يبدو أنّ ما كان في ثمانينيات القرن الماضي نظرية تحت اسم " الفعل التواصلي " ، أصبح واقعاً مُرافقاً لتفاعلات العلاقات الإنسانية ، فقد تحدث الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني " يورغن هابرماس " في نظريته عن مفهوم الفضاء العمومي الذي يُحفّز كلّ فرد فيه الآخر للفعل بطريقة مشتركة عن طريق الكلام ، مُعرِفاً التواصل بأنه عبارة عن علاقة موازية حرّة بين فئات المجتمع المتعددة والمتباينة في علاقاتها ، بهدف بناء وعي حرّ لا تحكمه المؤسسات أو الأيدولوجيات المفروضة ،  وهو مشابه إلى درجة نسبية ، ما يمكن ملاحظة حصوله في واقعنا المعاصر على منصات التواصل الاجتماعي ، لا سيّما ما يحدث من تفاعل عبر تلك النافذة الصغيرة المعروفة بالهاشتاغ أو الوسم # ، فهي تُمكِّن الأفراد من مختلف الشرائح والبيئات والثقافات ، ودون احتساب للجنسيات أو الأعراق أو المعتقدات ؛ من الإدلاء بآرائهم ، والمشاركة في نقاش واسع النطاق حول القضية محط الاهتمام ، والتي لا تقتصر مواضيعها على مجال بعينه ، فكلّ ما يهمّ الناس من القضايا الفردية اليومية ، وما يمس حراك المجتمع السياسي والاجتماعي وظروفه الاقتصادية والثقافية ، وما يواجهه من تحديات ، أو قصص هامشية ، أو مواقف طريفة ، يمكن أن تتحوّل إلى مادة دسمة يتم تناقلها بين الأصدقاء والمتابعين ، وذلك غالباً بهدف لفت الأنظار نحو قضية بعينها ؛ من خلال استقطاب الرأي العام نحوها ، وبالتالي تقديم المساعدة ، وإحداث التغيير المقصود ، وهو ما يتم عبر وضع علامة الشبّاك # متبوعة بكلمة ، أو شعار ، أو رقم ، أو عبارة مؤثرة  ذات دلالة معينة حول الموضوع المستهدف ، وعلى مبدأ خير الكلام ما قلّ ودلّ ، سرعان ما تفعل تلك الكلمات القليلة فعلها ، فيزداد التفاعل بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي ، وتصبح القضية مطروحة للنقاش ، فما أن تبدأ الحلقة النقاشية الضخمة التي تمّ عقدها في فضاء العالم الافتراضي الواسع ، والتي تمتد لزمن غير محدد ، حتى يبدأ المشاركون بإبداء آرائهم ، أو انفعالاتهم وانتقاداتهم ، أو أفكارهم وتجاربهم الشخصية حول الموضوع ، وذلك في مواجهة مدنية يحق للجميع فيها القراءة أو التعليق أو إعادة التغريد ، في حالة تقترب كثيراً من أيدولوجية الكوزموبوليتية ( المواطن الكوني أو العالمي ) التي تقول بانتماء البشر لمجتمع واحد على أساس الأخلاق المشتركة .


 
   وعلى ما يبدو أنّ ما كان مجرد رمز في البداية ، أصبح أيقونة فاعلة ومؤثرة في الوسط الإنساني ، لا سيّما وأنّ هجرة ملحوظة بدأت منذ قرابة عقد من الزمن باتجاه الإعلام الرقمي عبر منصات التواصل الاجتماعي ، فلم يعد الإعلام التقليدي مسيطراً على صناعة الخبر وبثه ، وقد أصبح المتلقي صانعاً للمحتوى ، ومنتجاً للمعلومة ، ومستثمراً فيها ، ليُصبح دون شكّ عنصراً فاعلاً ومؤثراً في النشاط الإعلامي ، ولا شكّ أنّ ذلك الشبّاك الصغير بات يؤثر بشكل ملحوظ إلى حدّ معين في صناعة وتشكيل الرأي العام ، وتوجيهه ، وذلك من خلال قدرته على تسليط الضوء على مختلف قضايا البشر واهتماماتهم ، ورفعها إلى صدارة الأولويات ، أو تحويلها إلى بؤر ساخنة تستثير النقاش والجدل ، وعلى الرغم من الأثر اللحظيّ والسريع الذي تتصف به تلك الوسوم ، إلّا أنه من الممكن اتخاذها وسيلة لاستشعار احتياجات الأفراد ، وتلمّس مشكلاتهم بشكل استباقي ومبكّر من قبل صنّاع القرار ، كما أنّ الهاشتاغ بات وسيلة تثقيف سهلة وسريعة الاستخدام ، إذ يمكن بالضغط عليه تتبع كل ما له علاقة بالكلمات الدلالية التابعة له ، ومعرفة كل ما قيل أو نُشر حولها .
    إلّا أنّ المجتمع المعاصر برأي " هابرماس " يحتاج إلى عقلانية تواصلية نقدية إجرائية مندمجة في العالم المعيش ، فهو ينادي لأن تسعى الفلسفة إلى خلق حوار يتسم بالنضج والرشد داخل المجتمع ، بشكل يضبط علاقة الفرد بالغير ، وصولاً إلى المستوى الذي تخضع فيه العلاقات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع إلى أخلاقيات النقاش والحوار ، بعيداً عن الهيمنة ، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول جدوى هذه الخاصية الإلكترونية التي زادت من تفاعل البشر التواصلي ، وأصبحت توجهه ضمن حدود معينة ، فهل انتهى عهد الهيمنة على تشكيل الرأي العام فعلاً ؟  أم أنّ هيمنة عشوائية ظهرت عبر شباك الهاشتاغ ، وأصبحت توجه الرأي العام ؟ وهل يمكن الحكم بسلبية هذا التوجيه بالمطلق ؟ أم أنّ هنالك فرصة لتوجيه الأنظار نحو قضايا كانت ستبقى على الهامش ، أو في دواليب الكتمان لولا الهاشتاغ ؟ و جميعها تساؤلات مشروعة في ظلّ عدم وجود دراسات علمية إحصائية تضعنا داخل الإطار التفاعلي الحقيقي للهاشتاغ وأثره في تشكيل الرأي العام ، لا سيّما وأن هناك مواقع عالمية متخصصة في قياس نسب الهاشتاغ الأكثر إثارة ، ومعرفة أعداد المتفاعلين معه ، وهي تًقدم خدماتها مقابل رسوم مالية ، ما يؤكد على ضرورة إخضاع هذه الأيقونة للدراسة ، للوقوف على حقيقة دورها في تشكيل الرأي العام ، ومعرفة مدى عدم انحياز مطلقيها في طرح القضايا ، خاصة وأن الواقع يُثبت أنه ومع اتساع النطاق الذي تُستخدم فيه وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة المحتوى ، ومع وجود إمكانية استخدام هذه الوسائل للتسويق والإعلان ، فإنّ إمكانية وجود محتوى كاذب أو ملفق أو مفبرك أصبح ممكناً وسهلا ، وهو ما يكثر وجوده في أوقات الأزمات ، وربما يمكن اتخاذ أزمة فيروس الكورونا مثالاً واضحاً على ذلك ، فكم من شائعات وأكاذيب تمّ بثها بخصوص الفيروس ، دون وجود أساس علمي أو طبي لها ، ومن خلال حسابات مزيفة فإنه يمكن صناعة الشائعة وفبركتها وربطها بشخصية معروفة ، ليتم التفاعل من خلال الهاشتاغ معها ، وهكذا حتى تصبح الترند الأشهر والأقوى في العالم كلّه ، ناهيك عمّا شكلته بعض الهاشتاغات من بيئة مشحونة بالكراهية و العنصرية أو الطائفية ، على خلفية حوارات لا يتسع أفق البعض من المشاركين فيها لتقبّل الرأي الآخر ، لتبقى القضية الأكثر تحفيزاً على القلق ؛ أن يبقى كلّ ما نراه من هشتاغات وتفاعلات اتجاه قضية معينة حبيسة للفضاء الإلكتروني ، دون أن يخرج هذا التفاعل والتعاطف إلى أرض الواقع ، ويُحدث التغيير المطلوب .
   لا شكّ إذاً في أنّ الهاشتاغ يحظى بأهمية كبيرة في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي ، كونه يساهم في ترتيب المعلومات ، واختزالها ضمن عناوين ترتبط بطبيعتها ، كما أنه يُسهّل الوصول إلى كمّ هائل من المعلومات ، إضافة إلى أنه يضع المُهتمّ في صورة آخر المستجدات الخاصة بالقضية الأكثر جدلاً على الساحة الرقمية ، وهو الوسيلة الأمثل لحشد الدعم ، واستقطاب التأييد حتى من شخصيات بارزة أو مشهورة ، لكنه في ذات الوقت يفتقر في بعض الحالات إلى القوّة المهنية ، ما يُعيد نظرية هابرماس إلى الواجهة ، حيث أشار إلى الدور الذي تلعبه خارجيات المجتمع البنيوية كالاقتصاد والسياسة ، فهي برأيه تقتحم العوالم الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين باستعمار العالم المعيش ، وهو ما تؤكده إلى حدّ ما تلك الحوارات عبر شبابيك الهاشتاغ ، والتي لا يكاد أصحابها غالباً يتخلون عن انتماءاتهم الأيدولوجية ، أو مؤثرات بيئتهم الاجتماعية والاقتصادية ، وهو ما دفع بهابرماس إلى أن يؤسس مستفيداً من عالم الاجتماع الشهير " إيمانويل كانت " لأخلاقيات المناقشة ؛ بهدف تجاوز الاختلافات الثقافية والسياسية المعقدة التي تتسم بها المجتمعات الإنسانية في الوقت المعاصر ، ساعياً لضمان ما لا يُضمن في واقعنا المُعاش من مساواة متبادلة تبيح الحق في الكلام والتعبير عن الرأي لكل فرد ، وممارسته كفعل بغض النظر عن اختلاف الهويات والثقافات ، الأمر الذي يدفع للتساؤل مرة أخرى وبقوّة حول مصداقية تلك الهاشتاجات التي تتصدر تفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي ، وحول جدواها في تحقيق الفعل والتغيير على أرض الواقع  ، وإلّا فإنّ فعلها لا يتجاوز فعل المفرقعات بين أيدي الأطفال ، دويّ هائل دون أثر ملموس ، وهو ما يؤكد على ضرورة تبيّن مصادر تلك الهاشتاجات والمُطلقين لها بداية ، ومن ثمّ تبيّن مقدار أثرها على تشكيل الرأي العام ، فعلى مبدأ " ثم أنا ما عنديش تلفزيون " يحق للمتابع أن يتساءل حول عدد الأفراد الذين يملكون حسابات فعلية وحقيقة على تويتر ، وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي ، وعن مستوى تفاعلاتهم الحقيقية مع القضايا التي تُطرح عبر شبّاك الهاشتاغ ، ليكون الواقع واتجاه التغيير الذي طرأ عليه مصدر القرار القاطع بفاعلية الهاشتاغ في تشكيل وتوجيه الرأي العام ، فليس كلّ تغيير نحو الأفضل بالضرورة ، وليس الأفضل هو الصحيح والحقّ حيث تختلف المرجعيات في ثقافات البشر .
    إذاً وفي خِضمّ أجواء الصخب على وسائل التواصل الاجتماعي ، وتصاعد دور الهاشتاغ في إثارة النقاش والحوارات داخل البيئة الرقمية ، فإنّ الإعلام التقليديّ مطالب أكثر من أيّ وقت مضى لإثبات وجوده كمصدر مهنيّ للمعلومة ، كما أنه مطالب بالاقتراب أكثر من معاناة الأفراد ، والتدقيق في اهتماماتهم ، وتلمّس احتياجاتهم ، ونقلها إلى مجهر الرأي العام ، وتشريحها بحرفية عالية ومصداقية  دون انحياز ، ليكون هو مصدر الفعل الحقيقي ، ووسيلة التغيير الصادقة ، ولا ضرر في أن يكون الهاشتاغ إحدى وسائله إذا ما اتصف بالحرية المدروسة ، كما أنّ تعليم النشء أخلاقيات الحوار المبني على الصدق ، و الحرية المسؤولة ، واحترام الآخر ، وتمليكهم أسس النقد العلميّ ، وكيفية التمييز بين الغثّ والسمين ؛ أصبحت ضرورة أمنية في وقت صارت فيه جلسات النقاش مفتوحة للجميع ، وصارت فيه المعلومة أحياناً عملية تجارية Business  تخضع لمعايير الربح والخسارة .
  

Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com








Share To: