في تفاصيل حياته اليومية الصغيرة كان يقحم أحلامه الكبيرة بالسفر إلى فرنسا ...يحزم حقائب ذهنه متجها صوب باريس على متن قارب أحلامه يعبر البحر غير آبه بتياراته أو بخفر سواحله...
إسمه المبارك عمره عشرون ربيعا وبضعة أحلام. 
والدته حليمة بت إبراهيم، تجلت في ملامحها تفاصيل غرب السودان الجميلة، لم تكن أمه لوحده فحسب؛ بل كانت أم لأصدقائه وصغار الفريق وأم للسائل والمحروم فباب منزلها لايغلق إلا ليلا، وليلا مخافة المخاطر فقط وليس إستجماما من العطاء والخدمة فالحال كان ميسورا والحمد لله كما كانت تقول.
تمني نفسها مذ سنوات توارت أن تر المبارك يرتدي سماعته طبيبا جالسا على كرسي عيادته الوثير بالقرب من مرضاه يتحسس صدر أحدهم، وينصح الآخر بالإبتعاد عن الأطعمة التي تضر به. كانت تحدثها هكذا دوما نفسها ..
تدور الأحداث متسارعة مضى عام على سقوط النظام الذي يترأسه (البشير) في السودان.
يقول المبارك -الذي ظل ساخطا على ذاك النظام ويحمله كل بؤسه وإستياءه وفشله في الحياة كما يعتقد- :(بعد أن يسقط هذا النظام الذي نعته بالبربري و حاشيته سوف لن تكون أحلامنا خارج أرض الوطن ، برج إيفل لنا يغري أحد منا وقتذاك ، لم لا نشيد مثيل له هنا؟ أجل سيكون بالإمكان فعل ذلك ) قال ذلك محدثا صديقة إتفقا على أن يكون البرج في إحدى مدن دارفور الفاشر بالتحديد المكان الذي شهد صرخته الأولى ، وصراخ الحرب دوما.
( فمن يملك سلطة تقييد الأحلام والأفكار !؟ )
سقط النظام حسنا، تبعه سقوط أحلام المبارك وأحد تلو الآخر .
أصبحت الرؤية ضبابية وشائكة ، الحياة ما زالت تقسو كما في السابق بل أشد قسوة .
تقاسما السلطة شق مدني ذو خبرة رديئة في الحكم وشق آخر عسكري متسلط وبينهما ضاقت الحياة... 
في إحدى ليالي ديسمبر وقتما كان المبارك مستلقيا على (برش) وآسع مصنوع من الزعف واضعا وسادة قديمة على رأسه فكر في المغادرة ، مغادرة البؤس وقساوة الحياة ، قدر أن السفر خارج أرض الوطن سيخلق له الحياة الكريمة التي يتمناها له ولوآلدته . (فبعض الأوطان تحتضنك بدفء ما اعتدته من وطنك) .
ودع المبارك إسراء محبوبته التي لم يذكر إسمها في البداية؛ لأن الراوي صديقي أنا كان مترددا في ذكر إسمها ولكنني وعدته بأن أعيرها إسما آخر كما يفعل الكتاب، بيد أني لم أفي بوعدي كما يفعل الحكام وذلك من المؤسف حقا! 
على عجل أخبرها بسفره إلى ليبيا مع بعض رفقته، نقش على خدها قبلة أخيرة، إحتضنها كما لو أنه لن يعود بعد الحين. إختنق صوته إستوطنته العبرة لم يستطع أن ينبث ببنت شفة ، شيع دموعه الأخيرة التي عانقت جلباب حبيبته الجميل .
تحت سقف الوطن عتمة اليأس بات يحيط به من كل جانب بدلا عن مرضاه. ترجل عن مقاعد الدراسة باكرا أحلامه التي رسمها لوطنه باعها بثمن تذكرة!
ليبيا كانت محطته الأولى ريثما يجمع بعض النقود التي تؤهله لركوب البحر المتوسط (السمبك) الذي ظل حلم الكثير منا وبالأخص المبارك .بيده الباردة مسح آخر دمعة متمردة سقطت عنوة على خده وبالأخرى عانق أحلام جديدة تبناها مؤخرا (ولغاية ما ابتدرنا بها القصة). 
أما حليمة والدته فكانت تحضر في طعامهما بعد أن قامت بحلب اللبن من ضرع بقرة حزينة مات صغيرها بعد ولادته بيوم وبضع رضعات. وما كانت تدري ما يحضره لها القدر !
لم يشأ المبارك إخبار والدته بسفره مخافة رفضها المعلوم مسبقا لذلك قرر أن يضعها فقط أمام الأمر الواقع وهو لايدري أنه بذلك يضعها أمام الحزن الواقع...
هاتفها -بعد أن وصل إلى مقر إقامته بمدينة الكفرة الليبية- : إية (قاصدا بها أمه ) أعفي لي، الوطن ضاق .
أخبرها تفاصيل سفره الأخرى.
ردت بعد أن إستجمعت كل ما أوتيت من ثبات وبصيرة وحكمة : الله يغطي عليك يا ولدي ،
اظلمت الدنيا في وجهها فجأة تباعدت الأشياء من حولها رويدا رويدا أصبح السواد حالك ، آخر ما رأته على الحائط كانت تقبع صورة المبارك مبتسما .
تمالكها الألم لم تعد تبصر، بل أصبح رفيقا لها الوجع .
في إحدى مهاتفاته اللاحقة معها بعد أن تيسر حاله وكان الحظ حليفا جميلا معه، والألم حليفا قاسيا معها ، أخبرته بقولها:(عينان لا تراك ما جدواها). ظن أنها إشتاقت لرؤيته فحسب ، ما أخبرته أنها فقدت بصرها وقوتها، خافت عليه من الندم والحزن الذي سيلاحقه طيلة حياته ، كما عذرته لصغره وضيق حيلته في وطنه ... 
كتب المبارك رسالة لمحبوبته أودعها البريد بعد التحية الجميلة إسراء (تضعنا الأوطان في خيارات غير مرضية ، خيارات يصوغها لنا غيرنا مثل عقود الإذعان، مكبلين أمامها تماما نحن، كسجين سيق إلى منصة إعدامه)







Share To: