اشتغل الروائي علي لفته سعيد في روايته الصورة الثالثة على مادة دسمة وللغاية وهي ( الحرب ) وما أدراك ما الحرب وما تخلفه في المجتمعات .
وقد استطاع بطريقة أدبية عميقة أن يحفر بعيدا ليأتينا بحيثيات ودلالات عميقة تحتاج منا التأويل والوقوف عليها بتمعن وبدراية ورؤية ثاقبة وهذا يخالف الروائيين الذين يكتبون وكأنهم مؤرخون فثمة فرق بين الروائي والمؤرخ .
اتخذ من ( سلوى ) وهي شخصية مهمة في الرواية مادة دسمة أظهر من خلالها عدة دلالات وسلوى إحدى ضحايا الحرب بعد أن فقد زوجها رجولته وتشوه وجهه خلال الحرب وما كان من سلوى إلا الخروج تلبية لحالات فسلجية لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها ، وحين كان محسن يضاجعها ويلح عليها بالسؤال عن زوجها قالت له ( نعم أحبه .. ما زلت أحبه ولكن تنقصني أشياء ودليلها ... أنك معي على فراشه )) ودلالة ذلك أن الحب وحده لا يكفي ... ودلالة أخرى أن الحرب تخلف الدمار في المعدات والكثير من الأشياء ولكن الخسارة العظمى هي الإنسان والنتيجة أن سلوى من الخسارات الكبيرة وهي تبات بأحضان رجل غير حضن زوجها ... الآن تمعن كيف حفر الروائي ليصل من خلال السرد إلى المتلقي فعملية النتاج محصلة بين المنتج والمتلقي ،ولاحظ كيف يصف سلوى (امرأة لا تكل من الفحيح بين ذراعي ، كأن الماء قد مر الآن على جفافها ، ولذلك تحاول أن تعطي جسدها كل ما ضاع منها في دروب الانتظار )...
الآن لنقف كيف حفر بعيدا بهذا المقطع وما أراد منه ( لا توجد حرب بلا موت ، وسنقرأ بعد سنوات اكتشاف مقابر جماعية لعراقيين في الصحراء ، أتخيل المشهد، سينقلب السحر على الساحر، وستكون هذه المشاهد مرعبة لما سيحصل بعد حين ستكون هناك عناوين ستهز العالم .. )
بعد تاريخي وتحصيل حاصل لتاريخ سيأتي لاحقا وذلك تحصيل حاصل من جراء الحروب ...
الرواية فيها من الضربات ما يجعل الإنسان لأن يعيش في هذه الحياة بسلام ولكن بشرط الأخلاق وهذا نوع من حفريات الخطاب المتزن الدال على البعد الفلسفي العميق والهادف لتهذيب النفس الإنسانية ، فلو وقفنا عليه وهو يحدث صاحبه عن سلوى ويصف حاله بأنه المدمر الأكبر من الحرب حينما يقول : ( أنا من مارست مخلفات الحرب بطريقة بشعة .. فكيف سيكون الرجوع عن الرذيلة ؟ )
ثم شعوره بالذنب اتجاه زوج سلوى ضحية الحرب ليقول ( أنا أطعنه مرة أخرى طعنة ألعن من شظية الحرب التي ضربت أسفل بطنه )) لو وقفت طويلا هنا لوجدت تجسيدا عجيبا لذاته وكأنه أداة فتاكة من أدوات الحرب الفتاكة والتي أطاحت بدول كثيرة .
إن رؤية الروائي في هذه الرواية لم تكن بسيطة كما يراها البعض بسبب قلة الشخصيات أو مجريات الرواية في أماكن ضيقة فالزمان والمكان عنصران متراصان معا وقد اختزلهما الروائي في أماكن ضيقة لأنه يعي أن دلالة الحرب لا تعني سرد مجريات الدمار والقتال فحسب بل للمخيلة الأثر الكبير عند السارد وعند المتلقي .. فالبؤرة الحقيقة كانت أعمق من التجسيد لأن الحس هو الغالب عليها وهذا الحس يحتاج متلقيا واعيا .. يتعمق في حفريات المفردات ودلالاتها فعملية الوصف لها الدور الريادي في عملية الاندماج بين المنتج والمتلقي لأنها تشدنا وغالبا ما تأتي بالخلق وهنا يكمن يدور الروائي في عملية الشد والجذب (( دعني أدخن سيجارة ، ثم نراجع الأوراق فالتفاصيل كثيرة ، ربما تهديني سبيلا لنهاية الرواية ..... لاحظ الاختزال المجدي لمجمل الرواية كونه اتخذ من سلوى مشروع رواية ... ثم يستمر ليصل إلى ...ثمة أصبع يدوس بحافته على زر العاطفة ، من هنا تكمن أهمية الكتابة ... الآن تمعن في الخيال الذي يأتينا بالجمال )
إن نظرية الفن للفن تأتينا بالإبداع والجمال وتتطلب من الأديب التصوير والتجسيد محاولة منه للربط بين الخيال والعاطفة وكل ذلك يأتي من تمكن الروائي في علوم اللغة وأسرارها ودلالاتها .
إن الصورة الثالثة ما هي إلا صورة بيانية تجلت فيها مأساة الحرب وما خلفته من دمار وهي من واقع مشهود عاشه الناس لسنوات طوال وكان لزاما أن يتقبل مخلفاته وما نتج عن تلك الحروب من قصص أحيانا تفوق الخيال ..
والآلية التي أشتغل عليها علي لفته هو تجسيد الوقائع والأحداث بطريقة الروائي المنهوك بما يدور حوله مستعينا بقدراته الوصفية ومستعينا بالخيال الذي يأتينا بالجمال .
صدرت الرواية عن دار الورشة للطباعة والنشر بغداد / العراق ووقعت في 214 صفحة .. إلى مزيد من التفوق.
Post A Comment: