استيقظ اسماعيل على غير عادته، طنين المطرقة يدغدغ الخلايا الجذعية في رأسه، خراطيش الحلم وكوابيسه المزعجة التي تلازمه تبتلع رغبته في الحياة، تيار الهذيان الصاخب في الحلم يعصف به في متاهة تكاد أناه تنسلخ من جسده، صور غابرة وأشخاص مرعبة وجوه أشبه بلوحة فنية سريالية من كثرة التموجات،  السديم والعماء يلف الوجوه، الضبابية الحالكة تحجب النظر في نهاية الحلم، كوة صغيرة ينفذ معها إسماعيل نحو الحياة الواقعية ليتخلص من الحلم؛ يستيقظ، يرفع عنه الغطاء، يجلس بجانب السرير يشبك أنامل يديه ويضغط بقوة على رأسه ليخفف من طنطنة الصداع الذي لا يحتمل..
يبقى على هذا الحال لدقائق معدودة وهو يحكم قبضته على رأسه عسى أن يرحل الصداع لكن دون جدوى جسده في حاجة لرشفتين من مخدر الكوكايين حتى يعود الهدوء والسكينة وتضع الحرب أوزارها وتسقط قلاع الصداع المشتعل في رأسه، يبحث عن جرعات المخدر وهو بالكاد يقف على قدميه ودوار شديد ألم به حتى يكاد يسقط أرضا لكن رغبته في تناول جرعات المخدر تدفعه يقاوم الدوار ويبحث عنها بين رزمة ملابسه الملقاة وأرضا ومحفظة كتبه.
يتذكر أنه وضعها تحت سريره، يمد يده نحوها أصابع يده تلامس الجرعات قبس من الفرح يغمره وهو يتحسس الجرعة تلو الأخرى، الترياق الذي يخلصه من الصداع الداخلي وملجأه الآمن لحظة هروبه من تناقضات الواقع والحياة. 
يقف أمام المرآة ينظر لصورته، يتراجع للوراء مسرعا والدهشة تعلو ملامحه التي صارت غريبة عنه، يلتفت في زوايا الغرفة يبحث عن صاحب الوجه، يتوجس خيفة أن يكون رفقته هذا الغريب يستوطن غرفته دون علم بذلك، يجلس على أريكته ينظر لجرعات المخدر وهو يحكم قبضته عليها، تعود صورة الغريب تنتصب أمام عينيه، يقف على قدميه يخطو خطوتين وئيدا كأنه يحمل الجندل، يتقدم نحو المرآة بحذر، يسترق النظر من بعد ليرقب ظل الغريب لكن بلا جدوى، يتقدم خطوة أخرى ليقف منتصبا أمام المرآة يطالع وجه الغريب:  
وجه شاحب، ملامح غريبة بالكاد يتحسس قسماتها، عينان جاحظتان، جفون تئن من الوجع، فروة رأسه رثة تتدلى على جبينه، شعر لحيته كث وكأنه ركام من القش، تجاعيد كالحفر تملأ وجهه، وجه غريب يثير الرعب، ينسحب بسرعة أفزعه المشهد وسال طنين الصداع يتدفق داخل جمجمة رأسه، وهو يردد:
 من يكون هذا الغريب؟ 
هل أعرفه؟ 
هل هو صديقي؟
 ربما فقدت ذاكرتي؟
 لا اسمي هو اسماعيل؛ أبي أحمد وأمي فاطمة؛ أدرس بقسم الثانية بكالوريا علوم فيزيائية، أذكر أستاذ الرياضيات وهو ينفعل بشدة حين لا أستوعب ما يقوله ويلقي بأوراقه أرضا ويغادر القاعة يلعن الرياضيين الإغريق. مدرس الفلسفة وهو يلقي علينا دروسه الميتاواقعية، جلباب مدرس التربية الدينية الأبيض وقبعته الحمراء، زي يحضر به كل جمعة للمدرسة يلقي علينا مواعظه التي تثير فينا الخوف، أستاذ الفيزياء وهيأته النيوتونية كأنه كائن تجاوزه الزمن، ضفادع مدرس علوم الحياة وسرب من الصخور يحملها في جيوب معطفه الأبيض، مدير المدرسة وربطة عنقه العجيبة وهو يقف كل مساء كعسكري يتابع حركة الطلاب، حارس المدرسة الشيخ يحيى وقد بلغ من العمر عتيا، جارنا البقال.... 
لا لم أفقد ذاكرتي أنا هو هو. 
يقف يمشي وهو ينظر لخطواته ينتعل خفيه ويخطو خطوتين للأمام ثم يزيلهما ويمشي حافي القدمين في أرجاء الغرفة، يكتشف لأول مرة المشي حافي القدمين رغم أنه أمر مألوف لديه ولم يلاحظه من قبل، 
يقف ينظر لحاله يستطلع هيئته العجيبة، يبتسم وقد اكتشف ذاته وكأنه هو، يردد:
إنه أنا بلا شك.
لكن ما الأنا؟ 
يزيل الستار يطل من النافذة لعله يرقب شبحه، تتشابه الأقنعة على الوجوه، القبعات فوق الرؤوس كلها تسير في اتجاه واحد غريب أمر هؤلاء. يطلق الستائر ويعود
يجلس على الأريكة، منسوب الطنين يرتفع والصداع يشتد، يخرج المخدر ويتناول الجرعة الأولى، يستلقي على الأريكة تستنشق عبير الهواء وهو يحاول أن يتحسس حبات الأكسجين في خياشيمه، لكن المخدر كان قويا. 
كانت الجرعة منبه لخلايا الجسم، هو في حاجة للسم الأبيض، علت حدة الصداع أضحت تثير قلقه، تناول تباعا خمس جرعات وغفى قليلا جراء تأثير قوة الكوكايين. 
اختفى الصداع نهائيا، الكوكايين ترياق فعال يخمد نار الصداع المتقدة. 
صحا من غفوته على وقع أيادي تسحبه من فوق السرير، بالكاد يفتح عينيه الجاحظتين، يستطلع فضاء الغرفة وقد أضحى يعج بالأشخاص، الهلوسات عاودته من تأثير المخدر، امتدت يده لقنينة الماء ليروي عطشه، أخد كرسيا وجلس أمام المرآة، وجها لوجه أمام هذا الغريب الذي يسكن غرفته ووراء الوجه تصطف كل الوجوه التي يبدو بعضها مألوفا والآخر غريبا. 
انتصب وجها لوجه أمام الغريب، يهيم أن يحدثه ويتراجع. 
ينظر نحوه لكن يعتريه الخجل، فيكف عن السؤال. 
في داخله آلاف الأسئلة لم يعرف من أين مأتاها ومذهبها. 
ترى من يكون هذا الغريب؟
إنه يرتدي نفس ملابسي!! 
الوجوه التي تقف وراءه تنظر نحوي، تخزرني بنظراتها الشاحبة. 
زملائي في الفصل الدراسي، رفاقي في الحي، بائع الكوكايين، أبي واخوتي الصغار، ابتسامة أمي، نصائح أستاذتي، وجوههم تطاردني من وراء هذا الغريب الذي لا يريد أن يتحدث، أسأله ولا يجيب، يكتفي فقط بنظرات شاحبة تمقتني كأنني حشرة مقيتة مقززة المنظر، تسحلني نظراته وترمي بي في عالم غريب لا أعرف من أكون. 
ابتسم ويبادلني نفس الابتسامة؛ أحدثه ولا يبادلني نفس الحديث، غريب أنا وهو في نفس الآن غريب، صرنا غرباء داخل الغرفة، حاولت أن أتخلص منه لكن يرفض يده تمتد من وراء المرآة تحكم قبضتها على سوار يدي، يحاول أن يسحبني نحو عالمه المخيف؛ أقاوم بشدة أناني أتشبت بعالمي الذي أعيشه رغم هول الغرابة التي أعشيها وهوس فقدان الذات؛ ذاتي التي صرت لا أعرفها؛ الوجوه التي يتبعني حفيف ظلها تتدافع تملأ غرفتي... 
صوت ينبعث من خارج الغرفة ينادي: اسماعيل هل أنت مستيقظ؟ 
كان صوت أمه يكسر جدار العزلة وينسل أثيره عبر مسام الجسد يخلص جسم اسماعيل من أفيون المخدر، ينتشله من عالم يسحل ذاته في متاهات الغياب وجداول التيه، يفتح باب الغرفة برفق تدخل الأمل تمتد يدها الحنونة نحو جسد ابنها النحيف، يرتمي اسماعيل في حضن أمه هاربا من جحيم الأقنعة التي تتبعه والأيادي التي تتعقبه، من الغريب الذي يسكن غرفته ويستوطن كينونته؛ حضنته أمه بقوة وحملته بين دراعيها وغادرت الغرفة. 







Share To: