لماذا السيرة الذاتية أو الأدبية أوالفكرية؟ في اعتقادي أن السيرة فنٌّ أدبيٌّ راق. لايقل أهمية عن الأجناس الأدبية الإبداعية الأخرى، كالقصيدة، والقصة القصيرة، والرواية.ولأنها تعطينا مفتاح الكاتب أوالشاعرأوالأديب أوالسياسي أو نجوم الفن أيضاً، ولأنها –أيضاً- في كثيرمن الأحيان لدى بعضهم مايشبه الإعترافات الصريحة.والسيرة الذاتية إما أن يكتبها الأديب عن نفسه،أويكتبها عن الآخرين.والأدب العربي حافل بهذا المنجز الإبداعي منذ سيرة الرسول(ص) وحتى العصر الحديث.لكن الدكتور شوقي ضيف في كتابه(الترجمة الشخصية) يعزو هذا الفن إلى ريادة الغربيين فيه، وهو عند العرب فن مستحدث. يقول:(حاولت في هذا الكُتيّب أن أعرض صور الترجمة الشخصية عند العرب في عصورهم المختلفة، من العصر العباسي إلى العصر الحديث، وهو فن مستحدث عندهم، قلدوا فيه غيرهم من الأمم الأجنبية التي قرءوا آثارها، وخاصة اليونان، فإن بعض متفلسفتهم ترجم لنفسه، وتحدّث عن كتبه. وحاكاهم متفلسفو العرب، واتسعت المحاكاة؛ فدخل فيها العلماء والمتصوفة ورجال السياسة). (انظركتاب الترجمة الشخصية ص5 الطبعة الرابعة سلسلة فنون الأدب العربي الفن القصصي، طبعة دار المعارف).
ثم يمضي في الصفحة التالية قائلاً:( حتّى إذا كان العصر الحديث رأينا الترجمة الشخصية عندنا تتطور تحت تأثير ما قرأ أدباؤنا وكتّابنا للغربيين من تراجم كاملة عن حياتهم، وقد وصفوها فيها من جميع أطرافها، بعيوبها ومحاسنها، بل لقد تحوّلوا بها إلى اعترافات صريحة بدون أي تحرّج أو تصنّع. وبذلك غذت الترجمة الشخصية عندهم ضرباً من القصص الحي البديع).(انظر المرجع نفسه ص6).
الناقد الكبير الأستاذ الدكتورصلاح فضل أحد نقّادنا الأفذاذ في وطننا العربي الكبير. مسيرة حافلة بالعطاء والتّميّز قطعها هذا الرجل منذ أن أوفد للدراسة إلى جامعة مدريد بإسبانيا سنة1971م وحصوله على رسالة الدكتوراه.
الدكتور صلاح فضل (من مواليد شباس الشهداء بوسط الدلتا بمصرعام1938م.
*تخرّج في كلية دار العلوم وعمل معيداً بها عام1962م.
*حصل على دكتوراه الدولة من جامعة مدريد بإسبانيا عام1971م.
*تنقل في التدريس بجامعات القاهرة والأزهر ثم استقر في عين شمس.
*عمل أستاذاً زائراً بجامعات إسبانيا والمكسيك وصنعاء والبحرين.
*شغل منصب المستشار الثقافي لمصر في إسبانيا ومدير المعهد المصري للدراسات الاسلامية بمدريد لمدة خمس سنوات حتّى عام1985م.
*عمل عميداً للمعهد العالي للنقد الفني باكاديمية الفنون بمصر.
*اشترك في تأسيس مجلة (فصول) للنقد الأدبي وعمل نائباً لرئيس تحريرها.) (راجع سلسلة عالم المعرفة العدد164 دولة الكويت).
للدكتور صلاح فضل أعمال نقدية كثيرة منها:
1-من الرومانث الإسباني:دراسة ونماذج1974م
2-منهج الواقعية في الإبداع الأدبي1978م
3-نظرية البنائية في النقد الأدبي1978م
4-تأثير الثقافة الاسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي1980م
5-علم الأسلوب:مبادئه وإجراءاته1984م
6-إنتاج الدلالة الأدبية1987م
7-ملحمة المغازي الموريسكية1988م
8- شفرات النص بحوث سيميولجية1989م
9- ظواهر المسرح الإسباني1992م
10- أساليب السرد في الرواية العربية1993م
11- بلاغة الخطاب وعلم النص1993م
12- أساليب الشعرية المعاصرة1995م
13- أشكال التخييل: من فتات الحياة والأدب1995م
14- مناهج النقد المعاصر1996م
15- قراءة الصورة وصور القراءة1996م
16-عين النقد على الرواية المعاصرة1997م
17- نبرات الخطاب الشعري1998م
18- تكوينات نقدية ضد موت المؤلف2000م
19- شعرية السرد2002م
20- تحوّلات الشعرية العربية2002م
21-الإبداع شراكة حضارية2003م
22- وردة البحر وحرية الخيال الأنثوي2003م
23-حواريات في الفكر الأدبي2003م
24- جماليات الحرية في الشعر2005م
25- لذّة التجريب الروائي2000م
26- فصول عن شوقي أمير الشعراء2008م
27- التمثيل الجمالي للحياة2008م
28- محمود درويش حالة شعرية2009م
29- شعرية التوهّج الحسي2010م
30- عوالم نجيب محفو2011م
31- طراز التوشيح2013م
32- سرديات القرن الجديد2014م
33- أحفاد محفوظ 2015م
34- شعر هذه الأيام 2016م
35-  أطياف نقدية 2016م
36- وثائق الأزهر 2017م
37- أنساق التخييل الروائي 2001م
ترجماته:
1-القصة المزدوجة للدكتور بالمي، تأليف بويرو باييخو1974م
2- حلم العقل ودون كيشوت، تأليف بويرو باييخو1975م
3- وصول الآلهة، تأليف بويرو باييخو1977م
4- الحياة حلم، لكالديرون دي لاباركا1978م
5- نجمة أشبيليه، تأليف لوبي دي فيجا1979م.(راجع كتاب عين النقد.. سيرة فكرية. دكتور صلاح فضل ص287و288) الطبعة الأولى 2018م مؤسسة بتانة/ القاهرة).
كتابه(عين النقد وعشق التميّز.. مقاطع من سيرة فكرية) يضعنا أمام سيرة عظيمة لناقد عربي كبيراستطاع أن يثري المكتبة العربية بعدد كبيرمن مؤلفاته التي مازالت تحتل المرتبة الأولى في قاعات الدرس الأكاديمي، والمتخصّصين في النقد الأدبي. بل أكاد أجزم أن صلاح فضل له مدرسة خاصة في النقد الأدبي الحديث في الوطن العربي كله على المستوى النظري والتطبيقي. وصلاح فضل تجاوز- في إبداعه النقدي- عدداً كبيراً من زملائه،أو حتّى الذين جاءوا قبله أمثال: محمد برّادة، كمال أبوديب عناد غزوان، جابر عصفور، جبرا ابراهيم جبرا، سعد مصلوح، يوسف اليوسف، عبدالملك مرتاض، الياس خوري، عبدالسلام المسدّي وغيرهم.
وبعد هذه الجهود الإبداعية والفكرية للدكتور صلاح فضل يقف اليوم شامخاً على أرضية صلبة،أو كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
والحقيقة أوّل ما عرفتُ الدكتور صلاح فضل من خلال كتابه الهام( تأثير الثقافة الاسلامية في الكوميديا الالهية لدانتي)، وهو يدخل ضمن إطار الأدب المقارن. ثم كان كتابه الهام أيضاً(بلاغة الخطاب وعلم النص) الذي لم أفهمه كثيراً، وأحسبُ أنه كان نقداً هجوميّاً على البلاغة العربية القديمة؛لأن لغة هذا الكتاب صيغة –كما أعتقد – بأسلوب فلسفي.
يقول الدكتور صلاح فضل عن هذا الكتاب:(... أما أنضج كتبي النظرية هو(بلاغة الخطاب وعلم النص) فقد وضعت خطاطة مُركّزة لأبرز معالم التقدم في العلوم الحافة بالأدب، وهي علوم اللغة وعلم النفس والجمال والشعرية؛لأبرهن على حتمية تطوير البلاغة الحديثة المتأثرة بها، ثم سدّدت ضربات نقدية حاسمة للبلاغة التقليدية، كاشفاً عن عَوارها وعدم علميتها، مع أننا لانزال نتعبّد بها في دراساتنا الأكاديمية ونتجنّبها في الممارسة النقدية، وذلك كي أدعو إلى ضرورة تجديدها قبل أن أعرض لأهم ملامح البلاغة الجديدة، أقدّم علم النص بديلاً عنها مُبْرِزاً أهم مميزاته المحدثة في أبحاث الذاكرة والتذكّر، وأختم ذلك بفصل مُرَكّز عن بلاغة السرد وتحليل الخطاب الروائي، مما لم يكن له وجود في البلاغات القديمة، وأحسب أن هذا الكتاب الذي لم يحدث تاثيره الثوري في الجامعات العربية بالقدر المنشود، حيث يُعَدُّ نموذجاً لِمَا يمكن للناقد العربي أن يصنعه في نقد تراثه، وتجديد خطابه المعرفي، ونقله إلى قلب إشكاليات المنهجيات العلمية المحدثة.) (انظر كتابه عين النقد وعشق التميز.. مقاطع من سيرة فكرية ص24و25منشورات بتانة الطبعة الأولى2018م).
وأحسب –أيضاً- أن هذا الكتاب(بلاغة الخطاب وعلم النص) يقع في عِلْمَين، أو في كتابين:(بلاغة الخطاب) و(علم النص).
في سيرته الفكرية يعرض لنا الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل نماذج متعدّدة من حياته الأولى، ولادته، ونشأته، ودراسته في التعليم الأزهري،ثم التحاقه في التعليم الجامعي كلية دار العلوم، ثم يتحدّث عن خيبات الأمل التي تعرّض لها في مسيرة حياته الأولى. ولكنّها خيبات تكلّلت بالنجاح الناجز والاصرار عليه. إنها سيرة عطرة مليئة بالمفاجآت والارهاصات والتجارب منذ رحلته في الحياة الأدبية والفكرية.
في المشهد الأول الذي يعنونه ب(رسالة حياة) يسرد نشأته في البيئة الريفية التي عاش فيها من التديّن المبالغ فيه، وحياة الحرمان وفقد الأب وهو في الرابعة من عمره، ثم اعتلائه المنبر وهو في الحادية عشرة من عمره ليلقي خطبة الجمعة. يقول عن هذه المرحلة:( تعوّدتُ على مُساءلة نفسي منذ الصغر قبل أن أخضع لمحاسبة الآخرين وتقييمهم، وكانت البيئة الريفية المُفْعَمة بعطر التدين المبالغ هي الحاضنة الأولى لطفولتي المُبْتَسرة، والمدغومة بالفقد والحرمان والرغبة المكبوتة في التمرّد، غيّب الموت أبي وأنا لاأزال في الرابعة من عمري، فلم افهم سبباً لذلك، وشاهدتُ رفيقي وابن عمّتي بعدها يمسك بيد أبيه، فذهبتُ إلى أمي أسألها أن تحضر لي أبي حتّى أقبض على كفّيه؛ فانفجرت بالنشيج، وأدمت قلبي، ولم تفلح محاولات جدي الشيخ الأزهري الوقور في هّدْهَدَة روحي المكلومة، بل زاد عذابي عندما أصر على قطع دراستي المدنيّة في المدارس بعدها؛ كي التحق بالكُتّاب، وأحفظ القرآن، وأنخرط في التعليم الأزهري؛ كي أعوّض والدي الذي رحل وهو في عامه الأخير في تخصّص القضاء الشرعي، كنتُ أخشى العمامة التي ستحرمني من أن أعيش طفولتي وصباي، وجدتُ ما توقّعته؛ فقد صعدتُ لمنبر القرية وأنا في الحادية عشرة من عمري، والقيت خطبة الجمعة، وقَبّلَ المُصلّون يدي،وحُرّم عليّ حينئذ أن العب بكرة الشراب في شوارع البلدة، او أسبح عارياً في الترعة، أو الرمق الشغف في عين إحدى البنات؛ فقد صرتُ شيخاً لاينبغي له سوى الجد والاجتهاد. صار التفوّق في الدراسة عزائي الوحيد، لكنّي خُلِقْتُ بعيب لاحيلة لي في دفعه، فبقدر سرعتي في الحفظ كنتُ سريع النسيان، فذاكرتي مثل الغربال، لاتستبقي سوى مايلصق بالفهم، وفوجئت بأن الدراسة الأزهرية تعتمد على التكرار البليد والاستذكار العنيد، ليس فيها أي مجال لحرية كسر القواعد أو الخروج على النصوص، وقد وجدت عزائي في الاستغراق الممتع في قراءة الأعداد المتراكمة في خزانة بيتنا من مجلة رسالة للزيات، حيث أصبحت اتلذذ في تأمل صياغة أسلوب رئيس التحرير، وبلاغة مقالات الرافعي، وسحر طه حسين، وطرافة زكي مبارك والمازني، اكتشفتُ بعد ذلك الكتب؛ففرحتُ بعميد الأدب العربي عندما انتقم لي بنقده للتعليم الأزهري في (الأيام) ولاعب الشيوخ وأرهقهم في عبثه بالشعر الجاهلي، وإنكاره لقداسة القدماء، وحفاوته بالفكر العلمي،وأُعجبتُ بجبروت العقاد الفكري، وقدرته على صناعة العباقرة وفق مزاجه، لكنّي ضقتُ بشدة من حدّته في هدم شوقي الذي كنتُ أعشقه. ومن الحق أن أعترف الآن بأنني مدين لهذا الحمام الأزهري الساخن بتشكيل قدرتي اللغوية، وتنمية كفاءتي في الفهم، وتمكّني من التعبير، حيث كنا ندرس النحو على إيقاعات الشعر وشواهده، ونحوم حول الآيات القرآنية، نمتصّ منها رحيق البلاغة، ونتغذّى بأسرار اللغة، ونتباهى بدلائل الإعجاز، ونتشرّب الرّوْح والريحان من كتب الأقدمين، دون أن ننتبه إلى أنها في نهاية المطاف تصوغ عقولنا ووجداننا على مقاس العصور القديمة، دون أي اختلاف، وهذا هو خطرها الشديد، لكن قُدّر لي أن أنجو مبكّراً من هذا المصير، بفضل ظروف طارئة اسهمت في تعزيز تمرّدي على القوالب الأزهرية، التحق عمي عبدالغني بحقوق القاهرة، وأقنع جدي بأن يصحبني معه إلى العاصمة، فحوّلت إلى المعهد الثانوي فيها، وخضعتُ لأكبر عملية (غسيل مخ) ممنهجة عنما ارتاح عمّي إلى قدرتي على القراءة له وهو مضطجع على أريكته، أخذتُ اقرأ له بانتظام وتدبّر جميع مواد وكتب القانون الدستوري والمدني والجنائي والإجراءات والاقتصاد والدولي والنظريات المطوّلة عن القانون الروماني؛ فاكتشفتُ أن العالم الضّيق الذي تُصوّره العلوم الأزهرية محدود وفقير وقديم، دخلت بوابة العصر الحديث بعد أن أعادت الحقوق صياغة عقلي بالنظم السياسية والتشريعات الاقتصادية والاجتماعية، والوعي بمراحل تطوّر الحضارة الانسانية، كما تكفّلتْ القراءات الحرة بالانفتاح على الحيوات الفنية الإبداعية في السينما والشعر والفنون التشكيلية، أدمنتُ التّردّد اللاهت على الندوات والمحاضرات العامة المتعدّدة في الليلة الواحدة، بالقاهرة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، ثم التحقتُ بكلية دار العلوم؛ لأفرّ رسمياً من الجُبّة والعمامة، وأدخل رحاب الجامعة المختلطة، وأشهد أمام عيني صراع القديم والجديد في أحلى صوره، فهناك فريق من الأساتذة التقليديين يكرّرون علينا ما سئمنا منه في الأزهر من نَحْوٍ وفقه وبلاغة، لكنّهم يتضاءلون ويصبحون أقزاماً عندما نقارنهم بكوكبة طليعية من أساتذة الأدب والنقد والفلسفة يدرّسون لنا علوم اللغة والنقد بمعارفهم التي اكتسبوها من أعرق الجامعات الغربية،تبيّن لي بوضوح قاس الخيط الأبيض من الأسود، وعرفتُ ماذا أبغي وما أقصد .)(انظر الكتاب ص11و12و13).
لقد تعمّدتُ إيراد المشهد الأول كاملاً لأهمية إصراره على التعلّم من الكتّاب، وحفظه القرآن والتحاقه في التعليم الأزهري ،حتى وصوله إلى الجامعة. ويأتي بعد ذلك فصول الكتاب ودراسته في اسبانيا وحصوله على الدكتوراه، ثم تعيينه فيما بعد مستشاراً ثقافيا لمصر في إسبانيا، وحديثه عن مؤلفاته ومشروعه النقدي،واشتراكه في تأسيس مجلة فصول مع رفيقي دربه عزالدين اسماعيل وجابر عصفوربإيعاز في إنشائها من الشاعر صلاح عبدالصبور. هناك فصول كثيرة في الكتاب استمتعتُ بقراءتها. إنها سيرة تستحق القراءة أكثر من مرة.
وإذا كان لي من ملاحظات على كتاب أستاذي العالم الجليل الدكتور صلاح فضل، فإنّ لي ثلاث ملاحظات هم:
في ص15 عند ذكره رسالة الماجستير يورد إن اسمها(نظام الجملة الشعرية). وفي ص60 يورد اسم رسالة الماجستير(نظام الجملة العربية).
في ص180 يتحدّث عن الناشر اللبناني زهير بعلبكي، يتكرّر هذا الحديث ص240.
في ص242 قال:(بدأ الشيخ أمين الخولي مقاربتها في كتابه عن(فن المقال). والصواب أن للشيخ أمين الخولي كتاباً اسمه(فن القول)  وليس فن المقال، والدكتور صلاح فضل نفسه كتب مقدمة الكتاب في طبعته الجديدة سنة1996م ،في سلسلة الأعمال المختارة.








Share To: