؤم في القرآن الكريم، بل جاء ما يدل عليه في بعض الآيات الكريمة بالمعنى نفسه وبسياقات متنوعة، لذا لا بد أن نبين معنى التشاؤم.
*التشاؤم في اللغة: مصدر شئم، والشؤم: خلاف اليمن، يقال: رجل مشؤوم على قومه، أي: غير مبارك، والجمع مشائيم، وتشاءم القوم به مثل تطيروا به، ويقال: شؤم الدار: ضيقها وسوء جارها، نذير شؤم: علامة وقوع مكروه، ما ينبئ بِشَرٍّ ويبعث على الخوف، والتشاؤم: توقع الشر.
*ثانيًا: المعنى الاصطلاحي.
عرفه الحليمي: بأنه سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، أو هو توقع حدوث الشر أو المكروه من شيء ما تراه أو تسمعه وتتوهم وقوع المكروه به ويكون وجوده سببًا في وجود ما يحزن ويضر، «ويأتي بمعنى تشاؤم الإنسان بشيء يقع تحت المناظر والمسامع مما تنفر منه النفس مما ليس بطبيعي، فأما نفارها مما هو طبيعي في الإنسان كنفاره من صرير الحديد وصوت الحمار فلا يعد من هذا، وأصله في زجر الطير.
ويتضح من المعنى اللغوي والإصطلاحي أن التشاؤم: حالة نفسية تلازم بعض الناس، وتبعث في نفوسهم اليأس وعدم الرضا بقدر الله
و الشؤم في كلام العرب: النحس"، وفي اصطلاح أهل الشرع لا يختلف المعنى كثيراً، فإنه يعني عندهم توقّع حصول الشرّ مطلقاً، والإمام ابن حجر يُفسّر الشؤم بقوله: " التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق".
أما التطيّر فهو مأخوذ من الطِيرة بفتح الياء وتسكينها أحياناً، والمقصود به التشاؤم من الأشياء، كما قال ابن منظور في لسان العرب: " والطيرة بكسر ففتح والطيرة بسكون الياء ما يتشاءم به من الفأل الرديء، وفي الصحاح : تطيّرت من الشيء وبالشيء، واطّير معناه : تشاءم وأصله تطيّر . وقيل للشؤم : طائر وطَير وطِيَرة"، وأما عند أهل الشرع فهو كما عبّر عنه الإمام القرطبي: " الطِيَرة : أن يسمع الإنسان قولاً ، أو يرى أمرًا يخاف منه ألا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله"، وجاء في شرح صحيح مسلم للإمام النووي:" والتطير التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي"، ومبنى العلاقة بين كلمتي " الطيرة والتطيّر" هي العلاقة السببيّة، ووجه ذلك كما قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى : " التطير هو الظن السيء الذي في القلب , والطيرة هي الفعل المرتب على الظن السيء "، ويفيدنا صاحب الكشّاف باستعمال الطيرة عند العرب في الخير والشرّ جميعاً، ثم غلبة استعمالهم لهذه اللفظة في الشرّ : " الفأل والطيرة قد جاءا في الخير والشر ، واستعمال الفأل في الخير أكثر، واستعمال الطيرة في الشر أوسع".
والأصل في لفظة "الطيرة" ما كان يفعله العرب قبل بزوغ فجر الإسلام من عادة زجر الطير، وحاصلها أن المشرك إذا أراد السفر بكّر إلى أوكار الطير فهيَّجها، فإن ذهبت عن يمينه تيامن وتفائل واستبشر خيراً ثم مضى في سفره، وإن ذهبت عن شماله تشاءم، وردّه ذلك عن إمضاء أمره.
و الشؤم تراث ضخم في حياة البشرية كلها، ولكل شعب من الشعوب -كما تحكي كتبهم- تاريخ طويل من التشاؤم؛ تشاؤم بالأرقام كما يتشاءم الإنجليز وغيرهم بالرقم ثلاثة عشر، ويستبعدونه حتى في الطائرات وغيرها.
التشاؤم بالحيوانات، كالقطط السود والكلاب السود.. أو غيرها، أو بالنباتات كما كان العرب يتشاءمون بالسفرجل أو بالسوسن، أو بالأشكال كما يتشاءمون بلون السواد، وهذا نوع من العنصرية في الألوان!!
أو كما يتشاءمون من الأعور أو الأعرج.. أو غيرهم.
التشاؤم من الأسماء؛ حتى إن القلوب المريضة بالتشاؤم قد تقلب الاسم الجميل قبيحًا وتتشاءم به، كما يقال عن ابن الرومي أنه جاءه غلام يدعوه فقال: ما اسمك؟ فقال: إقبال ، فتشاءم وقال: لا أذهب. قالوا له: لم؟ قال: لأن نقيض اسم إقبال وعكسه: لا بقاء!
يتشاءمون من الأجواء.
قـال السمـاءُ كئيبـةٌ وتجهمـا
قلت ابتسم يكفي التجهمُ في السما..
يتشاءمون من الأحلام التي يرونها في المنام؛ فتسيطر على يقظتهم وتؤثر في نفسياتهم وفي قراراتهم.
يتشاءمون من العقبات والعوائق التي قد تعترض طريقهم؛ فإذا وجد الإنسان مشكلةً في بداية عمله أو دراسته أو حياته الزوجية أو سكنه في المنزل الجديد أو علاقته الشخصية مع فلان أو فلان؛ تشاءم منها وظن أن الطريق كله طريق شائك شاق، ونسب الأمر إلى حسد أو عين أو سحر، وأي خلاص أو سعادة لإنسان يحسُّ بأن الشر ممنوح له ينتظره في كل مكان؟
ويقول رسولنا الكريم كذلك: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر».
والطيرة بكسر الطاء وفتح الياء لغة: التشاؤم بالشيء، ومصدره: تطير وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها، والتطير أي التشاؤم بنعيق غرابها، فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها. التشاؤم سمة للأمم الكافرة: والتشاؤم عادة سيئة لا تصلح لأمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهي أمة التوحيد، بل هو من عادات الأمم الكافرة فيقول ربنا عز وجل في قصة ثمود وتشاؤمهم بنبيهم المبعوث إليهم صالح ـــ عليه السلام: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ) (سورة النمل الآية 47) معناه ما أصابكم من خير وشر فمن الله، ومعنى اطيرنا تشاءمنا، وهو في الأصل تطيرنا، فأجابهم الله تعالى فقال: طائركم معكم، أي شؤمكم معكم، وهو كفرهم.
والمؤمن لا يتشاءم وقد نجد في عصرنا الحالي أن بعض الناس يربط حياته ومستقبله باعتقادات وتصورات جاهلية بعيدة كل البعد عن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف صاحب العقيدة السمحاء الفريدة من نوعها، والمتميزة بشمولها وبساطتها ووضوحها، لأنها عقيدة ربانية، أودعها الله تعالى في أرضه لتستنير البشرية بنورها، وتحتمي بعدلها، تلبي رغبات وحاجات وطبائع البشر، وتعطي الفكرة الكاملة عن الكون وحقيقته، وتوضح أي تساؤل قد يتبادر إلى الذهن بخصوص ذلك..
*التشاؤم عند العرب
وتخبرنا كتب التراث الشعري عند العرب عن حالة تاريخية نافرة في التطير وهي حالة الشاعر ابن الرومي، الذي اقترب من الانغلاق. فكانت حياته مضطربة، وخضع للوهم والخوف بسبب ما أصابه من نكبات وويلات وحوادث مأسوية في حياته.
فأصبح يتوقع السوء دوماً، ويعتقد أن الحياة وجود خاطئ، كأن يتشاءم من الأسماء والأشخاص وغيرهما، ويشعر بأنه "منحوس" قليل الحظ.
وفي إحدى قصائده يقول: "
قرَبت رجلاً رغبةً في رغيبةٍ
وأخرَت رجلاً رهبةً للمعاطب..
وينذر بيت الشعر بالتردد والخوف من الإقدام على عمل ما ،فهو كان حالماً يخرج من منزله ويرى امرأة "غير محجبة" يعود أدراجه. فأمضى كل حياته متطيّراً متشائماً.
[٢٠/٦ ٩:٥٩ م] د.: أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ
دكتور عادل المراغي / أكاديمي وأديب مصري
كلمات زاهرات نيرات قالها نبينا صلى الله عليه وسلم للأنصار أصبحت مثلاً سائرا عبر الأزمنة والدهور، وهي تكشف عن منهج نبوي كريم في التفاؤل بالخير، ورجائه، والتبشير به مهما أظلمت الدروب وادلهمت الخطوب. والمتأمل لحياته صلى الله عليه وسلم وسيرته وأقواله وأفعاله؛ يلحظ أنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التفاؤل بالخير، والإستبشار والتبشير به؛ فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْفَأْلَ الْحسَنَ ، وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ». والطِّيَرَةَ: هي التشاؤم بالشيء.
وعند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «... وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ» ، وعند البخاري: « وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ؛ الْكَلِمَةُ الْحسَنَةُ»
ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضاً يقول له: «لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ الله» رواه البخاري، وكان من هديه إذا أتاه رجل وله اسم لا يحبه ؛ لكراهة لفظه أو معناه عقلاً أو شرعاً غيّره إلى ما يحبه؛ كما فعل في اسم حرب، ومُرّة، وغيرهما، يقول المناوي رحمه الله تعليقاً على ذلك : « لأنه كان يحب الفأل الحسن، ويعدل عن اسم يتقبحه العقل، وينفر منه الطبع» [التيسير بشرح الجامع الصغير (2/458)].
ويقول ابن بطال رحمه الله :« كان -صلى الله عليه وسلم- يعجبه تغيير الإسم القبيح بالإسم الحسن على وجه التفاؤل والتيمن؛ لأنه كان معجبا بالفأل الحسن، وقد غيّر رسول الله عدة أسامي» [شرح صحيح البخاري (9/347)].
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم حبّ التيمّن في تنعله وترجله وطهوره وفي كل شأنه ؛ قال الحافظ ابن حجر:« قِيلَ: لأَنَّهُ كَانَ يُحِبّ الْفَأْل الْحسَن؛ إِذْ أَصْحَاب الْيَمِين أَهْل الْجنَّة» [فتح الباري (1/269)].
وكان يقول : « غِفَارُ غَفَرَ الله لهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا الله» [رواه البخاري ومسلم].
ولما جاءته امرأة من أهل المدينة قد رأت رؤيا محزنة؛ إذْ فيها إشارة إلى وفاة زوجها في سفره، وإلى ولادتها غلاماً فاجراً ـ وكانت حاملاً ـ فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأوّلها لها تأويلاً حسناً؛ فقال: «خَيْرٌ؛ يَرْجِعُ زَوْجُكِ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى صَالِحًا، وَتَلِدِينَ غُلاَمًا بَرًّا, فَكَانَتْ تَرَاهَا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ تَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهَا, فَيَرْجِعُ زَوْجُهَا وَتَلِدُ غُلاَمًا» [رواه الدارمي بإسناد حسن].
وكان يقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : «إِذَا عَبَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِ الرُّؤْيَا فَاعْبُرُوهَا عَلَى الخيْرِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا تَكُونُ عَلَى مَا يَعْبُرُهَا صَاحِبُهَا» [رواه الدارمي بإسناد حسن]، وغير ذلك كثير مما يدل على حبه صلى الله عليه وسلم للتفاؤل وحثه عليه .
حتى في أصعب اللحظات والمواقف التي مرّت عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، تراه عليه السلام متفائلاً بالخير، مؤملاً له ومستبشراً به، ومبشراً أصحابه به، يربّيهم ويعلّمهم أن مع العسر يسراً، وأن الفرج مع الشدة، وأن رحمة الله قريبة من المحسنين، ولك أن تتأمل موقفه في الهجرة، وهو مع صاحبه في الغار، وقد أحاط بهما كفار قريش؛ ووقفوا على المكان الذي يختبئان فيه؛ حتى قال الصدّيق للنبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا» فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بكل ثقة ويقين وحسن ظن في الله عز وجل قائلاً: « مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» [رواه البخاري ومسلم].
ما أقواها من كلمات، وما أدلّها على الثقة وحسن الظن في خالق الكون ، وما أعظمها من تربية على ذلك .
وفي غزوة الأحزاب، لما رمتهم العرب عن قوس واحدة؛ فجمعوا جموعهم، وحزّبوا أحزابهم، والتفوا حول المدينة، عازمين على إبادتها، واجتثاث أهلها، والقضاء على بيضة الإسلام فيها، وكان الحال كما وصف الله عز وجل: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 10،11]. كان صلى الله عليه وسلم-والحال هذه- يبشر أصحابه بمُلْك الشام وفارس واليمن؛ فيقول -وهو يكسر الصخرة التي عرضت لهم في حفر الخندق-: «الله أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، والله إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا .
ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحجَرِ فَقَالَ : الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَالله إِنِّي لأُبْصِرُ الْمدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحجَرِ فَقَالَ : الله أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَالله إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا». [رواه أحمد والنسائي في الكبرى وحسّن إسناده الحافظ في الفتح (3/397)، وضعفه جماعة].
إن ذلك نابع من حسن الظن بالله والثقة فيه، واعتقاد أنه سبحانه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، بيده مقاليد الأمور، سبحانه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له : كن، فيكون، فلا يأس، ولا قنوط، ولا استسلام للهموم والأحزان، بل تفاؤل بالخير واستبشار به، ومقارعة لهذه الهموم وتلك الأحزان ، ورحم الله القائل:
يا صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ ..
أبشِر بخيرٍ فإنَّ الفــارج الله..
اليأس يقطع أحياناً بصاحبـه ..
لا تيأسنَّ فإنَّ الكافـــي الله.. الله يُحدِث بعد العسر ميسـرة..
لا تجزعنَّ فإن القاســـم الله..
إذا بُليت فثِقْ بالله وارضَ بـه ..
إنَّ الذي يكشف البلوى هو الله .
واللهِ ما لكَ غير الله من أحـدٍ ..
فحسبُــك الله في كـلٍ لك الله..
حتى في آخر لحظات العمر، والإنسان مقبل على الآخرة ولقاء الله عز وجل، كان أمره الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات، أن يستبشر بلقاء الله، وبرحمته وبكرمه؛ فيقول: « لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِالله الظَّنَّ» [رواه مسلم].
إن هذا المنهج النبوي الكريم ما هو إلا تطبيق لمنهج القرآن العظيم، وسيرٌ على خطى الأنبياء والمرسلين في عدم اليأس والقنوط لاسيما عند نزول الشدائد وحصول المصائب، بل الفرح والاستبشار وحسن الظن بالله عز وجل؛ فحينما خاطبت الملائكة إبراهيم عليه السلام -وقد بشرته بغلام عليم- قائلة: ﴿ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحقِّ فَلا تَكُنْ الْقَانِطِينَ﴾؛ أجابهم في عزم ويقين: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 55،56].
وحينما أرسل يعقوب أبناءه للبحث عن يوسف وأخيه في مصر قال لهم: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]. قال قتادة: ﴿مِنْ رَوْحِ الله﴾ أي من رحمة الله، [انظر: تفسير الطبري:16/233]. وكانت العاقبة كما هو معلوم.
ولما أتبع فرعون وجنوده موسى عليه السلام وقومه، وقال قومه له: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ كان جوابه قاطعاً؛ حيث قال: ﴿ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 61،62]، وكانت العاقبة أيضا كما هو معلوم، وصدق الودود الغفور إذْ يقول في الحديث القدسي: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي» [رواه البخاري ومسلم].
كم هي رائعة تلك الشريعة التي تحث أصحابها والمنتمين لها على التفاؤل دائماً، والإستبشار بالخير، ورجائه، ومطاردة الهموم والغموم، ومقارعة الأحزان، حتى في أحلك المواقف، وأصعب الظروف، والذي يتأمل نصوصها يجد ذلك واضحاً جلياً، وما أسلفناه إنما هو غيض من فيض.
لكن مع ذلك نقول: لابد من الأخذ في الإعتبار، الأخذ بالأسباب التي تدفع الأذى، وترفع البلاء؛ من إحداث توبة وإقلاع عن معصية، ودعاءٍ، واستغفار، وتقوى، وعمل صالح، وتداوٍ، وأخذ بأسباب النجاح والفلاح والنصر، وتصورٍ للأمور على حقيقتها؛ لدفع ضررها والانتفاع بخيرها... إلخ .
فليس من اللائق أن يُحْسن العبد الظن بخالقه ويرجو رحمته وكرامته، وفي الوقت ذاته هو مقيم على معصيته، منتهك لحرماته،ومعتد على قدسية أوامره، أو كسول متخاذل، مهمل للأسباب التي شرعها الله عز وجل وأمر بالأخذ بها، فهذا ليس تفاؤلاً، بل هو جهل بالله عز وجل وشرعته وسننه الكونية؛
فقد قال ربنا عز وجل عن يونس عليه السلام: ﴿فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 143، 144]. وقال أيضاً: ﴿ فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98]. وكما قال معروف الكرخي رحمه الله: (رجاؤك رحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق.)
إذا دهمتك مصائب الحياة, وضاقت عليك الأرض بما رحبت, فتذكر أن لك ربًّا يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء, (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَ إِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].. وتذكر أن بعد الشدة فرجًا.
إذا وقع بك يومًا البلاء, وضاق بفُسحة العيش الفضاء, فتذكر أنك لست أولَ من عانى مثلَه, وقد ابتلي قبلك أقوام فزال البلاء.. وذهبت الشدة وجاء الفرج.
هذا يوسف -عليه السلام-, أُلقي في غيابة الجب, وبيع بثمن بخس دراهم معدودة, ثم اتُّهِم في عرضه, وسجن ظلمًا, ضيق بعد ضيق, وشدة بعد شدة, لكن العاقبة: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 21]… فاعلم أن ما بعد الشدة إلا الفرج.
وهذا يعقوب -عليه الصلاة والسلام-, يُخطف منه أحب أولاده إليه, وآثرهم لديه, ثم يتبعه إبنه الثاني بعد سنين, فعَمي من كثرة البكاء والحزن على فقد ولديه، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84], وبعد سنوات من الشدة والبلاء يعود له الولدان, (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [يوسف: 96].
وهذا يونس -عليه السلام- يُلقى من السفينة, إلى بحر متلاطم الأمواج, فالتقمه الحوت, ففتح عينيه, فإذا هو حيٌّ في ظلمة بطن الحوت, في ظلمة البحر, في ظلمة الليل, ظلمة وسط ظلمة وسط ظلمة (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87], قال الله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
وهذا أيوب -عليه السلام- يطول به البلاء, وتنتشر في جسده الأمراض والأدواء, ويطول به الأمر حتى هجره الناس, وهجره أخيرًا أهله وزوجه, هجروه وتركوه, (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 89] قال الله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 90].
وهذا زكريا -عليه السلام-, طال عيشه ولم يرزق بالولد, كبر سنه, ورَقَّ عظمه, وهَزُل لحمه, واشتعل رأسه شيبًا, لكنه ما فتئ يدعو ربه, (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 38].. نعم.. لقد علموا أن بعد الشدة فرج.
وهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يهاجَم من كفار قريش وصناديدها, ويُتهم في عقله, يشاع أنه ساحر.. كاهن.. مجنون.. يصلي عند الكعبة فتلقى على عنقه الأوساخ والقاذورات, ثم يخرج من مكة طريدًا, فيتبعه الكفار ويقاتلونه في عدة معارك, يشج رأسه, وتُكسر رَباعيته, وفي النهاية يدخل مكة فاتحًا متواضعًا, فيعفو عن كفار قريش, ويقول لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء, وبعد الشدة يكون الفرج.
وكم لله من لطف خفيٍ
يدق خفاه عن فهم الذكي
وكم من يُسر أتى من بعد عُسر وفرَّجَ لوعةَ القلب الشجي
وكم من هم تساء به صباحاً
فتَعقُبُه المسرة بالعشي
إذا ضاقت بك الأسباب يوماً
فثق بالواحد الأحد العلي
وكانت العرب تقول "دوام الحال من المحال", ويقولون: "اصبر تنل", ويقولون: "كل هم إلى فرج".
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
إذا أُصبت بمصيبة, أو نَزَلَت بك نازلة, فتذكر أن أصعب ما في المصيبة أولُها.. ثم تهون.. وتذكر أن وقت الشدة سيزول ويذهب, وأن الصبر عند الصدمة الأولى.
حكوا أن ملكًا من ملوك الهند طلب من وزير له أن ينقش على خاتم له جملة, إذا قرأها وهو حزين فرح, واذا قرأها وهو سعيد حزن, فنقش الوزير: "هذا الوقت سوف يمضي"!
دع الأيام تفعل ما تشاء
وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي
فما لحوادث الدنيا بقاء


Post A Comment: