أحياناً لا تحتاج لزيارة مشفى تعرض نفسك على الطبيب، فقط قد تحتاج إلى شخصٍ يفهمك، تحدثه بكل شيء يزعجك فيتلقى نبراتك بِكل ابتسامة وحُب، لا يتأفف من تفاهتك ولا ينزعج من صوتك الضعيف ولا يتذمر من ملامحك الذابلة ، قد تحتاج إنساناً يقدرك ، تراهُ طبيبك ومن كل شيء سيداويكَ وسينتشلك، الإنسان ضعيف كقُشٍ مهما كان ومهما كانت لحظاته ضاحكة قد تنقلب إلى النقيض في ظرف ثانية فيودع كل شيء جميل ويسكنه كل قبيح ، قد يداهمك التعب دون إرادتك ، تكره كل شيء حتى وجودك ، تعيش وحيداً كما ولدتك اُمك ، ترى نفسك خالِ من كل شيء إلا من الإضطرابات التي تتجول في كل زاوية منك .

تنخرك وتقطعك وتفتتك وتشتتك ، تتغير ملامحك ، ترتعش قدميك، تذبل عينيك ويطوقهما لون أسود قبيح كقطع الفحم ، تفقد شراهتك للأكل ، تبصق في وجه الضجيج حولك ، يحكمك الأرق ويجبرك على أن تظل الليل ساهراً كنجمة، تفقد وزنك وتدخن التفاهة والألم على هيئة سجاير ، تنفخُ بِكل التعب إلى الهواء فتظن أنك عالجت نفسك ، ترتاح قليلاً لكن ذلك الدُخان يعود ويعانق جسدك كثيف بالدموع والتَعب فتلعن أصابعك عشرا ،  تراكَ وحيداً رغم أن هُناك الكثير حولك لكنك تشعر بالخواء الداخلي، قد تكون تريد أن تفضفض لأحدهم لكن كلما وددت نبراتك الخروج من فمك تضع يدك وتكتمها فتسبب لك ضيق بالتنفس والدوار وتلعن كل شيء تافة وقبيح .

تملاؤك التساؤلات الغريبة والوشوشات العجيبة، تخترق دماغك أشياء لم تكن تظن أنك ستفكر بها مُستقبلاً لكن التغيرات أجبرتك ثم كما تُقاد القطيع قادتك نحوها بكل عنجهية وبكل إجرام، تظل شارداً لِساعات تفكر بالوجود ولماذا ولد الإنسان ولماذا إلى هُنا هطل وأتى وما هي الواجبات التي وجِد لأجلها ولماذا أبتليَّ بكل هذا الدمار رغم أنه شاباُ في مُقتبل العُمر، نقيء يكره الشر ويحب الخير للجميع حتى للأعداء، يحدث نفسه وحيداً ويخاف أن تسمعه دقات قلبه فتسخر منه وتفضحه أمام الجيران ، أولئك الذين لا يحملون صِفات الجار ، بل أنهم شياطين تشتعل من وجوههم النار الملعونة تكتوي بها أنت دون سواك.

أحمد رمزاُ لكل هذا، حدثني بكل صمت وبكل خجل عن حالته الكئيبة قبل فترة، سرد كل شيء ومع كل نبرة كانت تخرج منه فمه كُنتُ أطلق مائة نهدة وتطعن جسدي ألف طعنة، كُنت ضعيفاً أمامه لم أستطع أحتمل كل الألم فأنسكب الغيث من سحابة وجهي وبغزارة حتى تبللت الأرض وأرتوت ونبت القَهر على هيئة أشجار يائسة ترمزُ لما عاناهُ أحمد لمدة طويلة دون أن يعلم أحداً وما أجمل أن تتألم بصمت دون أن يعلم أي كائناً بحياتك الشخصية كي لا يرقصون على صدأ أوجاعك ، حدثني بأنه زار عدة مستشفيات واحتضن عدة عيادات لكن دون جدوى، لم تتغير حياته البتة بل أنه كان يزداد وجعا مع كل زيارة.

أحمد شاباً طموحاً يفكر للمستقبل جيداً عقله ناضجا ، كان يبحث عن الإنسان الذي يحمل صِفات الطبيب وبدون شهادة تثبت أنه بارعا بالطب ، صُدفة وجد الطبيب، ليس صُدفة بل أنه كان يعرفه سابقاً لكن علاقته بالطبيب شحيحة نوعا ما ، لكن الحقيقة كان يحملُ مشاعر فياضة وحبٍ عميق تجاه ذلك الطبيب ، بعد أن رأهُ في الطريق تلك شعر بأن هذا الشخص الذي سينتشله من كل شيء وسيداوه من كل طعنة وسيخلقه من جديد ، ذات يوم هرع صوبه مليئاً بالخجل، حدثه بكل شيء فما كان من الطبيب إلى الإنصات لكل نبرة تخرج من فمه الذي كان يتلعثم كثيراً، طَبطب على جراحه واحتضنه كما تحتضن الأم مولوها البِكر، حدثه بكل شيء ؛ بكل ما يعانيه فكان يشعر بالراحة عندما يتحدث نحو الطبيب،  كان الطبيب يبتسم ويكرمه بالنصائح ويزرع في قلبه القوة والحُب والطمآنينة .

مؤخراً ألتقيتُ أحمد ، وجدته مُبتسماً كما كان سابقا،  قد ودع كل شيء فعاد أحمد الذي أعرفه، عانقته عِناقاً حارا ثم توجهنا نحو مكان يبعد قليلاً من تجمع الباعة، حدثني عن السبب الذي عاد به إلى طبيعته، كان يقهقه كثيراً ويرقص أكثر، أعترف لي بكل نبرة وكتب لي اسم كل قرص دواء أستخدمه وعدد الأقراص صفر، كان يرتلُ اسم الطبيب وبدون توقف بل أنه أقسم إليَّ وقطع وعد أنه لن ينسى ذلك المعروف وسيظل يحب الطبيب مع كل نبضة تنبض أسفل ساعده، كما أنه يراهُ ثامن عجائب الدنيا ومُعجزة على هيئة إنسان ، أثق بما قاله أحمد فـ أحمد لا يجيدُ الكذب والنفاق ولا يجيد دفن المعروف بل أنه يزداد حباً لأي إنسان أهداه ضحكة فكيف بمن أنتشله من كل العناء ،  

سُعدتُ كثيراً لما رأيته وما تحدث به أحمد صوبي، بعد أن كان لا شيء هاهو أصبح يمتلكُ قوة ضخمة لمقارعة الحياة والتغلب على جميع المعوقات بقوته وإرادته ؛ لديه اُمنيات عدة وأنا أؤمن بأنه سيكون يوما شيء يُذكر ، فمن يحلم لا يفشل بل يصل، من يحلم يعانق حلمه وتبتسم الحياة له وتنبت في طريقه الورود وردة وردة وتحترق الأشواك شوكة شوكة وتشعشع النجوم في جبينه نجمة نجمة ، لهذا السبب سأظل أردد أحياناً لا تحتاج لزيارة المشفى ، فقط تحتاج لـ إنسان يفهمك ، يقدرك ويقدس ما تمر به لا أن يتذمر في وجهك.






Share To: