المشكل بدأ من هاته اللحظة، أي حين نزعت مني الحق الطبيعي في رؤية ابتسامتها الساحرة حتى لو كانت ابتسامة تجارية على حدقول غارسيا ماركيز، لطلبت مني بعدها وبالاشارة الصامتة التفضل بالتراجع إلى الدرجة الثانية حيث الركاب من عامة الناس، وطبعا لم يكن هنا رفضي بالصمت نفسه لتوجيهها، بسبب أن المسافرين من تلك الدرجة هم من عامة الناس، فإذا كان هؤلاء هم العامة فأنا من عامة عامتهم، هكذا اقتنعت مذ نشأت ومذ وعيت، لكن تذكرة سفري هي بقيمة الدرجة الأولى وعليه يجب أن استفيد من تلك القيمة، فلا أحد يقبل صرف ما لديه من عملة صعبة بذات قيمة الدينار الجزائري المنهك في المنهار اليوم في سباق العملات بنشرات المال والاعمال الأخبارية مثلا..
لم أسألها لماذا بدلت سلوكها معي، مذ جلستُ إلى جانب البادي طويلا عريضا حتى من جلسته، صاحب القبعة الجلدية التي يرتديها رعاة البقر في أمريكا، وهي تكيل بالقسطاس أو تكاد، كلام الترحيب والود بيننا، من حسن حظي أنني كنت أجيد الانجليزية وإلا كانت فاحت مني روائح الخيبة بشكل مبكر ولما استمرت ابتسامتها نصف الرحلة الجوية من قبرص إلى باريس شعرتُني حينها في جنة عالية أتناول وصديقي في الطائرة الامريكي ألذ وأطيب المأكولات الطائرة واحتسي واشرب أحلى السوائل والعصائر، والألذ من هذا وذاك أن اظل غاطسا في عيون المها لتلك المضيفة الساحرة الخفيفة التي تلبس تنورة تعلو ركبتها المنحوتة الجميلة، ورحت أخمن لما كل هذا التركيز علي والترحيب الاكبر بصديقي الامريكي الذي لا يرفع راسه، اكثر من ذلك يندس ويختفي تحت قبعة لرعاة البقر ويرسل بصوته الخشن من تحت ظلمة القبعة تلك؟
قلت في نفسي ربما كانت قد تداركت الأمر وتذكرتني من صورتي التي نشرت مع القصة التي كتبتها عن الفتيات العاملات اللائي يعشن على ريجيم قاس من أجل أن يخدمن رساما، مخرج إشهارات أو مسافرا مثلي، منزوعات القلوب والبطون محرومات من الحب والأكل الكافي، شخصيا لم أقع في حبهن اطلاقا، أنا شرقي أحب اللحم الكثير حيا ومييتا! واتذكر أني حين كتبت عنهن لم يكن ذلك بداعي الدفاع عن قضيتهن وحقهن في أن يكن سمينات وحبيبات وأمهات، فقط لأني أحب أن أكتب عن الجراح المتلألئة والأصوات النائحة بصمت، حتى أنني أمام جمالها واهتمامها بي نسيت بطلة احدى قصصي في الطائرة التي وددت لو رويتها لها، بل نسيت القصة وعنوانها وطبعا عيب أن ادعوها لأسألها عن عنوان قصة من قصصي فالأب إذا ما نسي اسم أحد أبنائه لم يعد له من مقام لائق في هذا الوجود سوى مصحة عقلية لاستعادة الذاكرة..
في الأخير قلت لعلها على غير عادة العربيات، مهتمة بالأدب ومشاهيره في العالم ومدركة بأني عائد من مسابقة القصة القصيرة بقبرص تخص كتاب البحر الأبيض المتوسط، وتغلبني بعينيها المتوسلتان أكف عن عنتي وامتناعي المألوف في اختزال واختصار قصصي واحكي لها عن بطل القصة التي شاركت بها، ذلك العاشق بحق، الولهان البائس الذي حرق البحر مع “الحراقة” بنية العودة لا البقاء هناك في التلال الباردة والأكيد أن ما سيبهرها هو أنه كان صادقا ومضحيا حين خاطر بحايته على قارب خشبي قديم به ثقوب قاتلة يتسرب منها الماء إلى السطح، ليجلب لخطيبته زهور طبيعية وأصلية من مدينة نيس كما كانت ترغب أن تضعه كتاج على رأسها ليلة الزفاف وتزين به صحفتها على الفيسبوك وهو المسكين الذي لا يعدو راتبه نصف قيمة تذكرة السفر بالباخرة!
الفتيات يعشقن المال والجمال حقا، لكني ضد فكرة صديق لي شرس في نقد النساء لا يفتأ يذكرها، من عشقهن لا يتجاوز ذلك، فقلت له يعشقن التضحية من أجلهن ويبكين كثيرا أمام الشاشات اثناء عرض المسلسلات التركية.. فيضحك..
كان علي في الأول ان استعيد اللغة، فأنا لا أقبل في عوائدي أن أحدث عربيا بغير العربية، أشعر وكأني ابحث عن جسر بلا داع، على رض منبسطة، لكن المضيفات في الطائرات ينقطعن وهن طائرات في السماوات مع الخيال عن الارض فيبدلن اللسان فكما عطور دور الزينة الكبرى التي تلتصق باجسامهن الهيفاء لا تسمع سوى لغة المطارات الكبرى أين تتلاشى العربية وخشيت وأنا الكاتب الجزائري القادم من عمقها من صحرائها المتمكن من ثلاث لغات أن تسقط الاميازات التي نلتها بمجاورة صاحب قبعة رعاة البقر، وأظهر أمامها كزقاقي في قرية العالم الكبرى.. وأنا أهم بالاشارة اليها بأصبع شهادتي، تحرك لأول مرة كجلمود الصخر رفيقي في صف الركاب بالدرجة الأولى، ملتفتا إلي يسألني عن الساعة، رأيت وجها مستديرا ممتلئا، يكاد قطره يبلغ شبر يدي، وعينان جاحظتان تشعان زرقة كما يشع لون الصخر الصغير الرقيق من زجاج حوض السمك بالبيوت الفارهة، مع فم صغير بشفتين رقيتين لا ينسجم مه ضخامة صحن ذلك الوجه.. ثم ارتج حين رددت هلى طلبه بصوت شاخر، واخبرته بالساعة!
فقال لي:
- هل تمزح.. اتعرف مع من تتكلم؟
شعرت لأول مرة بالخوف من هذا الذي قطع لذة خيالي وأسئلتي مع المستضيفة سمراء الجميلة؟
قلت له لا.. لم أعرفك
نزع قبعته وتجلى بكامل رأسه المستدير الكبير فخيل إلي وأنا أهوي بناظري من أعلى الرأس الى شحمة أذنه كأني انزلق من القطب الشمالي للكرة الارضية.. كل شي خلف اذنيه يبدو فراغا في الطائرة، أنت مع وليام آكل عظام ولحم الخصوم في حلبة المصارعة الأمريكية..
زاد منسوب الرعب في داخلي وصرت اجتهد في كتمانه إلى أن تظهر مضيفتي عائدة من درجة الركوب الثانية أين كان يأتيني منها صوتها عاليا وهي تزعق في وجوه الركاب من العامة..
عاد الامريكي ليصيح سائلا:
- ألا تتعقل وتخبربني حقيقة الساعة وكم هي الآن؟
فرفعت معصمي باتجاه ناظره ورأى التوقيت حقيقة مثلما قلت له، ثم أمسك بقوة بمعصمي وأن احول ان استرده شعرت بعرق راحة يده وكفه الصلب الذي ينحدر من معصم شديد غليظ كسااق الفرس، عليه بساط غابي من الشعر الاشقر.. استحييت أن اصرخ وحسنا فعلت بعدما تبين لي ما جعله يمسك بمعصمي حين سألني:
- علم أي بلد هذا الذي بصحن ساعتك؟
- الجزائر
- أين يقع هذا البلد؟
- أنت بطائرته..
احمر وجهه وضرب بكفه على ركبته الغليظة وراح يشتم لويس الاندلسي وكيل اعماله الذي حجزله بمطار قبرص بالخطوط الجوية الجزائرية، ارتج الناس من صراخه واقبلت قيادة الطائرة من القمرة وراح الربان والكل يحاول تهدئته وشعرت كما لو أن الطائرة توقفت في السماء وانقطع الاتصال بها ببرج المراقبة ببارس..
فصاح الامريكي
- كيف انتهي الى السفر في طائرة (....) وأنا القادم من اسرائيل محمل ببطولة العالم في المصارعة الأمريكية، اتوقف في قبرص ثم باريس لأصل شيكاغو.. ما هذا الغباء!
وما إن هدأ وأعاد القبعة إلى رأسه عائدا للنوم.. حتى احسست بدق أصابع خفيفة على كتفي، استدرت فرأيت المضيفة الجميلة عابسة تطلب مني مرافقتها إلى زاوية بالقرب من القمرة..
- من أنت؟ ظنتنك لويس الاندلسي وكيل اعمال وليام الأمريكي بطل العالم في المصارعة الأمريكية؟
شعرت بأرضية الطائرة وقد انشقت وابتلعني الفراغ الذي نسبح فيه من على هاته الطائرة، انتهت الاوهام والاحلام وقد أكون متهما بسبب الفضيحة التي قد تتحدث عن الصحف والمواقع وتكلف الخطوط الجوية سمعتها!
- لا أنا بديع الحمداني بطل القصة القصيرة بقبرص!
بشير عمري
كاتب صحفي وقاص جزائري
تعريف بالكاتب
بشير عَمْري
كاتب صحفي وقاص جزائري
صدرت له مجموعتان قصصيتان مؤلفات أخرى في حقلي السياسة والرياضة
يشتغل على نقد الخطاب السياسي.
Post A Comment: