‏من أكثر الأشياء التي أدرّب نفسي عليها فكرة الإنصات حين يتحدث الآخر، فمقاطعة شخص لي عند المحاورة شيء يشعرني بالانزعاج الشديد، لكني ألاحظ أن هذا العيب الحواري بالغ السوء، قد أكون متلبسًا به أحيانًا من حيث لا أشعر حين يتحدث شخص فأجدني أقاطعه.

أعجبني عنوان لطيف لأحد الكتب -أنصت يحبك الناس- وهو حقيقي جدا، لأنه ما من شيء أكثر ملامسة لقلب أحدهم سوى شعوره بأنك تمنحه من وقتك لتستمع إليه، فمجرد الإنصات يعني أنك سبيل لتخففه مما علق في قلبه من هم وحزن أو حتى فرح، أنت بذلك تفتح مغاليق قلبه وتكسر الحواجز بينك وبينه وتقربه منك.

وعلى العكس لا يستفز أحد ويثير نفوره، سوى أن تشعره بأن حديثه ليس مهما بما يكفي لتعره سمعك،  تطقطق بهاتفك حين يتحدث وتشرّق عينك وتغرّب ولا تحتضن حديثه بتقدير!

أكثر الأمراض النفسية وحالات الاكتئاب سببها حاجة المريض إلى الكلام، ولأنه لا يصادف تلك الأذن التي تنصت لأوجاعه، فالجميع يريد أن ينصح ويتفلسف، لكن لا أحد يريد أن ينصت أو يدرك أن الإنصات للمتعب رواح له!

في اللغة الألمانية يأتي الفعل في أكثر الحالات على خلاف اللغات الأخرى في نهاية الجملة، وهذا يضطرك للانتظار حتى ينتهي محدثُك من جملته وتفهم بالضبط ما يريد أن يقول. لذلك من فضائل تلك اللغة تعلم الصبر والإنصات.

الإنصات أدب وفن وخلق منسي، وقد كان من هدي محمد صلى الله عليه وسلم، أنه لا يتحدث حتى ينتهي من أمامه، وقد ورد عنه أن قال لعتبة بن ربيعة بعد أن تحدث طويلا ؛ أفرغت أبا الوليد؟ 

ولأن الأمر مسلك صعب يخضع المريد عند الصوفية إلى تمارين صعبة ليتعلم من خلالها الإنصات، وكان الصيام عن الكلام امتحانًا لأحد الانبياء، وفي الفلسفة هو حضور الذات والروح واكتشاف للوجود الانساني، او -كما حكى الجاحظ -بلاغة- حيث السكون والاشارة للمعنى أعلى مراتب (البلاغة).

علا منطق الثرثرة على منطق الإنصات، فغاب التوافق، وفشلت الحوارات، وتصاعدت الاختلافات، لأننا نتكلم أكثر مما نستمع، ولم يعد للآذان سوى وظيفة استراق السمع، من أجل المزيد من الثرثرة والنميمة والغيبة!





Share To: