الشّارع فقد صورته فجأة وتحوّل من جادّة ورصيف إلى معقل كبير للنّاس تُرَدَّدُ فيه شعارات الحب، لم يَدُرْ في خلد ذلك التّاجر أن تنقطع حركة البيع وتفتح الدّكاكين المحاذية له على طول الشّارع باعثة أنغاما لأناشيد الحب وأغاني الحياة، وتقدّم مجانا أشرطتها، لم يستسغ شيئا من هذا، وأمواج البشر تتدفّق على الشّارع صاهلة بشعارات الحب، سأل عن تاريخ اليوم، لم يصادف "فالنتاين"، ولم يكن هناك ما يشير إلى اللون الأحمر أو قلب البلاستيك المعبّأ هواء والمحلّق بالونا في السّماء، لكن أقلام أحمر الشّفاه غزت واجهات تلك المحلاّت، ارتدّ مسرعا إلى داخل المتجر وملأ واجهته بالأقلام، ثمّ خرج ووقف ليلتقط ما فاته من تفاصيل العرض على الواجهة التي بجانبه، فرمق كتيّباتُ طبخٍ ولافتات مكتوب عليها: "بع خبزك بالحب واشتر لها أحمر شفاه".

وضع يده على جبهته، فرك قليلا ثمّ التفت في الحناجر الصّادحة بالحب وراح يردّد نفس شعاراتها، ملوّحا بيده صوب المتجر، ما فاته تسجيله هو أنّ أغشية جيوب سراويل الرّجال كانت مقلوبة إلى الخارج في وضع يُرى فيه السّروال كما لو أنّه بأذنين، لمّا اقتنصت عينيه ما لم يستطع أن ينتبه إليه عطّل حركة يده بتثاقل، وانقطع عن الإشارة إلى واجهة محلّه، حينها كانت الجموع تتباعد خطّين لتفسح الطّريق لسيّارة كانت توزّع نوعا من الخبز لم ير مثله من قبل، وانطلق في نفس الوقت شعار مصاحب لحركة السيّارة: 

  • خبز العاشقين ملح وأنين..

تساءل في نفسه:

  • ما خبر الحب هذه الصّبيحة؟

شعر بيد تمسّد على كتفه، استدار، فارتطم وجهه بوجه صديقه الذي كان مريضا منقطعا لمدّة عن الحياة في الشّارع، تبسّم معتذرا عن عدم زيارته، ولكن لم يستطع أن يفسّر خروج الصّديق في هذا اليوم بالذّات:

  •  هل الحب صار ترياقا سحريا إلى هذه الدّرجة..؟

لم يتركه يكمل سؤاله، ردّ عليه بكل بساطة:

  • ألا ترى أنّ هؤلاء جميعهم خرجوا هذا اليوم معطّلين دوامهم في العمل ومصطحبين عائلاتهم.

  • أنا أتساءل فقط، المدينة ما شاء الله شمسها طالعة وأسواقها عامرة وإداراتها مفتوحة... الفضائيات تنقل لنا المسيرات لكن للمطالبة بالحقوق..

  • وهؤلاء يطالبون فقط بالحقّ في الحب..

لم يكد يكمل كلامه حتى استولت على انتباههم فرملة بعيدة لسيّارة يبدو أنّها ضخمة، وصوتُ قفزٍ متتالي لأحذية على الأرض، لم تنقطع الهتافات لكن تدافعت الجماهير وحدث بعض التزاحم الذي شتّت قليلا الجموع، وبدا جليّا الكر والفر في خطّ المسيرة، وما هي إلا لحظات حتى سُمع صوت سيارات الاسعاف التي اخترقت بصعوبة سلسلة البشر المتماوجة على طول الشّارع، وبصعوبة أيضا دلفت إلى الشّارع الكبير. اختلطت فلول المتظاهرين، أجساد فزعة ركبت سرج الفرار المنفلت، فجأة ظهرت وجوها شفاهها حمراء، رجال ونساء يمسكون بقطع شاش يضعونها على أفواههم، يركب وجوههم رعب كبير، من بعيد بدأ يتجلى الأفق على رجال ببدلات وردية وبأيديهم هراوات حمراء.

دخل مسرعا إلى متجره وبسرعة وقلق باديين على وجهه وبارتجاف يديه أنزل الباب المنزلق حتى أنّه لم ينتبه إلى صديقه الذي كان قد انخرط في صفوف المسعفين، كانت قطع الشاش الحمراء مبعثرة هنا وهناك، واللعاب المخثر بالدم يصبغ اسفلت الشّارع، اختلطت الأصوات وتعالت وبدت فيها نبرة الخوف، تداخل زعيق سيّارات الإسعاف، التي كلما تباعدت خلّفت صدى يكنس كل ارتياح. كان من داخل المحل يضع أذنه بحذر على صفحة الباب لعلّه يلتقط ما يشبع توقه للخبر اليقين في حكاية مسيرة الحب. صار الوضع شيئا فشيئا إلى هدوء مشوب بصراخ متفرّق بعيد أحيانا إلى أن استتبّ الهدوء في الشّارع، حينها انتبه إلى الحاسوب، وبضغطة زرّ انفتحت شاشته وراح لاهثا خلف اليوتيوب لعلّه يعثر على ما يفسّر به ما يحدث، تتالت الفيديوهات، وتعبت يده من العبث بالكلمات في خانة البحث، إلى أن انتبه إلى صفحته في الفيسبوك، فصفعه أوّل منشور مشارَك لصديق يتحدّث عن مسيرة الخبز.

البارحة كان موعدها، مسيرة الخبز، هزّ رأسه مستهزأ، ثم كاد أن يطلق قهقهة مدوّية كتمها بمجرّد ضحكة:

  • نحن قوم لا نتظاهر حتى نجوع !

حوّل محرّك البحث نحو الأغاني، لكن لفت انتباهه فيديو بتاريخ اللحظة: 

  • ما حدث منذ قليل.

كانت إحدى نشرات الأخبار تذيع خروج النّاس للاحتجاج ضد أسعار الموز المرتفعة، حكّ رأسه حتى كاد أن ينزع شواه، ثم عصر عينيه ووسّعهما وزفر زفرة كأنّه يدفع دفق ماء مغرغر في حلقه، انتفض كالمذبوح وراح يتثبّت من جسمه المرتعش وقلبه الذي كاد ينزلق من صدره:

  • ولكنّها كانت مسيرة للحب، الموز لونه أصفر، لم يكن هناك من يبتسم حتى، بعض الابتسامات كان لها لون الشّفاه.

عاد إلى الباب يتحسّس مجريات الخارج، رفعه بتوجّس، الشّارع فارغ تقريبا، كل المحلات سدّت أبوابها وعلّقت على واجهاتها: " خبز الحب غير متوفّر"، شعر كأنّ مخّ رأسه هبط درجة مقتربا من عينيه، فلمح الدنيا كتجاويف متجعّدة تخفي بداخلها أنابيب تسيل بمياه حمراء، استدار نحو واجهته، مسح على الزّجاج، الغبار المتطاير من تحت أرجل المحتجّين غطّى صورة الأقلام وهي تدور فوق عارضة كهربائية توزّع موسيقى هندية، دلف ثانية إلى المحل، مدّ يده المعروقة إلى الرفّ الأعلى يمين المحسب، وسحب من علبةٍ قلما أحمر، سحب العبوة البلاستيكية المستطيلة ذات المداد الأحمر من إطارها الزّجاجي الأسطواني، وقبل أن يبدأ بالنّفخ في العبوة لإخراج الحبر، داهم المحل شخصان ملثّمان يحملان بأيديهم علب أحمر شفاه خمّن أنّها مصادرة:

  • هل تبيع أقلام أحمر الشّفاه؟ 

  • لا أحب النّساء؟

  • سألناك عن أحمر الشّفاه؟

  • أنظر سيّدي شفتاي حمراوين.

  • وهل أنت امرأة حتى تذكر ذلك؟

  • رحم الله أمّي كانت تُحمِّر خدّيها بالخجل، أما شفتاها فكانتا محمرّتان من شدّة تقبيلها لأبنائها..

  • ههههههههههه ... ألا تخجل من حديثك عن التقبيل؟

  • ولماذا لم يخجل هؤلاء من المطالبة بأحمر الشّفاه علنا وفي الشّارع ؟

  • ألم تر أنّ رؤوسهم كانت عليها قبّعات حمراء، ودون أن أذكّر أنّ عروقهم يجري فيها دم أحمر مثلك.

  • أنا دمي أزرق يا سيّدي لا حمرة فيه، رحم الله خجل امّي..

  • وما ذلك القلم الأحمر بيدك؟ سجّل، ضبطنا بيده ما يعادل قلم الأحمر شفاه.

  • أنت مخطئ يا سيّدي أنا فقط كنت أريد أن أقارن بين لون الحبر وذلك اللون على الضمّادات المتناثرة على الإسفلت.

  • سجّل إنّه يريد أن يعبث بمسرح الجريمة.

  • أيّة جريمة يا سيّدي؟

  • ألم تمر أمامك مسيرة تطالب بالحب وبيع الخبز وشراء أحمر شفاه؟

  • فعلا، لكنّه مجرّد حب وخبز وأحمر شفاه.

  • يا بني آدم، الأحمر لون الدم وليس لون الحب، والخبز عنوان الثورة والحب مساس بالآداب العامة.

حينها فكّر في ذلك الشّاعر الذي قال: "أحنّ إلى خبز أمّي". تذكّر أمّه، وأدرك أنّ الشّخصين أمامه من زوّار الغروب، ربّما احتراما للآداب العامّة يحبّون حمرة الورد بدل أحمر الشّفاه. كانا منهمكين في تسجيل ما رأياه واجبا عليهما تسجيله، بينما انسلّ في غفلة منهما وحيدا تائها في الشّارع الذي غطّته العتمة، صارخا: "بع خبزك بالحب واشتر لها أحمر شفاه".








Share To: