يضع كلتا يديه على رأسه، يرفع راحيته قليلا ليترك أطراف أصابعه وحدها تتلمس نقاط رأسه المختلفة، وكلّما لامست منطقة ضغط متلفّظا بكلمات،
أقلام، ألوان، أوراق، قماش، روائح...
تلك الصّبيحة كان على موعد مع الشّاطئ، أين أراد أن يستمتع بقليل من الاستجمام، لكنّه استدرك:
ما فائدة البحر دون أن أتأمّل شاطئه والموج يضحك على ذقنه فيرتوي الرّمل ليصبح أكثر ثقلا، ما أروع أن نكون في وزن الرّيشة !
صبيحة تستأنس الشّمس فيها بالأرصفة التي تصافحها عصاه البيضاء، يرفعها ثم يضعها في خفّة ملفتة، يهزّها يسرة ويمنة وهو يتبع صوت نقرها على الأرض، تلك هي الموسيقى التي درج على سمفونيتها كل يوم. البحر ملآن يعجّ بالنّاس الذين يغسل الموج عيونهم، ويريهم من خفايا أنفسهم ما يجهلون، يتحرّكون كما لو كانوا في بطون أمّهاتهم، هكذا داعبته أفكار عابرة ما لبث أن طردها وهو يلامس البحر بأنفه:
إذا هكذا حين تختفي حاسّةٌ لا بد وأن تلعب دورها أخرى..
غرس فوق رأسه الشّمسية وساعده في فرش البشكير على رمل غير مبلّل، كان يقول دوما بأنّ ما يُثقل يَقتل:
ما أخفّ وزن الرّيشة.. ثم حرّك عينيه الجاحظتين وفمه المتبسّم كفتحة مشرط شدّت جوانبها بماسك ثمّ وجّه رأسه صوب مؤجّر الشّمسية.
التقط سمعه صوت شاب ينادي:
شاي.. لوز... كاوكاو..
نادى عليه، وبسرعة خاطفة نزل على ركبتيه متوازنا حتى لا يختل وضع البرّاد والكؤوس التي تعوم في سطل كبير يسمع قرعها عند الحركة، سكب له الشّاي، ومدّ الكأس بعناية تامّة حتى لا ينفلت من يد الأعمى، ولمّا تأكد من الإمساك به فلت يده ملوّحا بها لسخونة المشروب. سمع وَحْوَحَته
الشّاي إذا لم يؤخذ ساخنا، كوكاكولا أفضل منه.
لماذا لا تبيع القهوة أيضا؟
لأنّ البحر مختلف عن المقهى..
وما دخل هذا بذاك؟
مثلا أنت هل تعرف اللون الأخضر أم تحسّه؟
أوّل مرّة أنتبه إلى هذا الذي تقول، فعلا ما هو لون اللون الأخضر؟
إذا، نحن نختلف عن بعضنا وكذلك الأماكن.. نبيع الشّاي في البحر، وأيضا سوف يمرّ أمامك من يبيع القهوة...
رنّ هاتف بائع الشّاي، مدّ يده مسرعا إلى جيبه، فكاد الإبريق أن ينزلق. لوى يده بسرعة فمسك توازنها. قام ببطء واضعا يده على أذنه، وأخذ يتحرّك في خطى متسارعة. تناهى مبتعدا كالصّدى إلى سمع الأعمى:
البارحة كانت مناوبتي..
تحسّس يده، كانت تمسك بالكأس:
لقد نسيها..
مرّت لحظات وإذا بيد تحرّك رجله. اتكأ على مرفقه ورفع نصف جسمه الأعلى محاولا التركيز في جهة اليد. رشق عينيه في الأعلى ورأسه يتحرّك قريبا من الاهتزاز في مستوى خط اليمين واليسار، بيده الأخرى أخذ يتلمّس جهة اليمين أين وضع نظارته، ناولها إيّاه الشاب، بسرعة كسا عينيه سواد مرآوي، مسك الشاب يده وأقعده:
نسيت كأسك وانصرفت..
يقال أنّ ذاكرة العميان قوية، لأنّهم يحتاجون أكثر إلى الاحتفاظ بالأثر..
ليس أثرا، إنّنا نحتفظ بندوب جروحنا، كلّما لم نستطع أن نرى شيئا ينفتح جرح، يندمل وتبقى الندبة مستمرّة تذكرنا جراح عجزنا عن الرؤية. نذهب ونأتي، نغيب ونحضر ولا نجد في الأخير سوى ندوب جراحنا، هي تلك صور الأشياء التي نعرف بها العالم.
ضحك الشاب ولم ينس أن يحرّك القطع النّقدية في يده. بنباهة شفّافة استقبل صوت السّرسرة. رفع يده جهة جيبه الأعلى وأخرج ورقة نقدية، وقبل أن يوجّهها نحو الشاب، بادره قائلا:
لم أقصد ما فهمته، ولكن أحببت أن أترك لك أثرا آخر من عالم المبصرين.
قل ندبة أخرى، ولكن أخبرني ماذا تشتغل؟
ممرّض بمستشفى الولادة.. البارحة تسبّب خطأ طبي في عمى صبيّ، لذلك، تركتك يجرّني القلق إلى هناك لأثبت أنّني لم أكن ضمن فريق المناوبة.
كيف كان ذلك؟
- دخل أحد أعضاء الفريق الطبي إلى قاعة العمليات ناسيا السّيجارة معلّقة بين شفتيه، في نفس اللحظة التي كان المولود معلقا برجليه بين يدي الطبيب الذي استشاط غضبا بعد أن كانت يده مصوّبة بالضربة التي تحرّك الحياة في عروق الصبي، انفلتت منه أعصابه ولوّح بيده التي تمسك المولود فسقط على حافّة طاولة الولادة، مما تسبّب في فقدانه البصر.
من التقارير الإعلامية.. ساد بعد ذلك قاعة الولادة صمت رهيب، إذ صرخ الطفل مرّة واحدة وسكت، تمّ نقله على إثرها إلى الإنعاش، وحوّلوا فريق المناوبة إلى التحقيق، ليلتها لم ينم المستشفى، بات بين حزن وفرح، حيث الحياة استمرّت بمولودين آخرين وفريق طبي بديل.
في الصّباح، ولمّا يتحوّل العالم إلى بياض في عينيه المخفيتين تحت نظارة سوداء، يضرب على جيبه الأيسر، يُخرج قضيبا أبيضا أسطوانيا صغير القطر، يضغط على زرّ أعلاه فيتمدّد، ثمّ يضغط ثانية على الزر فينكمش، حينها يتوكل على الله ويضغط ثالثة، يستطيل، إنّها عصاه التي ترى ما لا يراه، لقد راودته فكرة العصا المبصرة، وكيف يأخذ جمادٌ بيده وهو الإنسان، صبّ جام غضبه على الرّقمنة التي لم تستطع أن تصل إلى عين رقمية، ولعن الاستنساخ الذي ما زاله جاهلا بكيفية زراعة نسيج حي لعين رائية. استبدّ به الوهم وصار إلى "مركز الرّؤية بالقلب"، هكذا كانوا يطلقون على النّادي الذي يجتمعون فيه، قَلِقًا بحث عن رضوان، ليكتب له رسالة إلى طبيبهم الاستشاري عبر النت، ألماني في البقعة الشمالية من العالم، عميق الإحساس بندوب "المبصرين بالبياض"، كان يقول أنّ العمى هو الإبصار بطريقة أخرى، ثمّ كان يفكر بصوت مرتفع:
كيف يبصر العميان؟
كتب له بحلمه بعين مستنسخة، العلم لا بد أن ينقذ البياض من براثن الظلمة. بعد سنوات خرج الطبيب على العالم باكتشاف عين رقمية ولكن عند تجريبها، كانت تظهر على اللوح الإلكتروني أسماء غريبة لا عهد لهم بها.
نقلت حروف براي أخبار الاكتشاف الجديد إلى "المبصرين بالبياض"، ولمّا أدرك الخبر لم يتفاجأ كما الآخرين بل طلب من رضوان أن يساعده على الوقوف على الطاولة، ولمّا امتدّت قامته في الأعلى أشار بيده إلى صدره مردّدا:
"أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي..".. صدقت العين الرّقمية..


Post A Comment: